تعقيدات العلاقة الروسية– الإيرانية– التركية في سوريا

محمد سيد رصاص

سبق الرئيسان الروسي والإيراني قادة حلف الناتو في تهنئة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بعد محاولة الانقلاب العسكرية الفاشلة ضده في 2016، والتي اتهم مسؤولون أتراك واشنطن بالضلوع فيها بشكل أو بآخر. هذا التلاقي لثالوث بوتين-خامنئي-أردوغان الذي حصل في أنقرة لم يكن يوازيه يومها تلاق في دمشق، حيث تقف روسيا إلى جانب السلطة مقابل دعم تركيا للمعارضة المسلحة. وأيضاً في ليبيا، تتناقض موسكو وأنقرة وكذلك في الصراع الأذربيجاني-الأرمني، حيث تقف موسكو وطهران مع يريفان فيما تقف أنقرة مع باكو. وفي آسيا الوسطى حيث الجمهوريات السوفيتية المسلمة، يتنافس هذا الثالوث وكذلك في البلقان تتناقض مواقف موسكو وأنقرة في كوسوفو والبوسنة. وفي الحرب الأوكرانية، تدعم إيران الروس عسكرياً بينما يلعب أردوغان على الحبال الأميركية والروسية هناك. ولكن أمام هذا التناقض فيما خص دمشق، جرت محاولة لحلحلته بعد تلاقي الثالوث في أنقرة، وعلى ضوئه، وهو ما بدأ منذ قمة سان بطرسبورغ بين أردوغان وبوتين في أغسطس/آب 2016 عندما نتج عن تلك القمة مقايضة روسية – تركية لجسر الهوة بينهما في المسألة السورية، حيث غضت موسكو نظرها عن الغزو العسكري التركي بواسطة قوات من المعارضة السورية المسلحة الموالية للأتراك أو باشتراك مباشر من القوات التركية والسيطرة على شريط جرابلس- الباب- إعزاز في فترة أواخر أغسطس/آب 2016- أوائل فبراير/شباط 2017، مقابل مساعدة الأتراك على إخراج المسلحين المعارضين من الأحياء الشرقية بمدينة حلب وإرجاعها لسيطرة السلطة السورية. عندما بدأ مسار أستانة في الشهر الأول من 2017، وكان ثالوث: روسيا – تركيا – إيران بمثابة الدول الضامنة للمسار، فإن أستانة كانت هي الطريق نحو حلحلة التباعدات السورية لدول هذا الثالوث.

كان أول نتائج أستانة هو تمويت مفاوضات جنيف3 التي بدأت في الشهر الأول من عام 2016 برعاية أميركية – روسية من أجل تنفيذ القرار 2254 وكان طرفاها الحكومة السورية والهيئة العليا للمفاوضات التي انبثقت عن مؤتمر الرياض1. مقابل هذا التمويت، قادت أستانة إلى اتفاقات خفض التصعيد في الغوطة وشمال حمص ربيع 2018، وحوران في صيف 2018، حيث كان يُنقل مسلحون بالباصات الخضر إلى محافظة إدلب. وقادت إلى مؤتمر سوتشي أواخر يناير/كانون الثاني 2018، والذي
انبثقت عنه مقايضة ثلاثية بين موسكو والأمم المتحدة وهيئة المفاوضات التي انبثقت عن مؤتمر الرياض2 أنتجت لجنة دستورية من أجل الحوار بين ثالوث الحكومة والمعارضة والمجتمع المدني من أجل صياغة دستور سوري جديد، وهو ما ترافق مع اتفاق ضمني بين أطراف هذه المقايضة بأن المسار الدستوري هو المدخل إلى الانتقال السياسي بينما كان في القرار 2254 تشكيل هيئة الحكم الانتقالي هو المدخل للمسارين الدستوري والانتخابي. وعملياً، كان اتفاق 5 مارس/آذار 2020 بين بوتين وأردوغان، والذي أوقف القتال بين القوات النظامية السورية وحلفائها وبين قوات المعارضة السورية المسلحة بمساندة من القوات التركية في محافظة إدلب لشهرين سابقين، بمثابة ترجمة أخيرة لمسار أستانة.

قايضت تركيا روسيا مباشرة وإيران بشكل غير مباشر من خلال أستانة وأخذت مقابل تخليها عن المعارضة المسلحة في الأحياء الشرقية من مدينة حلب وفي الغوطة وشمال حمص وحوران، شريط جرابلس- الباب- إعزاز ومدينة عفرين ومنطقتها في شتاء وربيع عام 2018 وشريط تل أبيض- رأس العين (سري كانيه) في خريف 2019. وفي الحالات الثلاث، كانت السيطرة العسكرية التركية تقابل بصمت روسي- إيراني. ولكن ومنذ خريف 2022 عندما بدأ أردوغان بالتهديد بغزو عسكري من أجل أن يسيطر الأتراك على مناطق تل رفعت ومنبج وكوباني ووصل المنطقة الأمنية التي يريدها أردوغان جنوباً بعمق 32 كيلومتر من الحدود التركية السورية والتي تمتد غرباً من بداما في محافظة إدلب حتى رأس العين (سري كانيه) غرباً، ظهرت تناقضات الثالوث الروسي- الإيراني- التركي، حيث بدا أن الروس والإيرانين باتوا غير مستعدين لتغطية النزعة التوسعية التركية في الأراضي السورية، والتي يظهر الآن أن الأراضي التي يسيطر عليها الأتراك تجهز من أجل توطين لاجئين سوريين في تركيا فيها بعد تهجير مواطنين سوريين آخرين منها وبالذات الكرد في عفرين وليس من أجل ضرورات أمنية تركية نحو إقامة كيان سياسي سوري في منطقة تسلخ عن سوريا مماثلة لوضع لواء اسكندرون بين عامي 1937و1939 قبل ضمه رسمياً لتركيا.

هنا، ظهرت تعارضات الروس والإيرانيين ضد الأتراك، وكان إصرار السلطة السورية على انسحاب القوات التركية من الأراضي السورية كشرط مسبق لبدء محادثات التقارب السوري- التركي، وهو ما أرادته موسكو وطهران بإلحاح، كاشفاً للنوايا التركية التي بان أنها لا تتعلق بالأمن بل مجرد قناع لمخططات نحو إقامة كيان سياسي جديد في الشمال السوري يدار من أنقرة. وربما، وهذا مرجح، أن حديث مسؤولين أتراك، بأن حدود تركيا تشمل أراضي الميثاق الملي ولا تقف عند حدود معاهدة لوزان، يأتي كاشفاً للنوايا التركية التوسعية في الشمال السوري.

الآن، هناك مؤشرات كثيرة على أن مسار التقارب الذي أرادته موسكو وطهران بين دمشق وأنقرة فشل ووصل لطريق مسدود بسبب إصرار أردوغان على البقاء في الأراضي السورية، وسط تأييد روسي– إيراني لدمشق ورفض للموقف التركي. يمكن أن يكون الاعلان في يونيو/حزيران الماضي عن انتهاء مسار أستانة أحد مؤشرات هذا الفشل والانسداد. أيضاً، يمكن أن تكون الزاوية الثالثة لهذا المشهد تقارب جديد بين أنقرة وواشنطن جسدته الصفقة السويدية التي عقدها أردوغان مع الرئيس الأميركي جو بايدن من أجل رفع الفيتو التركي عن انضمام السويد إلى حلف الناتو، وهو ما يؤشر إلى توتر العلاقة بين ثالوث موسكو- طهران- أنقرة، وهو أمر غير مسبوق في الأعوام السبعة الماضية. ومن المؤكد أن هناك ترجمات ستحصل لهذا التوتر في الساحة السورية وفي ساحات أخرى

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد