أثر الخلافات الكردستانية على مستقبل كرد كركوك

شورش درويش

لا يمكن النظر إلى مشكلة كركوك في الوقت الراهن بمعزل عن استعادة جذرها التاريخيّ ومواظبة بغداد على سياسات فصلها عن كردستان؛ فقد كان لاكتشاف أول حقل نفطي في كركوك عام 1927 أثره الأكبر في تطوّر الاقتصاد في العراق والنموّ السكاني في كركوك مع دخول الحقل مرحلة الانتاج عام 1934. لكن تلك الثروة أمست بلاءً ومشكلة طاولت الوجود الكردي عبر سلسلة من عمليات الترحيل القسري والتغيير الديمغرافي الحادة والقوانين العنصرية. فطبقاً لإحصاء عام 1957، كان الكرد يشكلون ما مجموعه 48.28 في المئة من سكان المحافظة متفوّقين عددياً على العرب والتركمان والكلدوآشوريين والأرمن. غير أن جملة السياسات السابقة على هذا التاريخ أفضت إلى تغييراتٍ عميقة حفرت في التركيبة السكانية لكركوك وأحالتها منطقة «متنازع عليها» طبقاً للوصف الذي أسبغ عليها منذ عام 2004، فيما يصرّ الكرد على اعتبارها منطقة كردستانية وصفت على الدوام بأنها  «قدس الأكراد» في إشارة لمركزية قضية كركوك وإضفاءً لهالة من القداسة حول مطالبهم فيها. وسبق لنظام صدام حسين إبان مفاوضاته والثورة الكردية إلى القول بأن المطالبات الكردية بضم كركوك لمنطقة الحكم الذاتي الكردي تعني حصول الكرد على  «قاعدة لإنشاء دولة جاهزة»، بمعنى أن تبقى كركوك في يد المركز كضمانة أو رهينة لئلّا ينفصل الكرد عن العراق.

ومع تسلم القوميين حكم العراق عام 1963، تنامى الاهتمام بكركوك، الأمر الذي دفع بغداد إلى محاولة الشطب على الإحصاء الأخير والقيام بتسبيق موعد الإحصاء السكاني المقرر إجراؤه كل عشرة أعوام. بذا، أجري تعداد في عام 1965 سوى أن نتائجه لم تعلن. كما أن النتائج التي رشحت عنه وصفت بأنها جاءت لغايات سياسية وقومية. كذلك الأمر نُظر  إلى إحصاء 1977 والإحصاءات التي تلته، ذلك أن مياهاً، ودماءً، كثيرة جرت في كركوك منذ تولي القوميين، فالبعثيين حكم العراق (1968-2003 ). من جملة الإجراءات التي قام بها نظام البعث لتغيير التركيبة السكانية، جاءت قوانين إعادة ترسيم حدود المحافظة ومصادرة أراضي المزارعين الكرد ومنحها لعائلات استُقدمت من وسط العراق وجنوبه وإلغاء العقود الزراعية مع المزارعين غير العرب ورفد المحافظة بموظفين عرب واستقدام العائلات العربية مقابل حوافز مالية. لكن حرب القرارات والقوانين لم تكن كافية بحسب المنظور البعثي، إذ سيدفع كرد كركوك ثمن حملة الأنفال 1988 حين تمّ تدمير ما لا يقل عن أربعة آلاف قرية كردية كان من بينها قرى واقعة في كركوك وقتل عائلات كردية بأكملها وترحيل أخرى بشكل قسري إلى مناطق حددتها الحكومة. ومع الانتفاضة الكردية عام 1991، رحّل قرابة 120 ألف كردي عن المحافظة بشكل قسريّ بعد مشاركة كرد كركوك في الانتفاضة. وإذا كان قرار مجلس الأمن 688 القاضي تشكيل «منطقة راحة» تغطي مساحات من أراضي كردستان، تم استثناء كركوك من الحماية الجويّة. وبالتالي، تُرك الكرد لمصيرهم في مواجهة وحشية بغداد، وهو ما عنى جولة أخرى من الترحيل والقتل والتمييز ولم تتوقف سياسات التعريب الممنهجة إثر ذلك. ففي عام 1997، فرض النظام استمارة  «تغيير القومية» على الكرد والتركمان والكلدوآشوريين، ما اضطر 100 ألف، تبعاً لتقديرات، إلى تغيير قوميتهم، على أن يحظى من غيّروا قوميتهم بالمعاملة التي يحظى بها العربيّ.

قبل قليل من سقوط نظام صدام، تمكّن الاتحاد الوطني الكردستاني في 10 أبريل/نيسان 2003 من بسط سيطرته على كركوك, ساهم الأمر في عودة آلاف المرحّلين والمبعدين إلى مناطق سكناهم الأصلية، غير أن تأجيل الإحصاء السكاني استمر منذ العام 2004 ولم تعد الخريطة الإثنية معروفة للمتابعين، لتبقى النسب السكانية وفق إحصاء عام 1957 أقرب صورة لواقع تعداد سكانها الراهن وهو ما برز في المادة 13 من القانون رقم 4 لسنة 2023 التي نصت على أن إحصاء عام 1957 يجب أن يكون أساساً معتمداً لتسجيل الناخبين في كركوك.

 في المقابل، جرت آخر انتخابات لمجلس محافظتها في 2005 وحظي الكرد فيها بوضعٍ متقدّم. ومع تمدّد تنظيم داعش عام 2014، نجحت قوات البشمركه مشفوعة بقوات كردستانية، إذ شارك مقاتلو ومقاتلات العمال الكردستاني وبيشمركه الأحزاب الكردستانية الإيرانية، في الحؤول دون سقوط المحافظة التي كادت أن تلقى مصير الموصل. لكن مفاعيل استفتاء الاستقلال 2017 وما نجم عنها من حرب بين المركز ومليشيا الحشد الشعبي من جهة والبشمركه من جهة أخرى، انتهت بأن يتخلّى الكرد عن أفضليةٍ حققوها في حكم المحافظة بعد وساطة إيرانية ساهمت في وقف المعارك والحفاظ على بعض المصالح الكردستانية في كركوك التي جاءت أيضاً على حساب ومصلحة الوجود الكردي وتواجد قوات البشمركه. وتسبب هذا المسار المؤلم في تهدّم التحالف الكردستاني واتهامات متبادلة بين قطبيه السياسيين، الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني، بالخيانة والعمالة والمغامرة والتفرّد وسواها من اتهامات لا تدخل في صالح كرد كركوك خاصة، والإقليم على وجه العموم.

في الواقع، ساهمت العودة الكردية إلى كركوك منذ 2003 في استنفار الأصوات التركمانية المدعومة من تركيا والعربية التي تدعمها بغداد وإيران في التشكيك بالغاية من عودة السكان إلى مناطقهم ووصفهم عملية العودة هذه بأنها عملية «تكريد». وعليه، رفضت الكتل السياسية التركمانية والعربية إجراء تعدادٍ سكاني جديد. ولعل هذا الرفض المحلي دخل في حسابات بغداد وطهران وأنقرة التي لا تؤيد المضي في تنفيذ المادة 140 من الدستور العراقي الذي يدعو لإيجاد حل للمناطق المتنازع عليها، من خلال اعتماد الخطوات الثلاث الممتالية: التطبيع، التعداد، الاستفتاء.

في الأثناء، أبدى الكرد شيئاً من التفاؤل فيما خص إمكانية تطبيق المادة 140 مع تولي محمد شيّاع السوداني رئاسة الحكومة. إلّا أن مستقبل كركوك بات مرهوناً أيضاً باتفاق الأحزاب الكردستانية وتأطير عملها في سبيل تجديد المطالبات بحل قضية كركوك، أو على الأقل التخفيف من أكلاف الخسارة التي منيت بها منذ 2017. لكن الواقع يقول عكس ذلك، إذ لم تعد المشكلة متأتية من سياسات بغداد على الرغم من آثارها التاريخية الكارثية بقدر ما باتت مشكلة كرد كركوك والمناطق الكردستانية الأخرى «المتنازع عليها»: سنجار ومخمور وطوزخرماتو وخانقين وزمار وآمرلي وخانقين، متوقّفة على انقسام الأحزاب الكردستانية التي ستخوض انتخابات محافظة كركوك متوزّعة على ثلاث كتل: كتلة بقيادة الاتحاد الوطني الكردستاني، وأخرى بقيادة الديمقراطي الكردستاني، وثالثة تتألف من الاتحاد الإسلامي الكوردستاني وجماعة العدل الكوردستانية، إضافة إلى مشاركة حراك الجيل الجديد بمفرده. ولعل هذا الانقسام ما هو إلا جزء من انقسام أوسع يشهده الإقليم مع فشل اللقاءات الحزبية ووساطات واشنطن والدول الأوربية في الوصول إلى صيغة مقبول لحل مشكلاته الحزبية- السياسية والمالية الداخلية.

كان من المتأمل أن تكون الانتخابات المحلية العراقية مطلع ديسمبر/كانون الأول 2023 فرصة لإعادة الثقة بفكرة التحالفات الحزبية ووحدة الموقف الكردستانيّ، إلّا أن المؤشرات تذهب إلى فشل الطبقة السياسية الكردستانية في تحويل انتخابات المناطق الكردستانية خارج الإقليم، وكركوك تحديداً، لمختبرٍ لعلاقةٍ جديدة تطوى فيها صفحة الخلافات المديدة. فيما الغالب على الظن أن مزيج العناد والمكابرة وأدوار الخارج ستبقى مؤثّرة على المواقف الحزبية، وهو ما سيؤدي بالضرورة إلى تعطيل ذاتي/كردي هذه المرة لتنفيذ المادّة 140 التي بذل الكرد عام 2005 كل الجهود بغية تسطيرها في الدستور.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد