د. آزاد أحمد علي
مثلت البابوية سلطة دينية صلبة طوال قرون عديدة، وتحالفت بشكلٍ وثيق مع أشكال الحكم الفردي والسلالي عبر التاريخ، حتى واجهت الديمقراطية والعلمانية والتداول السلمي للسلطة في المراحل المتأخرة من تاريخ أوروبا، ثم تحولت الى قوة مرنة ناعمة. لكن تجسدت مفارقة التحول في الأعوام الأخيرة في عملية تخلي البابا بنديكتوس السادس عشر عن البابوية طوعاً، فشكلت صدمة،لأنها مثلت حالة تقمص بابوية صريحة لممارسة الديمقراطية. حتى انعكس على حادث وفاته في الأيام الأولى من سنة 2023، فعوم الحدث غير المسبوق معه سلوكيات جديدة خارج التقاليد الكنسية، خاصةً إجراءات الجنازة التي قام بها، وترأسها البابا الحالي في سابقة نادرة. إذ جرت العادة أن يدفن البابا، ثم يتم الانتظار حتى ينتخب بابا جديد على رأس الكنيسة الكاثوليكية. إذ لم يكن وارداً أن يلتقي بابا قديم وآخر جديد وهم أحياء. أضافت استقالة بنديكتوس السادس عشر وهو على قيد الحياة للسلطة البابوية مسحة ديمقراطية، أكثر مما تتسم به نظم علمانية مستندة في شرعيتها إلى النظام الليبرالي الانتخابي. هذا ما ظهر وتفجر في عملية تمترس رئيس الولايات المتحدة السابق دونالد ترامب، إذ لم يتخلى عن السلطة طوعاً وافترض مسبقاً أن الانتخابات مزورة قبل الانتهاء من العملية الانتخابية. حدث ذلك في سياق مفارقة تاريخية لتبادل المواقع والأدوار. فكلاهما، ترامب والبابا من أصول ألمانية. لدرجة أن احتفت بلدة البابا بنديكتوس الأصلية في ألمانيا بوفاته وثمنت سلوكه وسيرته، في حين رفضت قرية أجداد ترامب في ريف غرب ألمانيا استقباله. وكرر أنصار رئيس البرازيل المهزوم في الانتخابات الأخيرة بولسنارو نفس المشهد المسرحي لأنصار ترامب عندما قاموا بالهجوم على الكونغرس في العاصمة برازيليا، لمنع الرئيس اليساري لولا دا سيلفا الفائز في الانتخابات من ممارسة مهامه.
إن تبادل الأدوار بين منظومات السلطات الوراثية والديمقراطية، بالتوازي مع اضطراب السلوكيات الديمقراطية، باتت الظاهرة السياسية الأكثر انتشاراً في عصرنا. فتمسك ترامب وانصاره بالحكم خلافاً لإرادة الناخبين شكل صدمة للمجتمعات القانونية المدنية والديمقراطية، بنفس القدر انسحبت الحالة على الإجراءات الصعبة لانتخاب رئيس الكونغرس الأميركي طوال الأسبوع الأول من سنة 2023، حتى تم انتخاب مكارثي الجمهوري بصعوبة بسبب تعنت وممانعة تيار ترامب في الحزب الجمهوري. وبإلقاء نظرة خاطفة على عشرات الحالات الدكتاتورية السافرة والعارية، وتلك المتخفية في العالم المعاصر، فإن المشهد السياسي العالمي العام لا يوحي بتقدم الثقافة الديمقراطية ولا يبشر بترسخ ثقافة الحكم المدني الرشيد داخل المجتمعات المعاصرة.
بين هذه الحالة وتلك، بات عالمنا المعاصر يفيض بنماذج معادية للديمقراطية ترفض التداول السلمي للسلطة. فالعديد من هذه الممارسات تعبر في طياتها عن تضخم الظاهرة السلطوية وابتلاعها لكثير من القيم الديمقراطية ومبادئ العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص/ حتى بات التداول السلمي للسلطة مسألة صعبة، إلى درجة تطلبت في الولايات المتحدة في 2020 الاستعانة بحوالى عشرين ألف مسلح من قوى الأمن. أما في مناطق أخرى من العالم، تجري أنهار من الدم وتتراكم جثث الأبرياء لسبب وحيد، وهو عدم تخلي الحاكم الفرد عن السلطة وادوات الحكم.
لكل هذه الأسباب، فإن العديد من الحالات المشابهة تشجع على الافتراض بأن الديمقراطية الليبرالية فشلت في ترسيخ القيم السلمية المدنية، كما فشلت في تثبيت ثقافة انتقال السلطات بسلاسة. وتواجه الليبرالية انسداداً شديداً في مسار التطور السياسي للحوكمة المعاصرة، خاصةً خارج العالم الأورو-أميركي، لأنه في آسيا وأفريقيا من الصعب إحصاء عدد الدكتاتوريات والقادة المدنيين والعسكريين، وحتى الإداريين المتشبثين بكرسي الحكم أو المنصب الاداري. فعلى سبيل المثال لا الحصر، أعلنت وزارة الداخلية في غينيا الاستوائية قبل عدة أشهر فوز الرئيس المنتهية ولايته تيودورو أوبيانغ نغويما مباسوغو الذي يحكم البلاد منذ 44 عاماً بالانتخابات الشكلية التي جرت فيها، علماً أنه أحد عمداء الدكتاتوريات في العالم، إذ يبلغ من العمر اثنان وثمانون عاماً، كما أنه ثاني أقدم رئيس لأفريقيا، وهو أيضاً مقرب من الإدارة الأميركية، إذ تعد الولايات المتحدة واحدة من أقوى الداعمين الدبلوماسيين والماليين لأوبيانغ، على الرغم من أنه ومنذما يقرب من نصف قرن يمارس انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان.
وعلى العكس من حالات الدكتاتورية الصريحة في أفريقيا، نصادف في سياق النجاحات الآسيوية حالة ولع بالسلطة عند شخصية مدنية كان يفترض بها أن تتجنب الانجراف نحو مغانم السلطة، وهو رئيس وزراء ماليزيا مهاتير محمد الذي خاض الانتخابات الأخيرة عندما بلغ من العمر 97 عاما أواخر 2022، بهدف العودة مجددا إلى كرسي الحكم. لا شك أن مهاتير محمد يعد أحد القادة الآسيويين الذين نجحوا في إدارة دولاب اقتصاد بلادهم وتسريعه نحو التنمية وتحقيق الرفاه، لكنه دخل موسوعة غينيس للأرقام القياسية ليس من هذه البوابة، وإنما لكونه أكبر رئيس وزراء كان في المنصب عندما انتخب في 2018 لولاية جديدة. ويبدو أن تاريخه لم يشفع له، كأحد الشخصيات السلطوية الناجحة على الصعيد العالمي، إذ أمضى 53 عاماً في كرسي الحكم حقق خلالها نجاحات كبيرة لدولة ماليزيا. وهو يعد أكبر رجل ظل فترة طويلة في أعلى هرم السلطة التنفيذية كرئيس للوزراء، إذ لم يتجاوزه أحد في مدة الحكم كرئيس للوزراء في باقي حكومات العالم. كما اتصف بأنه أكبر رجل ظل ينافس على كرسي رئاسة الوزراء وهو على وشك أن يبلغ المئة من العمر. ليس ثمة أي تفسير لسلوكه وحافزه للترشح سوى أنه لم يكتفي، ولم يتشبع من استنشاق أوكسجين السلطة. لكن على ما يبدو أن الهستيريا وجنون العظمة الذي يولده النجاح أحياناً قد لا يختلف عن خصائص الاستبداد والدكتاتورية إلى درجة أن حالة الولع بكرسي الحكم سببت خيبة أمل كبيرة لكل الأطراف، حتى رد الناخب – المواطن الماليزي على جنون عظمة مهاتير من خلال عدم الاستجابة لطموحه المزمن للبقاء في الكرسي، وبالتالي خسر مقعده في دائرة لانكاوي في البرلمان.
وفي موازاة عالم المناصب التنفيذية، ثمة حالة تشريعية نادرة قد تدخل سجل غينيس أيضاً، وهي حالة رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري الذي مازال في كرسيه أيضاً منذ أكثر من ثلاثة عقود، حتى لم يعد أحد من المعاصرين يعلم من كان يشغل هذا الكرسي قبله، سوى المؤرخين المختصين!
ملوك السلطوية الجديدة
نستنتج من هذه الحالات والنماذج العديدة والغريبة ونعيد قراءة رمزيتها باختصار أن البنى السياسية المعاصرة أفرزت حالة من الولع بالسلطة متعددة الأوجه والمستويات، وهي حالة عابرة للأعمار والثقافات. لقد أنتجت طبقة سياسية أشبه بملوك السلطوية الذين ليس لديهم القدرة ولا حتى إمكانية تصور ترك كرسي الحكم، إلى درجة أنهم في كثير من الحالات يعملون على توريثها (انتخابياً) لأبنائهم. ويبدو أن مغانم السلطة في عالمنا الاستهلاكي المعاصر هائلة الحجم ومتنوعة، إلى درجة أن كرسي السلطة يتقمص بل يستعبد جالسه ويعيد صياغة وتوليف سيكولوجية عائلة الحاكم بأسرها لتنسج علاقة ولع حميمية مع الكرسي. وطغت هذه الظاهرة السلطوية الجديدة على باقي سلوكيات هذه النخب، بل طغت على باقي سمات عالمنا المعاصر، وتحولت السلطوية إلى ثقافة سياسية واسعة الانتشار
تعولمت تماماً في ظل النظام الليبرالي. فلم تعد (السلطوية الجديدة) ظاهرة مرهونة ومستوطنة بين طيات ثقافة أنظمة الاستبداد العاري فقط، وليست منتجاً يخص العوالم المتصارعة بعنف خارج أوروبا والولايات المتحدة، بل باتت هذه السلطوية الوجه الآخر للفساد الإداري والسياسي. وهي في الوقت نفسه مرض مزمن من أمراض الاجتماع البشري في هذا العصر، حتى تحولت إلى فيروس يصيب مجتمعات وأجيال بكاملها لأنها ليست مرهونة ومتوقفة على الولع بالمناصب العالية، ولا مرتبطة بامتيازات كبيرة فحسب، بل أضحت حالة تلازم المجتمعات في كثير من المواقع والمستويات المتدنية. ولعل أسوأ حالاتها ما أصابت تلك الجماعات المنظمة التي ادعت الثورية والاشتراكية، كما ادعت وروجت لاحقاً للنضال في سبيل الحريات وحقوق الإنسان، والتداول السلمي للسلطة. فكم صادفنا وقد نصادف شخصيات هنا وهناك، ظلت تصرخ باستمرار في سبيل التغيير والديمقراطية، لكنها ظلت ملتصقاً لمدة طويلة بكرسي اعتباري قد لا يدر مالاً ولا امتيازات.
موضوعياً، السلطوية الجديدة المستفحلة هي نتاج النظام النيوليبرالي المهيمن عالمياً، وهي ابنة النظام الاجتماعي المختل غير العادل. كما أن للسلطوية علاقة معقدة بخلجات النفس البشرية وفردانيتها المتأزمة. فهي مرتبطة بوشائج وثيقة مع الدوافع النفسانية المضطربة كالخوف من الحياة بعيداً من منصة صناعة القرارات. وهي في الوقت نفسه نتاج فوبيا الموت بعيداً من الكرسي ومتعلقة بالخوف من النهايات، وكذلك التوجس من الموت البريء. الموت كإنسان ومواطن غير حاكم أياً كانت صيغة الحكم، أو شكل الكرسي، مردوده أو طراز زخرفته.