المصالحة بين أنقرة ودمشق.. أردوغان بعد الانتخابات ليس كقبلها

خاص/ المركز الكردي للدراسات

طوال العام الماضي، لم يهدأ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن تكرار نيّته القيام بعملية عسكرية جديدة في شمال سوريا، إذ سمحت التدخّلات العسكرية السابقة لتركيا بفرض سيطرتها على جزء من شمال غرب سوريا وأخرى في شرق البلاد ضمن المنطقة الخاضعة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية.

كان الملف السوري حاضراً بقوة في الخطاب السياسي الداخلي التركي، إذ دارت معظم النقاش حول الصراع نفسه ودور تركيا في سوريا وأزمة اللاجئين. والأهم من كل ذلك، ورقة الأمن القومي التركي المكسبة في السياسة الداخلية التركية، والتي تفترض تشكيل الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، متعددة المكوّنات العرقية والثقافية والدينية، تهديداً على الأمن القومي التركي.

خلال حملته الانتخابية، أبدى أردوغان مرونةً بالغة لجهة تبنّي نهج جديد تجاه دمشق وحماسةً للقاء الرئيس السوري بشار الأسد بعد ما يقرب من عقد من القطيعة. لكن هذا الحماس سرعان ما تراجع بعد فوزه والوقوع تحت تأثير ازدياد الحاجة الروسية لأنقرة مع تواصل حربها في أوكرانيا.

في هذه الورقة، نسترجع المسار الزمني لمحاولات التطبيع بين أنقرة ودمشق خلال المراحل الانتقالية التي مرّت بها الأزمة السورية، مع استعراض احتمالات انجاز هذا التطبيع كلّياً أو جزئياً ونقاط الالتقاء والاختلاف بين الجانبين، مع السيناريو الأكثر ترجيحاً في المستقبل القريب.

دمشق وأنقرة قبيل الانتخابات المصيرية في تركيا

شهدت العلاقات التركية-السورية، التي بدأت باستعادة عافيتها مع زيارة الرئيس التركي الأسبق أحمد نجدت سيزر لدمشق في يونيو/حزيران 2000، تحسّناً كبيراً مع وصول حزب العدالة والتنمية الإسلامي إلى الحكم لتأخذ العلاقة طابع التعاون، إذ غدت دمشق بوّابة تركيا إلى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، مقابل توسّط أنقرة بين الأسد والدول الغربية وصولاً إلى رعايتها للمفاوضات السورية الإسرائيلية غير المباشرة.

سرعان ما تعززت هذه العلاقة لتأخذ طابعاً استراتيجياً في السياسة والاقتصاد مع توقيع الجانبين لاتفاقية التجارة الحرّة التي ضمنت انسيابية حركة البضائع أولاً، وتبعتها اتفاقيات إلغاء تأشيرات الدخول ومذكّرات التفاهم بين الوزارات في كلا البلدين واتّفاقيات التوأمة بين المدن الكبرى.

لكن مع انطلاق الربيع العربي ونجاح جماعة الإخوان في قلب المشهد في عدد من الدول العربية لاسيما في تونس ومصر بشكل خاص، تغيّرت السياسة التركية تجاه دمشق لتتحول من استراتيجية التعاون إلى فرض الشروط والإملاءات على الأسد بضرورة إشراك الإخوان في الحياة السياسية، وهو ما عارضته دمشق، قاطعةً شعرة معاوية بينها وبين أنقرة.

لعبت تركيا دوراً حاسماً في الملف السوري وشاركت في الصراع منذ البداية، إذ سعت أنقرة لإسقاط نظام الأسد خلال المراحل الأولى من الصراع، وهو السعي الذي استمر حتى عام 2015. ثم تبع ذلك سياسة جديدة تركزت على التفرّد بالسيطرة على المعارضة السورية سياسياً وميدانياً وموازنة الدور الروسي في سوريا، لتركز لاحقاً سياساتها وقوّتها العسكرية على القضاء على الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، والذي شكّل الأساس لجميع المداولات التركية وحملاتها الانتخابية وعملّياتها العسكرية.

وعلى الرغم من مبادراتها السياسية، فشلت تركيا في منع تشكيل إدارة مستقلة في شمال وشرق سوريا. نفّذت أنقرة أربع عمليات عسكرية بين أغسطس/آب 2016 ومارس/آذار 2020 في سوريا، ما أتاح لها التمدد في ريف حلب الشرقي وريفي الرقة الشمالي والحسكة الغربي بعد أن كان الوجود التركي مقتصراً على إدلب وغرب حلب.

في أعقاب العمليات العسكرية التركية في سوريا، نجحت أنقرة في فرض نظامٍ جديد على المنطقة بعد عام 2016، إذ وفرت الدعم لمجموعات مسلّحة تم إعادة تشكيلها تحت مسمّى الجيش السوري الحر قبل أن يعاد تسميتها لاحقاً باسم الجيش الوطني السوري في عام 2017، غلبت عليها العناصر التركمانية، مع تطعيمها بعناصر من تنظيم داعش اضطرت إلى الفرار بعد هزيمة التنظيم على يد «قسد».

تحت هذه المظلّة، قدمت تركيا التدريب والدعم والرواتب لمقاتلين كانت قبل مدّة وجيزة تتحجج بالقتال للقضاء عليهم كتبرير لاحتلالها كل من الباب وجرابلس. علاوة على ذلك، سعت أنقرة إلى إرساء أسس الإدارة والحكم في مناطق احتلالها من خلال إنشاء مؤسسات مدنية ومجالس محلية وخدماتية في قطّاعات التعليم والصحة والبنية التحتية والطاقة، رابطة إياها بالمؤسسات الحكومية التركية في الولايات الحدودية في كل من عنتاب وهاتاي (لواء اسكندورون)، وكلس وأورفا.

السياسات التوسّعية التركية تحت عنوان محاربة داعش بداية ومن ثمّ محاربة التطلّعات الكردية لاحقاً، أكسبت أردوغان أوراق قوّة استغّلها بشكل واسع في السياسة الداخلية بشكلٍ أساسي، وفي فرض نوع من التوازنات بين حلفاء أنقرة الشرقيين في كل من طهران وموسكو والغربيين في الأطلسي والاتحاد الأوربي من جهة أخرى.

لكنّ فاعلية هذه السياسات بدأت بالتراجع. وظهر ذلك بشكل جلي في الانتخابات المحلية لعام 2019 عندما بنت المعارضة التركية جزءاً من حملتها الانتخابية على تحدّي سياسات أردوغان الخاصة بسوريا في ملفات الميدان والسياسة واللاجئين، ما مثّل أحد أسباب فوزها ببلديات المدن الكبرى مثل إسطنبول وأنقرة وإزمير.

دفع هذا النجاح بالمعارضة التركية إلى تبنّي النهج ذاته في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الأخيرة في مايو/أيار الماضي، وهي التي أصدرت في 30 يناير/كانون الثاني هذا العام بيانها الانتخابي الشامل الذي بلغ 242 صفحة في ثلاثة أقسام أساسية: حكم القانون والأزمة الاقتصادية والسياسة الخارجية، التي قامت على الدعوة إلى تطبيع العلاقات مع دمشق وعودة اللاجئين وتقييد منح الجنسية وسحب الجنسية في حالات محددة والالتزام باحترام وحدة أراضي وسيادة الدول المجاورة ومنها سوريا واعتبار الأسد وحكومته شريكاً محتملاً للتعاون المستقبلي، مقترحةً البدء في مناقشات مع الحكومة السورية وأصحاب المصلحة الإقليميين الآخرين، باستثناء «المنظمات الإرهابية»، لحل الصراع السوري وفقاً لقرارات الأمم المتحدة.

بالمقابل، باشر الرئيس التركي حملته الانتخابية بتصعيد لهجة التهديد بشّن عملية عسكرية واسعة النطاق على الأراضي السورية. في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2022، قال وزير الدفاع التركي السابق خلوصي أكار للقادة العسكريين على الحدود العراقية إن تركيا مستعدة لـ«إكمال مهامها» ضد وحدات حماية الشعب (YPG)  في سوريا. كما هدّد الرئيس التركي بأن قوّاته «ستهاجم الإرهابيين من الأرض في الوقت الأنسب»، مكرراً قناعته ببناء  «ممر أمني» في سوريا على طول الحدود التركية، معيداً ذكر ذلك في مكالمته الهاتفية مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

على الرغم من تأكيدات الجهات المتّهمة بالوقوف وراء انفجار 13 نوفمبر/تشرين الثاني في إسطنبول سواء تلك الصادرة عن حزب العمال الكردستاني أو «قسد» التي أثبتت بالأسماء والأدلة زيف الادعاءات التركية، إلا أن أنقرة واصلت إجراءاتها الأمنية والعسكرية الانتقامية العنيفة والتي أسفرت عن مقتل العشرات في مناطق الإدارة الذاتية، بحجة وقوف تشكيلاتها العسكرية وراء التفجير، واصفاً الرئيس التركي هذه الاعتداءات بأنها «مجرد بداية» لعملية أكبر.

في الوقت ذاته، حرص أردوغان، الذي تعامل مع حقيقة بقاء الأسد في السلطة ببراغماتية كبيرة، على انتزاع ورقة دمشق من يد المعارضة قبيل الانتخابات، فتوالت التصريحات الإيجابية الصادرة عنه وعن وزرائه ومسؤوليه الحزبيين، في محاولة لتهيئة الجو العام الداخلي والخارجي من أجل خطوات تحسين العلاقات التركية السورية.

بعد اتصالات على مستوى الاستخبارات، التقى وزيرا الدفاع التركي والسوري في موسكو في 28 ديسمبر/كانون الأول 2022 في أول اجتماع على المستوى الوزاري بين البلدين منذ انهيار العلاقات في عام 2011. وعقب هذا الاجتماع، أعرب أردوغان عن رغبته في الاجتماع في نهاية المطاف مع الأسد بحجة أنه ينبغي تنحية الأمور الشخصية جانباً لما فيه خير بلاده. وعلى الرغم من أن الأسد لم يستجب لهذا الطلب وقاوم الضغط الروسي للقيام بذلك، عقد اجتماع وزاري للخارجية في 10 مايو/أيار بمشاركة وزيري الخارجية الروسي والإيراني، وهي الورقة الأهم التي انتزعتها أنقرة من دمشق تحت ضغط موسكو، التي باتت أكثر حاجة إلى أردوغان وبلاده كقناة دبلوماسية واقتصادية مع الغرب غداة حرب أوكرانيا.

بالمقابل، رأت دمشق في تطبيع علاقاتها مع تركيا مكسباً سياسياً، مع تفضيل التعامل مع تركيا بقيادة حزب الشعب الجمهوري أكثر من حزب العدالة والتنمية، لا سيما بالنظر إلى أن كيليجدار أوغلو أكثر استجابة لمطالبها بسحب القوات التركية من سوريا مقارنة مع موقف أردوغان الرافض لهذا المطلب.

لكن رغبة الأسد الداخلية بخسارة أردوغان لم تنعكس على الواقع السياسي والحراك الدبلوماسي بين الجانبين، إذ اضطرت دمشق إلى التقيّد بمسار حلفائها في طهران وموسكو بشكلٍ خاص، لكنها بقيت مصرّة على شروطها للتطبيع مع أنقرة بالاختراق الذي حققته مع عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية في 7 مايو/أيار الماضي. 

المصالحة كأحد أوراق الدعاية الانتخابية

مع فوز أردوغان بولاية رئاسية ثالثة وتفوّق تحالفه على مجموع التحالفين المعارضين في المقاعد البرلمانية، توضّح بأن كلماته المعسولة عن المصالحة مع سوريا كانت مصممة للدعاية الانتخابية باعتبار مواقف المعارضة من ملفي التطبيع وإعادة السوريين كانت تحظى بشعبية، ما دفعه إلى تبنّيها.

بدأ أردوغان فترته الرئاسية الثالثة تحت ضغط العديد من التحديات. تشهد البلاد حالة من التدهور الاقتصادي الذي قد يتسبب بضغطٍ سياسي كبير على نهج أنقرة الخارجي. حاولت أنقرة من خلال اتفاق الموافقة على انضمام السويد إلى حلف الناتو إعادة ترتيب علاقاتها داخل الحلف، وتخطي التوترات مع الولايات المتحدة، بعد اختيار الأخيرة لقوات سوريا الديمقراطية شريكاً رئيسياً لها في حربها ضد تنظيم داعش في سوريا.

لذا، اتّجهت سياسات أردوغان ما بعد الانتخابات نحو المقايضة لتخفيف التوتر مع الغرب وحلف الناتو بشكلٍ خاص مقابل «تفهّم شركاء أنقرة الغربيين لمخاوفها»، وهي الجملة التي أعتاد الدبلوماسيون الأتراك تكرارها في كل مناسبة للتعليق على مسار العلاقات التركية-الغربية.

بالمقابل، باتت أنقرة ترسل إشارات بشأن استعدادها لإعادة تقويم علاقاتها مع موسكو، وهو ما يرجح بتعثّر مسار التطبيع مع حليف موسكو في دمشق، والتي من المرجّح أن تزعج شركاء تركيا في الغرب دون حصولها على مكاسب إضافية في المستقبل القريب على الأقل.

صحيح أن مبادرة المصالحة جاءت من تركيا، إلا أن توقّعات الرئيس التركي للمصالحة باتت غير واضحة. تخلّت تركيا عن سياستها لتغيير النظام في سوريا منذ عام 2016، لكنها حافظت أيضاً على خطابها الإعلامي القائم على ضرورة تنحّي الأسد من أجل إيجاد حل للمعضلة السورية.

تتركّز السياسات الأمنية التركية مؤخّراً على منع تدفق المزيد من اللاجئين من السوريين الذين يعيشون في ظروف غير مستقرة في شمال غرب البلاد، وإضعاف، إن لم يكن كسر، سيطرة قوات سوريا الديمقراطية على الشمال والشرق.

بالنظر إلى الهدفين السابقين لا يبدو التطبيع مع دمشق حالياً مفيداً في تحقيقهما، أو أحدهما على الأقل. فمع عجز الحكومة السورية عن تأمين أبسط مقومات الحياة للمواطنين المستقرين في المناطق الواقعة تحت سيطرتها، فإن احتمال مساهتمها في تخفيف مخاوف تركيا من حدوث موجات نزوح جديدة يكاد يكون معدوماً.

أما بالنسبة للخطة التركية لمحاربة قوات سوريا الديمقراطية من خلال دمشق والقضاء على الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، فإن الوضع الاقتصادي والعسكري للأخيرة، مضافاً إليها علاقة التحالف الدولي بقيادة واشنطن مع شركائها الميدانيين، تمنع الحكومة السورية من خوض أي مغامرةٍ من هذا القبيل، خاصةً أن نتائجها الكارثية يمكن أن تنسحب على المزيد من التدهور الاقتصادي والمعيشي، وسط تباطؤ الانفتاح العربي اقتصادياً عليها وتململ الحلفاء من الاستمرار في الدعم المقدّم على شكل هبات، في ظل انتفاء ما يمكن أن تقدّمه دمشق لهم بعد أكثر من عقدٍ من الحرب الأهلية.

قد يشكّل العمل بالتنسيق مع دمشق لتحقيق هدف القضاء على الإدارة الذاتية دافعاً لتقاربٍ محدود معها، لكن أنقرة لا ترى في الخطوات التي يمكن أن تتخذها دمشق ضد الإدارة الذاتية كافية لتنفيذ شروطها. لذا، فهي تفضل التعاون معها في بعض الخطوات بدلاً من المصالحة الشاملة. على سبيل المثال، من دون الانسحاب من سوريا، يمكن لأنقرة أن تتيح لدمشق سيطرة كاملة على الطريق السريع (M4 ) الاستراتيجي الواصل بين حلب واللاذقية، مقابل مطالبة الأخيرة بمواقف أكثر صرامة ضد الإدارة الذاتية.

إن مجرد الإشارة إلى إمكانية التطبيع بين أنقرة ودمشق حوّل ميزان القوى بين الإدارة الذاتية ودمشق لصالح الأخيرة. سيسمح التحسّن الطفيف في العلاقات التركية السورية لدمشق بتوسيع ضغوطها على الإدارة الذاتية بدعم من حلفائها في طهران وموسكو المناهضين لحلفاء «قسد».

خطة التغيير الديموغرافي بدلاً من المصالحة

لكن لا يزال الرئيس التركي يعتقد أن هدفه في كسر الإدارة الذاتية يمكن تحقيقه بعيداً عن دمشق من خلال الهندسة الديموغرافية القائمة على إعادة اللاجئين السوريين إلى المناطق ذات الأغلبية الكردية على طول الحدود التركية السورية. وهي الخطة التي بدأت أنقرة بتطبيقها من خلال إعادة توطين أعداد صغيرة من اللاجئين في المناطق المحتلة، مع إبقاء خيار شن عملية عسكرية خامسة على جدول أعمالها كوسيلة أساسية لضمان سير خطّتها دون عوائق أمنية يمكن أن تتسبب بها القوى العسكرية الرافضة لاحتلال مناطقها، كما الحال بالنسبة لقوّات تحرير عفرين على سبيل المثال لا الحصر.

إذاً، تكمن المشكلة الرئيسية في مسار المصالحة بين أنقرة ودمشق في التعقيد الذي يصاحب تلبية توقعات ومطالب كلا الجانبين. تعلن  دمشق عن شرطين مسبقين للمصالحة: إنهاء الدعم التركي للمعارضة وانسحاب القوات التركية من الأراضي السورية. بالنظر إلى حقيقة كون تركيا الداعم السياسي والعسكري الأساسي للمعارضة السورية، فإن الوفاء بهذه الشروط المسبقة سيؤدي إلى استسلام فعلي للأسد.

كل هذا لا يعني أن المصالحة مع دمشق باتت خارج أجندة أردوغان. لا تزال تركيا راغبة في حل قضية اللاجئين وتسعى لتقويض الاستقلال السياسي في شمال وشرق سوريا. وبينما يمكن القول إن قضية اللاجئين تحظى ببالغ الاهتمام حالياً، خاصةً مع اقتراب موعد الانتخابات المحلية في مارس/آذار المقبل، فإن إعادة السوريين إلى المناطق التي تحتلها تركيا تظل الطريقة العملية الوحيدة للتخفيف من أعدادهم داخل تركيا، الأمر الذي يتطلب وجوداً تركياً أكثر ديمومة في سوريا، وهو ما يتعارض مع مطلب دمشق الرئيسي وبالتالي يضعف احتمالات المصالحة التركية معها.

بالمقابل، قد يستمر التعاون في رفض كل من دمشق وأنقرة للإدارة الذاتية في دفع جهود المصالحة بينهما، في ظل استبعاد تغيّر سياسة تركيا تجاه الإدارة الذاتية، بالنظر إلى أن أردوغان فاز في الانتخابات الماضية بحملة قومية مفرطة أدت على وجه التحديد إلى إذكاء نار المشكلة الكردية في تركيا، وهو يخطط لمواصلة هذه الصيغة الفائزة حتى الانتخابات المحلية لعام 2024.

من المحتمل أن يضاعف أردوغان سياساته القومية المتطرفة التي تصف أي نشاط سياسي يحظى بمشاركة كردية بأنه يدعم الإرهاب، وبالتالي  ترى في أي حل للقضية الكردية مساساً بأمنها القومي ولا علاقة له بالحقوق والديمقراطية. في هذا السياق، سيظل إضعاف وتفكيك الإدارة الذاتية أولوية إستراتيجية بالنسبة لأردوغان.

خلاصة

سيدفع شعور أردوغان بانتزاع النجاح من بين فكي الهزيمة وتأمين الرئاسة والبرلمان الموالي من خلال خطابه المرتكز على التباهي القومي والمناهض للكرد والمعادي للعلويين والأقليات الأخرى، على الرغم من فشله في التعامل مع الزلزال وعواقبه والتضخم المتصاعد والانخفاض المدمِّر لقيمة الليرة التركية، إلى المزيد من التشدد في هذا الخطاب كأفضل وسيلة لضمان الفوز بالبلديات الكبرى في الانتخابات المحلّية المقبلة، ما يعني استمرار السياسات الرافضة للانسحاب من الأراضي السورية، كونها تربط احتلالها للجغرافيا السورية بمقتضيات الحفاظ على الأمن القومي التركي.

كانت الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الأخيرة أحد الأسباب الرئيسية التي جعلت أردوغان حريصاً جداً على لقاء الأسد. من خلال القيام بذلك قبل الانتخابات، أراد الرئيس التركي الإشارة إلى أنه قادر على حل مشكلة اللاجئين من خلال التسوية مع خصمه في دمشق، وهو وعد قدّمته أيضاً المعارضة التركية. من ناحية أخرى، لم يرغب الأسد في مدّ يد العون لأردوغان في الانتخابات. ولكن الآن بعد انتهاء الانتخابات، لم يعد يشعر بالضغط لإحراز تقدّم في التطبيع مع الأسد. على العكس من ذلك، نظراً للمواقف المتضاربة لكلا البلدين، من المغري الافتراض بأن اللقاء المنتظر بين الزعيمين لن يعقد في قادم الأيام. لنتذكّر أنه في اليوم التالي لفوز أردوغان في الانتخابات، أعلن المتحدث السابق باسم أردوغان، إبراهيم كالين، أن مثل هذا الاجتماع غير متوقع في أي وقتٍ قريب.

يمكن اعتبار تصاعد خطاب الكراهية ضد اللاجئين السوريين في الداخل التركي من قبل تحالف السلطة والبلديات التابعة له بأنه بات يتماهى مع خطاب المعارضة، وأن خطوات تضييق الخناق المتّبعة من قبل البلديات التابعة للسلطة والمعارضة باتت متماثلة، بالتوازي مع القرارات الحكومية المقيّدة لحركة اللاجئين السوريين والترحيل التعسفي. كل ما سبق يمكن اعتباره أدوات الحكومة التركية الجديدة على درب تسريع تطبيق خطة التغيير الديموغرافي التي ترى فيها أنقرة وسيلة ناجعة وبديلة عن المصالحة مع دمشق.

يمكن أن تتحول المصالحة بين تركيا وسوريا إلى تحالف مناهض للإدارة الذاتية، لكن مع النظر إلى التأثير المحدود لمناهضة دمشق لمشروع شمال وشرق سوريا، فإن التنازلات التركية في هذا الملف ستكون محدودة أيضاً. وبالتالي، فإن انسحاباً تركيا قريباً في ظل عجز موسكو عن فرض رؤيتها للملف السوري على أنقرة مع استمرار الحرب الأوكرانية يبدو مستبعداً جداً. والأقرب، أن يتم انتزاع مواقف سورية روسية إيرانية مناهضة للإدارة الذاتية مقابل خطوات تركية جزئية. وقد يمثّل فتح بعض الطرقات وتسليم بعض المناطق على طول طريق ( (M4 السقف الأعلى للمبادرات التركية.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد