سياسات “العالم القديم” .. هل الولايات المتحدة بحاجة إلى التحرر من الناتو؟

حسين جمو

نشرت وكالة الصحافة الفرنسية الشهر الماضي تقريراً ميدانياً عن الفيلق الدولي للدفاع عن أوكرانيا والذي يضم مقاتلين أجانب تطوعوا للإنضمام إلى القوات الأوكرانية ضد الغزو الروسي. التقى مراسل الوكالة بعسكري أميركي سابق يتمركز في على جبهة خاركيف، و وجّه هذا العسكري رسالة عاجلة لإنقاذ الموقف الحرج الذي هم فيه. لم يوجه الرسالة إلى الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي، ولا إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)! كان النداء موجهاً إلى شخص وليس مؤسسة؛ قال العسكري الأميركي: «إيلون ماسك؛ إذا كنت تسمعني فنحن في حاجة إلى مساعدة»، متوجهاً إلى المدير العام لمجموعة «تسلا موتورز» الأميركية. هل نسي هذا المقاتل المتطوع وجود حلف الناتو ليتذكّر إيلون ماسك؟ لا يمكن تأكيد أو نفي ما كان يدور في تفكير هذا العسكري، و المرجح هكذا يفكر العديد ممن حوله أيضاً؛ فالصورة في العالم المحجوب عن الإعلام لا تقول الكثير عما إذا كان حلف الناتو كيان له موقعه في وجدان هؤلاء الناس، خاصة أن الحلف استمر متماسكاً إلى اليوم لا لحاجة استراتيجية إليه إنما لأنه متطفل على زمن ليس زمنه.

تعطيل المسارات الجديدة

تواجه المسارات الجديدة في السياسات الغربية، وتحديداً الأميركية، معضلة مصدرها مؤسسات أمنية وعسكرية راسخة منذ حقبة الحرب الباردة و ما زالت تؤدي الوظائف التي كانت لها أيام الحرب الباردة، و على رأس هذه المؤسسات حلف شمال الأطلسي (الناتو).

هناك فرق دبلوماسية وأمنية وعسكرية كاملة في كافة الدول الأعضاء، بما في ذلك الولايات المتحدة، تمنع أي تقليص لدور الحلف في السياسات الدولية، حتى حين انتفت الحاجة لوجود الحلف، استراتيجياً. و تجلى انتفاء الحاجة في العام 2010 في الوثيقة الاستراتيجية للحلف التي اعتبرت روسيا “شريكاً استراتيجياً”، وأيضاً خلال إعلان الحرب على تنظيم داعش الإرهابي حيث تم تشكيل التحالف الدولي ضد داعش في 19 سبتمبر 2014 و ضمّ 85 دولة، من بينها دول حلف شمال الأطلسي، غير أن المهمة ذاتها لم تكن أطلسية، لأن الأخيرة بقيت – وما زالت – مقيّدة أساساً بالدور التعطيلي التركي، وكان على التحالف الدولي القيام بمهام اعتبرتها تركيا تتعارض مع أمنها القومي بسبب شراكة التحالف الدولي مع قوات سوريا الديمقراطية.

في أيار/ مايو الماضي، استبق الأمين العام لحلف الناتو، ينس ستولتنبرغ، قمة مدريد للحلف، وقال إن استراتيجية الناتو الجديدة، لن تعتبر روسيا شريكا استراتيجيا: “منذ عام 2010 تغير العالم بشكل جذري. وهذا يجب أن ينعكس في المفهوم الاستراتيجي الجديد”.

وبالكلام عن ستولنبرغ، ينبغي عدم التقليل من شأن البيروقراطية العملاقة التي تعتاش على مؤسسات الحرب الباردة في رسم السياسات الاستراتيجية اليوم، أو بمعنى آخر، سعي هذه البيروقراطية إلى تعطيل المسارات الجديدة للسياسات ذات البعد الدولي طالما لا تتوافق مع قواعد الحرب الباردة مثل حلف الناتو. و اقترب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من هذه القناعة أيضاً في تشرين الثاني 2019 حين شنت الدولة التركية عدوانها العسكري (نبع السلام) عبر احتلال سري كانيه/رأس العين و تل أبيض. فقد تنبه ماكرون إلى أن حلف الناتو لم يعد يقوم بأي وظيفة استراتيجية سوى أنه بات مطيّة للدولة التركية في الشرق الأوسط، فأطلق تصريحه الشهير بوصفه حلف الناتو أنه “ميت سريرياً”.

تكررت انتقادات ماكرون للحلف في حزيران/ يونيو 2020 على خلفية اعتراض البحرية التركية سفينة فرنسية كانت تشارك في مهام لـ”الناتو” في البحر المتوسط. حينها نظمت وسائل الإعلام التركية حملة ضد الرئيس الفرنسي على شكل تقارير تم ربطها بتصريحات لماكرون حول التدخل التركي في ليبيا وشرقي المتوسط. و أحضرت وكالة أنباء الأناضول آراء خبراء ليتحدثوا في خط واحد مرسوم من الدولة التركية، و هو أن الانتقادات المتكررة من قبل فرنسا لحلف شمال الأطلسي، هو محاولة من باريس لتقويض عمل الحلف، بسبب عدم سماح الأخير لها باتباع سياسة “أنا المسؤول الوحيد عن أوروبا”.

الناتو كمظلة للجرائم ضد الإنسانية

في ميزان المنفعة، تركيا هي الدولة الأكثر استفادة من الخدمات التي يقدمها حلف الناتو لها، سواء في حربها ضد حزب العمال الكردستاني، أو توفير الحصانة لتركيا في تحرشاتها بأعضاء آخرين من الحلف، أو تنصيب صواريخ “باتريوت” في قاعدة إنجرليك جنوب تركيا. إن وجود حلف ناتو متفكك يخدم التطلعات التركية في استخدام الحلف ضد دول خارج الحلف، وكيانات تصنفها تركيا في خانة الأعداء. و الواقع لا تنفك مؤسسة حلف الناتو والدوائر السياسية المرتبطة بمدرسة الناتو الأمنية، إلا وتخلق الفرص لتوفير الغطاء لتركيا في تحركاتها الخارجية، وتضع هذا الغطاء في قاموس الناتو الخاص بالحرب الباردة: حيث تكون روسيا موجودة؛ ففي كل من ليبيا وسوريا وأرمينيا وأفريقيا، تدور صفقات بعقلية كارتيلات الحرب الباردة. في هذه الأماكن التي تنتشر فيها القوات التركية بتفاهم وتوافق مع روسيا ضمن توزيع الحصص في الساحات الخارجية، يدعم الناتو هذا التوسع التركي الخارجي وفق قواعد الحرب الباردة، أي أن تركيا عنصر توازن في الساحات المتداخلة مع روسيا. على هذا الأساس، ما زال حلف الناتو ينظر إلى الميليشيات السورية الإجرامية التابعة لتركيا على أنها تؤدي مهمة حيوية لحلف الناتو، وإنْ لم يكن هناك بيان رسمي يدعم ذلك، لأنه بعقلية الحرب الباردة تجري الأمور بدون بيانات ولا مواقف مصرحة.

حين احتلت تركيا رأس العين وتل أبيض وشردت أكثر من 300 ألف من السكان، نددت معظم دول الناتو بالعملية التركية، لكن مؤسسة حلف شمال الأطلسي كان لها رأي آخر ضد مواقف كل الدول الأعضاء، وهذه واقعة غريبة مرت بدون ملاحظات جديرة بالاهتمام، فكيف تعارض كل دول الحلف العملية التركية، بما في ذلك الولايات المتحدة التي قامت عملياً برعاية الاحتلال التركي من خلال الرئيس السابق دونالد ترامب، ومعارضته عبر المؤسسات، بينما الناتو نفسه يرحب ويشجع الاحتلال؟ بعد يومين من إطلاق أردوغان العملية في 9 أكتوبر 2019، تحدث الأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرغ خلال مؤتمر صحفي عقده مع وزير الخارجية التركي مولود جاوش أوغلو، بالعبارات التالية:

– تركيا لها مساهمات كبيرة جداً في دحر تنظيم داعش، والناتو استخدم القواعد العسكرية التركية لمكافحة داعش ولذلك نحن ندعم تركيا في محاربتها للإرهاب.

– تركيا تساهم في حماية الاستقرار في المنطقة وتنفذ عملية عسكرية وتكافح الإرهاب.

– تركيا من أكثر دول حلف الناتو تعرضاً لخطر الإرهاب، وهي الدولة الأكثر استقبالاً للاجئين.

بمقارنة مواقف حلف الناتو مع مواقف الدول الأعضاء الرئيسية، هناك فجوة من غير المعروف من يقوم بملء هذه الفجوة غير المرئية. وهذه الفجوة تأخذنا إلى سؤال، ليس فقط في السياق التركي، إنما في مجمل طبيعة هذه المؤسسة الكلاسيكية العجوز التي تعود لحقبة إطلاق أولى مكوكات الفضاء، والسؤال هو: من يصنع سياسات حلف الناتو؟

عالم متغير.. هيكل قديم 

نجحت مؤسسة حلف الناتو، بعد سنوات من تعلقها بأطياف العالم القديم زمن الاتحاد السوفييتي والكلتة الاشتراكية، في إعادة توظيف نفسها كحصن لا بديل عنه للعالم “الأورو-أطلسي”. فقد منح الغزو الروسي لأوكرانيا كل ما يحتاجه الحلف لينهض من “الموت السريري” إلى حلبة القتال.

في القمة الأخيرة التي اختتمت بتاريخ 29 يونيو 2022 في مدريد، وقّع زعماء الناتو على “المفهوم الاستراتيجي” للحلف، وهو برنامج عمل يحدد أهداف المنظمة ومهامها للسنوات العشر القادمة، والتي تم تعديلها للمرة الأخيرة في 2010. وفقاً للوثيقة الاستراتيجية، اتفق قادة الحلف على عقيدة أمنية جديدة تعد انقلاباً على العقيدة السابقة، وتنص العقيدة الجديدة على أن روسيا هي “التهديد الأكبر والأكثر مباشرةً” للحلف، و أن الناتو لم يعد يرى روسيا شريكاً استراتيجياً. أما بخصوص الصين، فإن الحلف عد سياسات الصين التي تميل إلى استخدام القوة والتهديدات تحدياً لمصالح الناتو وأمنه وقيمه.

إذاً، وفق نظرية حلف الناتو فإن روسيا تمثل تهديداً مباشراً والصين تمثل تحدياً فقط.   

إذا ما راجعنا نقاط قوة الناتو على خريطة الجغرافيا السياسية عبر القارات، فإن منطقة المحيط الهادي هي الخاصرة الرخوة لمؤسسة الناتو العسكرية، وليس من مصلحة هذه المؤسسة، في كل الأحوال، المساهمة في نقل ساحة التهديد الاستراتيجي إلى خارج دائرة تواجده، وبالتالي تمثل روسيا عدواً مثالياً يضمن الحفاظ على وظائف حلف الناتو، على عكس الصين التي يتطلب تصنيفها كتهديد إلى أن ينقل الحلف تركيزه إلى ساحة التنافس الكبرى في المحيط الهادي، وهذا خارج ناطق اختصاصاته، كما أن هذه الاستدارة تفوق قدرة الناتو على المدى القريب حيث لا يمتلك بنية للانتشار في هذه المنطقة. ولأن الولايات المتحدة تدرك هذا الأمر فإنها تعمل على بناء تحالفات جديدة مستقلة عن الناتو في المحيطج الهادي و شرق آسيا.

رغم ذلك، وجدت البيروقراطية الفكرية للحلف صياغة ملائمة، وإن كانت تضليلية في مضمونها؛ فقد حشرت اسم الصين ليس كتهديد للهيمنة الأطلسية إنما كمساند لروسيا وفق الصيغة التالية: “الشراكة الاستراتيجية العميقة بين الصين وروسيا ومحاولتهما تحجيم النظام العالمي القائم على القواعد تتعارض مع قيمنا ومصالحنا”.

تأتي هذه الصيغة رغم أن الصين تتصدر الاستراتيجية الأميركية لاحتواء هذه القوة العالمية الصاعدة؛ ففي آذار 2021 كشفت إدارة بايدن عن وثيقة الدليل الاستراتيجي المؤقت للأمن القومي الأميركي، والتي تناولت موضوعات ارتبطت بمشهد الأمن العالمي وأولويات الأمن القومي الأمريكي. ووفق الوثيقة، “أصبحت الصين المنافس الوحيد القادر على الجمع بين قوتها الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية لتشكيل تحدٍ مستدام لنظام دولي مستقر ومنفتح”. الوثيقة ذكرت الصين بالاسم 15 مرة، وروسيا 5 مرات فقط، و حين ذكر حلفاء الولايات المتحدة لمجابهة التحديات الكبرى، جاء حلف الناتو إلى جانب أحلاف أخرى في طور التشكل، لم تذكر هذه الأحلاف لأنها لم تكن قد تأسست رسمياً، مثل تحالف “كواد” الذي يضم الولايات المتحدة والهند وأستراليا واليابان، إنما حددت الوثيقة أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية ضمن “أعظم الأصول الاستراتيجية للولايات المتحدة”.

الغرق في العالم القديم 

تدرك مؤسسة الناتو جيداً أنها ليست “الرقم واحد” حين يكون التحدي الرئيسي للمنظومة الليبرالية بقيادة الولايات المتحدة هو الصين. الناتو لن يكون “البطل” في المحيط الهادي وبحر الصين الجنوبي، لكنه يمكن أن يحظى بالبطولة إذا نجح في صناعة العدو التقليدي الذي تفهمه و هو روسيا. لذلك، لدى مقارنة الدليل الاستراتيجي الأميركي، وكذلك وثيقة الأمن القومي الأميركي، مع وثيقة حلف الناتو الصادرة الأسبوع الماضي، فإن الحلف لم يعكس الاستراتيجية الأميركية، بل ما يفيد استمراريته كبيروقراطية عسكرية، لذلك جاءت الصين في استراتيجية الناتو من منظار الصراع مع روسيا وليس كقوة لها رؤيتها العالمية المستقلة عن موسكو ومتفوقة عليها. لذلك لا ينبغي قراءة الغزو الروسي لأوكرانيا من تاريخ 24 شباط 2022، إنما البحث في التاريخ الذي انتفت فيه الحاجة إلى هذا الحلف من الساحة الدولية، ولا ينبغي كذلك التجاهل الكلي للرواية الروسية في أنها اضطرت إلى خوض هذه الحرب اضطراراً.

الآن، مع الأزمة العالمية في أوكرانيا، أقرّ حلف الناتو تعزيز وجوده العسكري على أبواب روسيا وإطلاق آلية التوسيع لضم السويد وفنلندا، في خطوة اعتبرتها موسكو “عدائية” و”مزعزعة للاستقرار”. وأعلن الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ: “إنها إعادة التنظيم الأكبر لدفاعنا الجماعي منذ الحرب الباردة”.

إن الاستراتيجية الأميركية في المنافسة مع الصين تتعرض إلى عملية انجراف تقودها مؤسسة الناتو نحو العالم القديم الذي تعرفه، وبالقواعد القديمة للعبة. من الصعب – وفق أسلوب المرافعات القضائية – إثبات أن الناتو شيء مختلف عن الولايات المتحدة وأنهما ليسا الشيء ذاته، غير أن إثبات أنهما واحد تنقضه الاستراتيجيات المتناقضة لكل منهما. ليس هناك أي جهد يحتاجه المرء لمعرفة أن الصين والمحيط الهادي هي الساحة التي تشغل التفكير الأميركي منذ فترة الرئيس السابق دونالد ترامب، ولا جهد يحتاجه المرء لمعرفة أن حلف الناتو، بدوله الثلاثين، حلف له هوية مرتبطة بضفتي المحيط الأطلسي، و هو لا يفقه بعد طبيعة الصراع في المحيط الهادي ولا يمتلك وجوداً فيزيائياً في تلك المنطقة ليقوم بالمهمة الكبيرة التي تغني الولايات المتحدة عن تحالفات إقليمية ستصبح مع الزمن بديلاً عن “الناتو العجوز” المتمركز في أوروبا و لا يستطيع تمييز شيء سوى صورة روسيا، ولذلك، حتى حين يتحدث الحلف عن القلق تجاه الأنشطة الصينية في القطب الشمالي وأفريقيا (نلاحظ أن الناتو يختار انتقاد الصين في الساحات التي له يد طولى فيها)، فإن ستولتنبرغ، وهو بمثابة مدير بيروقراطية الناتو، يعتبر مثلاً أن نهضة الصين “تقدم فرصاً” خاصة لاقتصادات وتجارة الدول الأعضاء في الحلف، و إنه أمرٌ مهم أن يتم الاستمرار في التعامل مع الصين وفهي “ليست خصماً للناتو“.

مع الانسياق الأميركي، خاصة الإدارات الديمقراطية، وراء استراتيجات حلف الناتو والمشاركة في صناعة هذه الاستراتيجيات، و عدم خلع نظارة هذا الحلف، بل عدم التخلص من الاعتقاد أن هذا “الحلف- الفخ الذاتي” أداة لانقياد أوروبا و إضعاف روسيا، فإن الولايات المتحدة ستفقد آخر فرصة لها للموازنة بين المحيطات حيث أن الأطلسي (محيطاً وحلفاً) لم يعد صانع التاريخ. وكلما غرقت واشنطن في العالم القديم، كلما أصبحت فرص إدارة التنافس الخلاق مع الصين أضيق وأكثر ملاءمة للمواجهة العسكرية.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد