مخيلة الاستعمار التركي وعقيدة “الوطن الأزرق”

فرهاد حمي

منذ إحكام حكومة اليمين المتطرف قبضتها على مقاليد الدولة التركية عقب الانقلاب الفاشل، يهمين مشروعان استعماريان على السياسة الخارجية بشكل واضح. الأول، إخراج  وثيقة “الميثاق المليّ” من سياقها التاريخي المبرم عام 1920، والتي كانت تهدف إلى عقد الشراكة مع الكرد في كل من سوريا والعراق وتركيا وفق صيغة “الاستقلال الذاتي“، وتحويلها إلى عقيدة استعمارية وتوسيعية بغية تفتيت جغرافية الكرد وتحطيم إرادتهم السياسية والوجودية. الثاني، مساعي أنقرة في نسف كل الاتفاقيات الدولية في البحر المتوسط وإيجة بغرض توسيع حدودها البحرية عبر مشروع “الوطن الأزرق” على حساب السيادية اليونانية والقبرصية في المقام الأول.

في هذه المادة، سوف نسلط الضوء على وجه الخصوص على عقيدة “الوطن الأزرق” أو ما يعرف باللغة التركية”Mavi Vatan”، منطلقين من فكرة أن التهديدات الدبلوماسية التركية والمناورات العسكرية المكثفة حيال الحدود اليونانية في بحر إيجة شمالاً والقبرصية جنوباً، لا تدخل فقط في خانة الخلافات السياسية على الحدود البحرية والمصالح الاقتصادية الناجمة من استغلال حقول الطاقة، والتي قد تدفع المنطقة صوب حرب محتملة فحسب، بل تكمن وراءها عقيدة استعمارية تروجها الطبقة اليمينية المتطرفة، والتي تتغذى من تزييف التاريخ وتشويه الحقائق القانونية، تماشياً مع تسخير القوة والتوسع العسكري.

تم تبني عقيدة “الوطن الأزرق”، التي تسترشد بعقيدة قانونية وجيوسياسية بغية توسيع مجال بحري للسيادة التركية، من قبل رجب طيب أردوغان عقب تحالفه مع الحركة القومية ومناصريّ أوراسيا بعد الانقلاب الفاشل. في حين، شكّل الاتفاق التركي مع “حكومة الوفاق” الليبي لإنشاء حدود بحرية مشتركة بمثابة مؤشر على ترسيخ هذه العقيدة. إذ تشير هذه العقيدة إلى منطقة بحرية هائلة عبر نصف شرق البحر المتوسط، وتتجاهل الجروف القارية والجزر اليونانية والقبرصية والقسم الشرقي من جزيرة كريت. يعتقد فريق أردوغان- بصورة انتهازية- أنه مع تفجر الحرب الروسية – الأوكرانية، أن أنقرة قادرة على أن تستغل موقعها الجغرافي وحدودها البحرية، وذلك عبر حضورها في حلف الناتو من جهة، وتحسين علاقتها مع روسيا والصين وإيران من جهة أخرى. لكن مع ذلك يبقى “الوطن الأزرق” نسخة أوراسية – قوموية، تعمل بالضد من المصالح الغربية، ومنتوج أفكار جنرالات بحرية تركية متطرفة في المقام الأول، كما تلقى اهتمام وأهمية محورية بين النخب العسكرية والسياسية والاقتصادية والفكرية. وحسب رايان غينجراس، أستاذ في المدرسة العليا البحرية ومؤرخ لدراسة الإمبراطورية العثمانية والجمهورية التركية، فإن:” الأصوات البارزة في تركيا ترى أن منطقة بحر إيجة جبهة محتملة في صراع بالوكالة ضد الولايات المتحدة مثل مؤيدي بوتين في حربه ضد الناتو وأوكرانيا”.

على الرغم من رواج مفهوم “الوطن الأزرق” بين الأوساط الاكاديمية المتطرفة مثل، نجدت بامير، خبير تركي مختص في مجال الطاقة، والاكاديمي والصحفي حسن أونال الذي لديه اهتمام وثيق بهذا المشروع، إلا أنّ الضباط البحرية هم من كانوا مؤسسي هذا المشروع، ويأتي على رأسهم، سونر بولات، وهو ضابط عسكري كان يعمل في القيادة البحرية واعتقل في قضية “المطرقة” عام 2011 ومن ثم أفرج عنه لينضم فيما بعد إلى حزب الوطن بقيادة دوغو برنجيك. وكذلك الادميرال رمضان جيم جوردينيز الذي كشف لأول مرة في يونيو عام 2006 خلال ندوة في مركز قيادة القوات البحرية التركية عن عقيدة “الوطن الأزرق”، وهو قومي متطرف، معادي للغرب، ومهووس بالتفوق البحرية التركية في المناطق، التي تميزت بها خريطة الوطن الأزرق، اعتقل أيضاً في قضية المطرقة، ويكتب حالياً مقالات مستمرة في عمود جريدة ايدلينيك التابعة لحزب دوغو برنجيك، حيث تم تطوير أفكاره في كتاب بعنوان ” كتابات عن الوطن الأزرق“. وأيضاً جهاد يايجي، الذي كان رئيس أركان القوات البحرية قبل فترة وجيزة، وأحد أركان سياسة أنقرة حيال ليبيا، وكان يقف وراء مذكرة التفاهم بترسيم الحدود مع “حكومة الوفاق”، قبل أن يطيح به أردوغان عام 2020. عموماً، تجتمع هذه الأطراف على تعزيز النزعة القومية المتطرفة بصبغة أوراسيّة ومعادية للغرب.

عند النظر إلى أهمية  تصدّر “الوطن الأزرق” على المشهد السياسة الخارجية التركية، وباستناد من النخبة الحاكمة في أنقرة، ينبغي قراءته أولاً من زاوية المتغيرات الداخلية، وتحديداً عقب الانقلاب الفاشل، وتطهير أجهزة الدولة من اتباع فتح الله غولان، الذين كانوا قريبين من الغرب وبمثابة “كابوس” لمنظريّ الوطن الأزرق وفق ما ينقله الباحث الفرنسي، أوريلين دينزو المختص في العلاقات الاستراتيجية والسياسة الخارجية التركية.

لاحقاً، ومع تفكيك التحالف بين غولان وأردوغان وانهيار عملية السلام، مصحوباً بالانقلاب الفاشل، وإغلاق ملف محكمة “المطرقة”، تمكنّت جماعة الوطن الازرق، وغالبيتهم من مناصري باهجلي “السيادة القومية التركية” ودوغو برنجيك “النزعة الأورواسية” من التسلل إلى دوائر السلطة، ووضع ملف الوطن الأزرق كأحد أهداف محورية في السياسة الخارجية التركية والدفاعية، الأمر الذي عزز من النزعة العسكرية والتحول القومي للخطاب الرئاسي والتحالف بين أردوغان وباهجلي وبرنجيك. سيما أنّ الرؤية السيادية التركية التوسيعية، التي يروجها أردوغان اليوم حيال الحدود البحرية والبرية، تحظى بشعبية كبيرة في تركيا، بما في ذلك بين الأوساط المعارضة.

 أسطورة الوطن الأزرق

ينقل الكاتب التركي، جنكيز أكتار على لسان جيم غوردينيز، وهو أحد أقطاب الوطن الأزرق، انتقاداته ضد ما يسميه بالنخبة الجمهورية التركية- يقصد فريق كمال اتاتورك- لكونها كانت ليبرالية للغاية تجاه اليونان وقبرص أبان تأسيس الجمهورية وترسيم الحدود القومية، وأنها فشلت في الاستجابة بشكل مناسب لما يسميه بالأمر الواقع في الثلاثينيات فصاعداً. كما يتهم الوزارة الخارجية بالتساهل في التعامل مع هذه القضية إلى هذه اللحظة، إذ يعتبر غوردينيز ومناصري الوطن الأزرق أن الوضع الراهن يشبه “معاهدة سيفر الثانية”، وذلك في إشارة إلى المعاهدة التي قسمت تركيا بين القوى الاستعمارية بعد هزيمة الامبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى. وحسب روايتهم، فإن الذي يجري حالياً على الحدود البحرية في المتوسط وبحر إيجة من قبل الغرب واليونان، أشبه بتلك المحاولات التي قام بها حلفاء اليونان والغربيون لتقويض سيادة تركيا بين عامي 1919 -1922.

وتذهب سرديتهم وفق تصريحات بعض الضباط السابقين مؤخراً إلى أبعد من ذلك، بأنّ اليونان لم تعدل عن رغبتها في إنشاء “اليونان الكبرى”. كما تستحضر هذه السردية المتخيلة فكرة مفادها أن أثينا لا تزال تحمل فكرة الاستيلاء على اسطنبول والسواحل الغربية، وإعادة تأسيس حكم مسيحي. تنبع هذا الفكرة الأخيرة، حسب رؤيتهم، من مشروع ميغالي، الذي كان يروج له التيارات القومية اليونانية في القرن التاسع عشر بغية الخروج من نير الحكم العثماني، وتأسيس دولتهم المستقلة على الحدود البحرية. متجاهلين عن أن السياسة الخارجية اليونانية كانت قد تخلت عن هذه المشاريع الافتراضية بعد حريق أزمير والهزيمة أمام جيوش مصطفى كمال أتاتورك.

بالعموم، يقدم هذا الخوف من اليونان، والمصحوب بارتياب كبير للعالم الغربي من قبل التيار الأوراسي والقومي، مبررات لأردوغان من أجل إنشاء منطقة بحرية خالصة. إذ يرى مناصري هذا التيار أن هذا ذات مصلحة استراتيجية تسمح للأتراك بالدفاع عن أنفسهم إذا لزم الأمر، وكما يعتبرون أن تقاسم المياه مع ليبيا جزءاً أساسياً من الأمن القومي، الذي من شأنه أن يمنع إقامة منطقة بحرية قبرصية- يونانية مشتركة. ومن أجل ذلك يقترح غوردينز صيغته السحرية من إبرام صفقات بالقوة والتي تتناسب تماماً مع سياسة أردوغان القسرية. ومن الأمثلة على ذلك تنقيب تركيا عن الهيدركربونات داخل المنطقة الاقتصادية الخالصة لقبرص، والانتهاك شبه اليومي للمجال الجوي اليوناني، وإبرام صفقة مع حكومة غير شرعية في ليبيا. أي خرق كل المعاهدات الدولية المختصة في ترسيم الحدود البحرية وفق منطق سياسة القوة والتوسع.

الانقلاب على المعاهدات الدولية

من المعلوم، أن الحدود الحالية بين اليونان وتركيا في بحر إيجة، هي نتاج سلسلة متعرجة من الحروب والاتفاقيات. حيث أصبحت مع توقيع معاهدة لوزان عام 1923 غالبية الجزر المنتشرة في بحر إيجة تابعة لأثينا، ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية، تنازلت إيطاليا عن جزر دوديكانيز، والبالغ عددها 12، لليونان عبر معاهدة باريس عام 1947. وبعد غزو تركيا لقبرص عام 1974 وتقسيمها إلى شطرين، تصاعدت التوترات أكثر في بحر إيجة عبر رفض الممثلون الاتراك السيادة الاقليمية لجزر اليونان، ولا سيما تلك الجزر التي تمنع تركيا من الوصول إلى قاع بحر إيجة، بغرض التنقيب عن النفط تحت الجرف القاري. رد رئيس وزراء اليونان في ذلك الوقت بالقول “إن السياسية الخارجية التركية دخلت مرحلة توسيعية جديدة” وخاصة عقب احتلال قبرص.

تبعاً للمعاهدات الدولية، فإن الجميع يتفق على أن سيادة اليونان على تلك الاراضي غير مشكوكة فيها، لكن أنقرة تستغل تفسير خاطئ لتلك المعاهدات، سيما من جهة الاشتراط أن تكون تلك الجزر منزوعة السلاح، لتدفع بطائراتها على الدوام بانتهاك المجال الجوي اليوناني فوق تلك الجزر. وهو نمط قد تكثف طوال السنوات الماضية وإلى هذه الحظة.

كان يهدف حزب العدالة والتنمية، مع اعتلاءه سدة الحكم في البلاد، إلى تسوية النزعات وفق معايير الاتحاد الأوربي، لا سيما تسوية النزعات مع اليونان. حيث أيد خطة الأمين العام للأمم المتحدة، كوفي عنان عام 2004، التي كانت تنص على إعادة توحيد شطري قبرص وفق نموذج فيدرالي، بخلاف جلى التصريحات الصادرة من أنقرة في الوقت الحالي، التي تشدد على حل الدولتين. هذا التحول الدراماتيكي في الخطاب يمكن اعتباره بأنه التوجه من النزعة الليبرالية صوب المركزية القومية المتطرفة. في ذلك الحين، كانت السلطات القبرصية بصدد تحديد المنطقة الاقتصادية الخاصة بها. لهذا الغرض استندوا إلى مبادئ اتفاقية الامم المتحدة لقانون البحار عام 1982، هذه المقاربة القانونية على وجه الخصوص ما تثير مخاوف منظريّ الوطن الأزرق، وذلك تحت مزاعم التضحية بالمصالح القومية التركية مقابل “عضوية مفترضة” في الاتحاد الاوروبي، وتبعاً لذلك، ضغطت أنقرة حينها على قبارصة الأتراك من أجل المطالبة بحقوقهم البحرية، لا سيما المنطقة الاقتصادية الخالصة بهم.

بموازاة ذلك، يرفض مناصري “الوطن الأزرق “خريطة إشبيلية“( كما تبين في الصورة أدناها) التي رسمتها عام 2000 جامعة إشبيلية في اسبانيا تحت رعاية الاتحاد الاوروبي، والتي تعتبر بمثابة الوثيقة الجغرافية الأهم لرسم الحدود البحرية في شرق المتوسط. حيث تطرق كل من لويس سواريز ودي فيفيرو وكارل لويس في بحثهم بعنوان” منظور جيوسياسي.. البحرية الاوروبية  وتوسيع الاتحاد الأوروبي” إلى الحدود الشرقية البحرية لكل من اليونان وقبرص، وأشارت تلك الخريطة المستندة إلى اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، إلى أحقية اليونان وسيادتها على الجزر، والتي تشمل منطقة اقتصادية خالصة بطول 370 كلم. كما تشير الخريطة بأن حدود اليونان هي حدود الاتحاد الاوروبي، وجرفها القاري يبدأ من جزيرة “ميس” ويمتد جنوباً حتى منتصف البحر المتوسط. وفي هذه النقطة بالذات يزعم مناصريّ الوطن الازرق اليوم بأن أنقرة غير ملزمة لتطبيق بنود اتفاقية قانون البحار، كونها لم توقع عليها، وبالتالي، يجدر المطالبة بتحقيق نظام خاص وجديد للمنطقة، بما يتناسب مع الطموحات التركية الاستعمارية، بسبب تزايد أهمية الطاقة في البحر المتوسط.

 

الغطاء الجيوسياسي

فتح اكتشاف حقل غاز كبير “ساكاريا” في البحر الأسود شهية الجنرالات البحرية. انتهزت بدورها أنقرة التنافس الجيوسياسي بين روسيا والصين وحلف الناتو، لإعادة تأكيد مطالبها الإقليمية في شرق البحر المتوسط، باعتبارها منطقة توريد النفط والغاز الطبيعي، لا سيما بسبب تزايد الطلب الأوروبي على تنويع مصادر الطاقة التي تستخدمها موسكو كسلاح سياسي ضد الاتحاد الاوروبي. ومع ذلك، فإن الفكرة التي تروجها السياسة الخارجية التركية ليست فقط استغلال هذه الموارد، ولكن أيضاً التحكم في ممرات العبور البحرية صوب أوروبا. وتشكل هذه الطموحات جزءاً من رؤية جيوسياسية أوسع، إذ يرى مؤيدي الوطن الأزرق بأن هذه الفكرة ستؤدي دوراً مشابهاً لقناة السويس عبر ربط البحر المتوسط والشرق الأوسط بالمحيطين الهندي والهادئ، وبالتالي ستشكل نقطة عبور هامة لطرق التجارة عن طريق الشحن البحري الكبير العابر للقارات، والتي ستربط أوروبا بالمحيط الهندي وجنوب شرق آسيا. لكن كل ذلك يمر من بوابة قبرص التي تقع في قلب المنطقة الاقتصادية الخالصة الي تطالب بها أنقرة.

يعتبر اللواء جهاد يايجي أن قبرص أهم جزيرة في المتوسط من الناحية الجيوسياسية والجيوستراتيجية، مشدداً أن قلب الشرق الأوسط سيكون منظماً حول قبرص، وخاصة سوريا ولبنان وإسرائيل والعراق ومصر. وعليه، يطالب منظريّ الوطن الأزرق بوجوب الدفاع عن المنطقة البحرية المستهدفة، وأن تكون الأساس للسياسة الخارجية، بحيث تدور في فلكها كل السياسات الداخلية المتعلقة بالسيادة والسياسات الخارجية التي تتحرك وفق منطق القوة والتوسع.

على ضوء ذلك، ستشكل المغامرة التركية في البحر المتوسط بمثابة دق طبول الحرب مع الدول البحرية المجاورة على الدوام، خاصة في ظل مساندة موسكو لمطالب حكومة اليمين المتطرف الحالي، ودخول كل من الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا على الخط بهدف دعم المطالب اليونانية والقبرصية. الأمر الذي يرجح وقوع صدامات عالمية طيلة السنوات القادمة جراء المزاعم الاستعمارية التركية، وهو ما سنفرد له حلقة خاصة في المادة القادمة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد