فشل روسيا الذريع في إنعاش اقتصادها

هاورد جاي شاتز

سيؤدي غزو روسيا لأوكرانيا و ما سيتمخّض عن ذلك من فرض عقوبات ضدها إلى تدهور الاقتصاد الروسي، ولو سلكت روسيا نهجاً اقتصادياً بنّاءً على مدى العقدين الماضيين لكان مستقبلها أكثر إشراقاً مبني على الإصلاحات الاقتصادية بحيث يتم تعزيز علاقة روسيا مع البلدان المتطورة من الناحية الاقتصادية، بالإضافة إلى توطيد نفوذها و قوتها وأصبحت محط ثقة في العالم. لكن عوضاً عن ذلك، شيطنت روسيا الغرب و حدّت من نفوذها و قلّصت قوتها ناهيك على أن ثقة العالم بها و سمعتها أصبحت بالحضيض.

أدرك زعماء روسيا السابقون قيمة تعزيز الاقتصاد الروسي وضمان مكانته في النظام الاقتصادي العالمي. ففي أواخر القرن ١٧ سعى الإمبراطور بطرس الأكبر إلى تحسين علاقة روسيا مع أوروبا، حيث دأب إلى نقل العاصمة من موسكو إلى مدينته الجديدة سان بطرسبورغ الملاصقة لأوروبا و تطل على بحر البلطيق مما أدى إلى تسهيل حركة التجارة و التواصل مع أوروبا.

في أواخر القرن التاسع عشر و بدايات القرن العشرين قبل نهاية عصر الإمبراطورية في روسيا بفترة بدأت الأخيرة سلسلة من الإصلاحات الاقتصادية. وفي عهد وزير المالية الأسبق الكونت سيرغي ويت ولاحقاً رئيس الوزراء سرّع من وتيرة العمل في إنشاء خطوط للسكك الحديدية، كما توجهت لدعم الصناعة عبر تقديم التمويل اللازم لها، و كان لتجديدها معاهدة تجارية مع ألمانيا دور في جذب المستثمرين الأجانب إليها. علاوة على ذلك، عزز رئيس الوزراء الأسبق بيوتر ستوليبين الإصلاحات الاقتصادية و أبرزها زيادة حقوق الملكية الزراعية و القطاع الخاص إلى أن اُغتيل عام ١٩١١.

مع اندلاع الثورة البلشفية عام ١٩١٧ أدت إلى تدهور الاقتصاد الروسي و تسلق الشيوعيون هرم السلطة و جعلت موسكو من جديد عاصمة لروسيا، فضلاً عن جعل روسيا متقوقعة على نفسها اقتصادياً.

كان لانهيار الاتحاد السوفييتي عام ١٩٩١ دافعاً لروسيا للعودة من جديد لإصلاحاتها الاقتصادية، والاندماج بشكل أكبر في النظام الاقتصادي العالمي كدولة مسالمة تتبنى مبدأ حسن الجوار، فضلاً عن تأمين الفرص الاقتصادية و الحرية بشكل نسبي لمواطنيها.

كانت التغييرات في السياسة الاقتصادية لروسيا دراماتيكية في تسعينيات القرن الماضي حيث تحولت روسيا إلى اقتصاد السوق. ورغم ذلك، نتيجة لسوء الإدارة الاقتصادية و السلوك الهدّام للمستشارين الروس، بالإضافة إلى الأزمة المالية تحولت تسعينيات القرن الماضي إلى فترة مذلة و صادمة حيث انخفض الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للفرد بنسبة 42 ٪ من عام ١٩٩٠ إلى عام ١٩٩٨. ومن رحم هذه الأزمة الاقتصادية التي عصفت بروسيا سطع نجم فلاديمير بوتين الذي وعد قبل أن يصبح رئيساً عام ٢٠٠٠ بانتشال روسيا مما هي فيه و إرساء الاستقرار و مواصلة الإصلاحات.

في بداية توليه للرئاسة سعى بوتين لتحسين النظام الاقتصادي و القانوني عبر سلسلة من الإجراءات، مستفيداً من إصلاحات سوق المنتجات في تسعينيات القرن الماضي. ألا أنه بمجرد بدأت أسعار النفط بالارتفاع تم التخلي عن فكرة الإصلاحات الاقتصادية، حيث قفز السعر السنوي لخام برنت من 24.99 دولاراً عام 2002 إلى 96.94 دولاراً عام 2008، والتي شهدت أزمة مالية عالمية. و باعتبارها واحدة من أكبر مُصدّري النفط في العالم ارتفعت عائدات النفط في روسيا وأصبح نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي 7.3 ٪ بشكل سنوي من 1999 إلى 2008.

على مدى العقدين الماضيين، قُدّمت العديد من خطط الإصلاح للروس التي كان من شأنها زيادة الإنتاجية والنمو وتنويع الاقتصاد، فضلاً عن تحسين المستوى المعيشي. و رغم ذلك، لم تُنفّذ أي منها للحد المطلوب، و بدلاً من ذلك كان الفساد منتشراً و الاقتصاد تديره مؤسسات تنقصها الخبرة و فاسدة تخضع لسيطرة الدولة الروسية التي تتحكم بها دائرة بوتين المقربة.

سعى الزعماء الروس إلى الاستعاضة عن الواردات الخارجية بتحقيق الاكتفاء الذاتي الاقتصادي وعرقلة التبادل التجاري مع الأسواق الأوروبية القريبة عليها و الغنية. كان الاقتصاد الروسي مبني بشكل رئيسي على عائدات النفط و الغاز و أسعارها المتقلبة، ولعل أهم إنجاز لروسيا هو تحقيق استقرار في اقتصادها، لكن تراكم احتياطيات النقد الأجنبي الضخمة جاء على حساب انخفاض الاستثمار و تدني مستوى المعيشة، فضلاً عن تقلص حجم النمو.

لم يكن على روسيا أن تسلك هذا المسار، فقد استأثر بوتين و دائرته المقربة بالسلطة على حساب الشعب الروسي، فضلاً عن تفاديه الاندماج بشكل أكبر مع الاقتصاد العالمي، وعدم تحقيق الإصلاحات الاقتصادية و تجاهل دور القطاع الخاص. كان من الممكن بما تملكه روسيا من موارد طبيعية ضخمة وقدرات علمية و تكنولوجية متطورة، فضلاً عن سوقها الكبير و وجود إصلاحات اقتصادية من تحفيز النمو وتقليل تحدي التوسع الأوروبي الذي يهدد موقع روسيا في العالم.

أما اليوم وفي ظل غزو روسيا لأوكرانيا فقد تلاشت آفاق الإصلاح و التعاون مع أوروبا، و بدلاً من ذلك توحّد الغرب أكثر من ذي قبل، وبدأ بتسليح الجيش الأوكراني ضد الغزاة الروس وعرقلة روسيا من تحقيق أي تقدم.

أطلق بعض من مؤيدي بوتين و آخرين عليه لقب “بطرس الأكبر” الذي أجرى العديد من الإصلاحات ووسع أراضي روسيا و نفوذها. في حين أن بوتين ربما أقتدى بهذا الإمبراطور من أجل توسيع صلاحياته في السلطة، إلا أن سياسة القمع التي اتبعها في الداخل و السياسة العدوانية في الخارج أدت إلى توتر العلاقات مع الدول الاقتصادية الغنية و المتطورة تكنولوجياً حول العالم، وقد انعكس ذلك سلباً على بلاده لمدة جيل إن لم يكن أبعد من ذلك بكثير.

اتخذ الكرملين قراراً خاطئاً بغزو أوكرانيا و ابتعاده عن الإصلاحات. ولكن ربما في المستقبل سينشأ الكرملين اقتصاداً فعالاً ويبني علاقات ودية مع الغرب ويمنح الشعب الروسي فرصة لحياة أفضل.

ترجمة: المركز الكردي للدراسات

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد