كوباني أسطورة المقاومة (2)

في 14-9-2015 بدأت حربٌ غير متكافئة على كوباني، أسلحة ودبابات ومدافع وجيش جرّار وخبرة عسكريّة عالية المستوى وجنود مستعدون للموت للدخول إلى الجنّة وكسب الحوريّات، وتعبئة عقائديّة على أنّ كوباني موطن الكفر والإلحاد، وبالمقابل تمتلك وحدات حماية الشعب ووحدات حماية المرأة أسلحة خفيفة، لقد راهن الجميع على سقوط كوباني، حتّى أن قناة الجزيرة القطريّة قد أعلنت سقوط كوباني، وكذلك أرد

الأيّام الأوّلى من الحرب:بدأت السيّارات والقوافل تتوافد على كوباني، والناس في حالة ذعر، ولا أحد يعرف ما الذي يحصل؟!  فالإشاعات تملأ الأرجاء، وكلّ لحظة يتداول خبرٌ جديدٌ عن تقدُّم داعش، وصل داعش إلى جرن، برخباطان المناضلة احتُلّت، لقد سقطت جبنة الصامدة، انسحبت وحدات حماية الشعب من الجبهة الجنوبيّة ومن الجبهة الغربيّة ومن الجبهة الشرقيّة، لقد احتلّت كرى سيفى التي استُردت بعمليّة بطوليّة قبل مدّة، حتّى القلعة بركل حوصرت واضطّرّ المناضلون الانسحاب منها، هناك من يقول لقد سقطت مئة قريّة، هناك شهداء كُثُر في سرزوري، هناك مقاومة عنيفة في كلّ الجبهات، إنّهم يمتلكون دبابات ومصفّحات عديدة وكلّها حديثة، لقد نفدَت الذخيرة، قيل وقال، هنا وهناك، ولا أحد يعلم ماذا يحصل بصورة دقيقة. لقد رأى معظمهم ما حصل، وتأكّدت الأخبار أنّ داعش يقترب ويدنو من كوباني، وتيقّن الجميع أنّ داعش سيصل إلى كوباني قريباً، فقعدت سارة القياديّة في منظمة اتّحاد ستار مع زوجها الذي استشهد في مجزرة كوباني، وقالتْ له: انظر فكلّ الناس يخرجون من كوباني، فليلى ابنتي التي كانت في مؤسسة اللغة قد قررت الانضمام إلى وحدات الحماية، لأنّها وعدَت معلّمتها الشهيدة فيان أنّها ستعلّم الأجيال اللغة الكرديّة، وستحمل رايتها في المقاومة والنضال حسب مستطاعها، فذهبتْ إلى تلّة مشته نور.وقرروا جميعهم عدم الخروج من كوباني واحترم زوجها قرارها فلم يغصبها على الخروج، فهو قد عاهد نفسه أنّه لن يتخلّى عن وطنه،  وسعدتْ سارة جدّاً بتقبّله قرارها، فقد وعدتْ نفسها أنّها لن تتخلى عن رفيقاتها ورفقائها حتى آخر قطرة من دمها، هكذا كانت تسرد قصّتها وهي واثقة من نفسها ومن قوّتها وعزيمتها.كثيرة تلك العائلات التي قرّرت البقاء والمقاومة، وبعضهم أخرج زوجته وأطفاله والعجّز، وعادوا إلى كوباني.منذ بداية الحرب عُرف حجمها هذا ما قاله أحمد شيخو المسؤول في حركة المجتمع الديمقراطيّ في كوباني، إذْ بعد سلسلة التقدّم لداعش بعد استيلائهم على الموصل وصولاً إلى  لواء 93، وقد أدركت مؤسسات المجتمع في كوباني أنّ الهجمة ستقوى، وقد قال: (لقد أخبرنا الناس قبل عدّة أشهر من خلال حملات توعية أنّنا أمام حرب كبيرة، فقد كان هدف داعش أن يحوّل كوباني إلى شنكال ثانية، فقد كان الحصار منيعاً على كوباني وقد كانت الإمكانيات قليلة جدّاً، وقد أخبرنا الناس أن تخرج من ضيعها، وحضّرناهم للخروج من الضيع على مسافة 15 كم على الحدود المتاخمة لداعش، وكنا لا نهول الأمر في مركز المدينة، لئلا تؤثر فيهم الحرب الخاصة، ولئلا تكون هناك حالات نزوح عشوائيّ، فقد آثرنا أن يكون خروجهم منظّماً، واستطعنا تنظيم من بقي، وقد كان قراري هو عدم الخروج مطلقاً، والدفاع عن الأرض والديار حتى النهاية)كان وقْع يوم الرابع عشر من شهر أيلول 2014 صادماً عندما بدأ العدوّ بالهجوم المركّز، فتحرّكت الإدارة الذاتيّة وبدؤوا بالاجتماعات والاستنفارات على الصعد كافّة، وقد وصف خالد بركل معاون رئيس الهيئة التنفيذيّة لمقاطعة كوباني ذاك الاستنفار من خلال زيارة القرى الشرقيّة؛ لمحاورة الأهالي وتهدئتهم، لئلا يتصرّفوا بعشوائيّة، فصادفوا السيّارات والجرّارات النازحة على الطريق وهي تتوجّه إلى كوباني وقسم منها يتوجّه إلى قره موغ، ذهبوا إلى كورك شويك قرفلة بغدك جرن… كانوا يحيطونهم بالحذر ويرشدونهم إلى ويوقظونهم لئلا يكون نزوحهم نزوحاً خطراً على حياتهم، لقد كان شعبنا شعباً شريفاً لم يرضَ بحكم داعش، إنّهم مناضلون، لكنهم دائما كانوا يقولون: كيف سنصمد أمام الدبابات والأسلحة الثقيلة بأسلحتنا الخفيفة، إنّه مخطط كبير، حرب من كلّ الاتجاهات، عبر المواقع والأقمار الصناعيّة والأسلحة الثقيلة، لقد تسرّبوا من كلّ المنافذ، لم تكن حرباً عادية، لقد أبدى مناضلونا بسالة منقطعة النظير، وخاصّة في سرزوري، القادة كانوا يغيرون مراكزهم، وبين الناس أقاويل وأحاديث، لم يستوعب الجميع ماذا يحصل وشنكال مازالت في الذاكرة الحيّة، ارتعب الجميع من تكرار مشهد شنكال، فبعد 17 و18 من الشهر ذهبنا الى قرموغ، صدمنا بالعدد الهائل من المتجمّعين هناك، وداعش مازال في دفا مغارى، خانه، سرزوري…، كانت وتيرة الحرب سريعة، تأثّرت المدينة التي لم تعرف ماذا حصل بنزوح أهالي الريف إلى المدينة.لم يبق في الضيع من ينتظر القدر الوحشيّ الآتي من السواد الداعشي الذي عبّر عنه هيثم مسلم الإعلاميّ في قناة روناهي بأنّ داعش يعتمد على ثلاثة مغريات لجذب مريديه (الجنس – المال – السلطة) ثلاثة أركان هي المرتع الخصب للشهوانيين الذين لا يعرفون سوى القتل والذبح والسبي.كان هيثم إعلاميّاً جديداً في قناة روناهي، فلم يعدّ سوى ثلاثة برامج حتى جاء يوم النزوح، كان في قريته دونغز جنوب كوباني بعشرين كيلومتراً على وجه التقريب، فوصف مشهد النزوح: (كان الناس يمرّون من ضيعتي، لم أر مثل ذاك المشهد من قبل، الناس تتوافد من تلة خابور وكوبرلك، كنت في بوغاز، وأنا أحاول أن أحصي عدد الهاوانات التي تنهال، كان العدد مرعباً،  لم أستطع أن أحصي عدد الهاونات وأنواع الأصوات المختلفة، فلا مجال للتفكير في البقاء أو الذهاب، لا مجال للتفكير في المقاومة، لقد اندمج صوت الناس مع أصوات القذائف، وكل أنواع الرصاص ينهال من السماء، أمامك، خلفك، يمينك ويسارك، فلماذا لم يسقط الرصاص في المكان الذي كنت فيه لا أدري! حرب لا تحصل إلا في أفلام الهوليود، حرب غير طبيعيّة، الأصوات المرعبة لا تتوقف أبداً، العجاج والدخان والرعب والنار قد اندمجت في الأرجاء، هذا الأمر لا علاقة له بالمقاومة، فالدبابات وليس دبابة على خط واحد، ففي مكان واحد عشرات القذائف تخرج، أمن المعقول هناك دبابة لها عشر سبطانات.)لم تسقط قلعة الفرقة 17 أمام حصارها من قبل الجيش الحر لمدة سنتين وفي ذروة قوة الحر، وفي 24 ساعة تسقط بيسر في يد داعش دون مقاومة تذكر ورغم الإمدادات العسكرية الهائلة لها، كما تسقط الموصل بقدرة قادر، بينما يطبّل ويزمّر مطبّلو المعارضة لهذا الانتصار وكأنّه الانتصار التاريخي على قوى الظلم والكطغيان، ناسين مستبدهم الذي ينهش فيهم، ويحاربون أشقاءهم بدعوى الحقد والمصالح المادّيّة الضيّقة، قالها الجنرال جون آلان ذات مرّة: تحتاج الموصل عاماً لاستعادتها، لكن السؤال المطروح: كيف استطاعت داعش أن تحتلها في يوم واحد؟! كيف استطاعت أميركا أن تسقط العراق برمتها في أقل من شهر؟! أهذا يدل على جدية التحالف الرأسمالي العالمي أم على عجزهم في البحث عن المشروع المستقبلي غير الواضح؟! استنتجت المقاومة المجتمعيّة في كوباني أنّ القوى العالمية في أضعف حالاتها أمام ثورة الشعوب التي سيستعر لظاها أبداً. في بداية الحرب عرف بعض المتابعين لتحرّك داعش حجم الهجوم الذي سينهال على كوباني، من بينهم أحمد شيخو الرئيس المشترك لحركة المجتمع الديمقراطيّ (TEV-DEM) فقد عبّر عن ذلك من خلال وصفه هذه المشاهد الأولى لثلاثة الأيام الأولى من الحرب، ( فبعد سلسلة التقدمات لداعش، بعد سقوط لواء 93  بيدهم، كنا نعرف أنّ الهجمة ستقوى، وكنّا نخبر الناس قبل أشهر بحملات توعية أنّنا أمام حرب كبيرة، فقد كان هدف داعش إعادة شنكال ثانية في كوباني، وقد كان الحصار المحكم على كوباني قد أضعف من إمكانياتنا عامّة ومن ضمنها ضعف التسليح، وكنا نخبر الناس أن يخرجوا من ضيعهم، وحضّرناهم للخروج من قراهم، وإخلائها على مسافة 15 كم من خطّ الجبهة على امتداد الجبهات الثلاث الغربيّة والجنوبيّة والشرقيّة، وكنا لا نهول الأمر في المدينة، وكنا نحاول تهدئتهم، وإبعادهم عن خطر النزوح العشوائيّ إلى الحدود التركيّة المليئة بالألغام، وكنا نحاول دائما توعيتهم من خلال حملات التوعيّة لئلا تؤثر فيهم الحرب الخاصة، ولا يحصل مجازر جماعيّة إثر الشائعات التي ملأت الأصقاع، فقد كان خروجهم منظّماً، وحاولنا تنظيم صفوف الباقين في كوباني.)إنّ قوات الحماية الشعبية في غربي كردستان عامّة، وكوباني خاصّة لم تتخل عن المدنيين، ولم تفارقهم، لتتركهم عرضة للإبادة، بل أعلنت خسارتها في القرى المحيطة بكوباني، وتحضّرت لمعركة المواجهة في كوباني، وأعلنت عدم قدرتها على حماية الجبهات بهذا القدر البسيط من المعدّات والأسلحة، إذْ لا مفر من الانسحاب، وذلك للتفوق العسكري من قبل العدو.مقاومة مدرسة سرزوري 15-9-2014تمّت محاصرة المدرسة التي كانت في الخطّ الأوّل من الجبهة الشرقيّة لكوباني، بوساطة ثلاث دبابات وواحد عربة همر عليها بندقية آلية BKS  لقد شهد عصمت شيخ حسن رئيس هيئة الدفاع هذه الحادثة كيف أنّ اثنَي عشر مقاتلاً من وحدات حماية الشعب وحماية المرأة قاوموا في هذا المبنى بأسلحتهم الخفيفة، لقد بدت بوادر الهزيمة بعد مقاومة مستمرة يوماً كاملاً مع الليل، أصدرت القائدة مريم قراراً تأمر فيه القياديّة على مجموعة المقاتلين المقاومين في المدرسة الرفيقة بيمان بالانسحاب من المدرسة، فلا أمل في البقاء، فلا أمل في الصمود، فالجبهات مشتعلة، إنّه اليوم الثاني من الاجتياح الداعشي، والجبهات كلّها مشتعلة، فلا أمل في الإمداد فلا يستطيع مقاتل واحد ترك جبهته، اثنا عشر مقاتلاً في المدرسة وهناك ممرّ للانسحاب، بدأت الذخيرة تنفد، يئس العدوّ من هذه المقاومة، كان من المفترض ألّا يطول هذا الاهجوم، فأمامهم أسبوع ليدخلوا كوباني، لكنّهم قالوها بصوت واحد: (لن نخرج وسنقاوم) قالت بيمان للقائدة مريم: (ابعثي بسلامي لكلّ الرفاق وأقدّم اعتذاري لأنّي لم أستطع أن أقاوم أكثر، ولأنّي أرفض أمرك العسكريّ، لن أرضى أن يدنس أولئك القذرة ضفائري) وكلّهم حضّروا قنابلهم معاً لئلا تقع في أيديهم، ويفجرون أنفسهم.إنّ هذه الإرادة التي امتلكتها المقاتلة بيمان ورفاقها رودي عفرين، جمال، محمد شيخو، جمو…في مدرسة سرزوري في عدم ترك موقعها وعدم الاستسلام هي ورفقاؤها المقاتلين في مدرسة سرزوري هي سرّ نجاح وحدات حماية الشعب ووحدات حماية المرأة.الشهيد إيريش:كانت سرزوري في الجبهة الشرقيّة، وحال الجبهة الغربيّة كحال الجبهة الشرقيّة، لكن الجبهة الغربيّة أقصر فالمسافة بين كوباني وبين الجبهة الغربيّة 30 كم أمّا المسافة بين كوباني والجبهة الشرقيّة تصل إلى 70 كم، لقد تراجع المقاتل إيريش متخلّيا عن جبهاته، جبهة إثر أخرى، موقعاً إثر موقع آخر، حتّى وصل إلى كولمت، كرى دولي، حتّى صارت كوباني على مرأى العين، حتّى اتّخذ قراراً بعدم الرجوع أكثر، سأصمد هنا وسأمنع أولئك الدواعش من التمتّع بالنظر إلى كوباني، لن أسمح لهم برؤيتها، وإن كانوا سيرونها فعلى جثتي، سيمرّون على جثّتي حتّى يروا كوباني، هذا هو القرار الذي اتّبعه إيريش.كان المقاتلون الكوبانيون يدركون أنهم كلّهم إيريش، وقالوها: (من خلال زوزان وإيريش وبيمان سنحافظ على كوباني)، كلّ مقاتل في وحدات حماية الشعب والمرأة أدرك أنّ العدو منهزم لا محالة، ماداموا يمتلكون روح إيريش وزوزان وبيمان، لقد أرعبت هذه المقاومة العدوّ، وبات يهرس إيريش بدبابته ذهاباً وإياباً كالمجنون، لم يشف غليله أن اجتاز التلّة بدبابته وهو يصطدم بوجود مقاتلين أمثال إيريش يقاومون الدبابة بالقنبلة اليدويّة والكلاشينكوف، فأفرغ خوفه وحقده أن مرّ على جسده مرّات عدّة، لقد ارتعب من هذا الجسد غير الطبيعيّ الذي يحمل قلباً غير طبيعيّ، كان إيريش يمتلك نفَس الساموراي الأخير الفيلم الذي مثّل فيه توم كروز، لقد كانت رسالته موجّهة إلى المجتمع الدوليّ والعالميّ والمجتمعي على الأخصّ بأني أقاوم عن الإنسانيّة جمعاء، لقد وصفت القائدة آريان رسالة إيريش التي قالها على اللاسلكيّ: (“إمّا أن تمرّ هذه الدبابة على جسدي وإمّا لن تمرّ، فإن مرّت على جسدي فستمرّ بصعوبة”، وهذه الرسالة من الرفيق إيريش أعطتنا قوّة لا مثيل لها، فصار الافتداء بالجسد أقلّ ما يمكن أن نفكر به، وهذا الجسد النحيف لن يسقط النخوة فينا وقوّة المقاومة، فانتصار الإنسان على نفسه هو السلاح الأقوى للمواجهة، فقد تعلمنا من شهداء سرزوري ومن الشهيد إيريش عدم تسليم كوباني وكما يقول المسلمون ترك الصلاة حرام كذلك تسليم مشتى نور وكوباني حرام).لقد قالها دليل بوراز المقاتل في وحدات حماية الشعب: (كانت الدبابة تسير على جسد إيريش وهو يقاتلها بأخمص سلاحه، لا أعرف لماذا أبقاني الموت على قيد الحياة، فقد استشهد كل رفاقي.)سقوط مشتنور؟تلّة مشتنور تقع في جنوبيّ كوباني وتستطيع التحكّم بكل تفاصيل المدينة من خلال المكوث على هذه التلّة التي تطلّ على سهل سروج من خلال الجهة الشرقيّة منها، وكذلك تستطيع التحكّم بالجنوب والغرب حتّى مسافات تصل إلى 10 كيلومترات على وجه التقريب.لقد كانت على تواصل مع هذه التلّة حتّى يوم الثالث والعشرين من الشهر التاسع، وقد وصل العدوّ إلى مناطق قريبة من كوباني بخمس إلى عشر كيلومترات، من الشرق وصلوا إلى قرية تل حاجب 10كم عن كوباني، وقد عرقلوا كثيراً هناك، ومن الجنوب كانوا متمركزين في قرية كوربيكار وقره مزره10كم ومن جهة الغربي كانت معركة الإذاعة محتدمة 10كم، لقد كانت غايتهم الوصول إلى قرية قره حلنج جنوب شرق كوباني ومن خلالها السيطرة على تلة مشتنور الإستراتيجيّة. في الثالث والعشرين من الشهر التاسع كنتُ على تلّة مشتنور أراقب النار المنبعثة من قره مزرعة وكوربيكار، لقد سمعت من الرفاق المقاتلين يومها أنّ هناك دويّاً كبيراً لم يعهده مقاتلو وحدات حماية الشعب وحماية المرأة، صاروا يتحدّثون عبر اللاسلكيّ ما هذا الصوت القوي؟ هل هناك سلاح جديد؟ لم تكن الجبهات متصلة ببعضها البعض بشكل جيّد، لقد قالت القائدة نارين إنّ أميركا تقصف داعش، وقد قصفت ثلاثة مواقع قيل إنّها بصواريخ توماهوك، وقد وقعت القذائف في ثلاثة مناطق في الجنوب والجنوب الشرقيّ (قره مزرعة 10كم وشيخ جوبان12كم وبوغاز15كم) لكنّها لم تصب مواقع داعش، لقد بدأ التحالف حملته لكنّه لم يبدأ بالقصف الفعليّ الفعّال إلّا بعد 36 يوماً من بدء حملة داعش الحرب على كوباني، لقد كانت أنباء قصف التحالف مواقعَ داعش تصلنا عبر الإعلام لكن الفعّاليّة والنتائج لم تكن مطمئنة، فصارت أصوات الطائرات التي صار الجميع يسمعها دون طائل يُذكَر، قصف دون معنى، حتّى يوم الثلاثين من الشهر العاشر، أي بعد ستة وثلاثين يوماً.لقد كانت مشتنور قلب كوباني، وكلّ مقاتل التقيت به كان حديثه يرتكز على أنّ هذه هي نقطتنا الأخيرة، لقد قالت القياديّة أريان عن مشتنور: (كما يقول المسلمون قطع الصلاة حرام كذلك كان تسليم مشتنور وكوباني حرام) لذلك قالها أردوغان: لقد سقطت كوباني بعد سقوط مشتنور، وكذلك بثّت قناة الجزيرة القطريّة المتعاطفة مع داعش نبأ سقوط كوباني، كان سقوط مشتنور صاعقة على المقاتلين.آرين ميركان الأسطورة الكوبانية.آرين ميركان تلك الأسطورة التي سُطّر اسمُها على صفحات التاريخ، وصار يتردّد اسمها في كلّ المحافل العالميّة، وباتت الحناجر تصدح باسمها، ففي كلّ زاوية يجري الحديث عن امرأة أثبتت أنّها قادرة على هزيمة داعش، هزيمة أولئك الوحوش الذين دمّروا الأصقاع والأماكن، ودانت لهم مدن كالموصل والرقّة والأنبار… تلك المناضلة القائدة بكلّ معنى الكلمة في وحدات حماية المرأة، قادت بنضالها وعمليّتها الفدائية التي نفّذتها في كوباني؛ لقد قامت بعمليّة التحرير قبل أن يطأ داعش أرض كوباني، أعطت درساً للعدوّ عن ماهية الدفاع والتضحية.آرين صاحبة الابتسامة التي لم تفارقها في كلّ الصور على الصفحات الرئيسية والأعلام وشاشات التلفاز، كانت تتميّز بشخصيّة مميّزة منذ صغرها، كانت تمتلك أبداً روح المسؤوليّة العاليّة، فدائماً تقول: أريد أن أفعل شيئاَ لم يفعله أحد غيري، كانت جريئة جدّاً حسب أقوال رفقائها، كانت عندما تكون في مكان ما تترك وراءها أثراً، فالكلّ كان يعرف أنّها موجودة فهي ذات صخب والثورة ترتديها وتتلحّفها أبداً، كانت تريد الالتحاق بالعمليات الفدائيّة حيث كانت تطارد العيش الذليل، قالت: يجب على أولئك الوحوش ألّا يدنّسوا أرض كوباني، فلغّمت نفسها ولم تنتظرهم، بل قالت لهم: لن تستطيعوا الدخول إلى أرض كوباني.في الخامس من شهر تشرين الأوّل عام 2014 وقع اشتباك بين وحدات حماية الشعب وبين داعش على التلّة المطلّة على كوباني تلّة مشته نور، حيث استغلت المقاتلة القائدة العفرينيّة الكوبانيّة ذلك، وتقدّمت نحو نقطة تجمّع فيها مقاتلو التنظيم، وعند وصولها فجّرت نفسها بقنبلة يدوية أدّت إلى انفجار عدّة قنابل أخرى كانت تضعها في جعبتها، ممّا أدّى إلى سقوط عددٍ كبير من القتلى الوحوش من داعش.كوطنيّة كفتاة كإنسانة أرادت أن تقدّم رسالة للظلاميين: لن تدخلوا أرضي بسهولة، كلّ شخص هو لغم، كلّ شجرة، كلّ حجر، سماؤنا ستلفظكم، وأرضنا تنبذكم، آرين ميركان التي نفذت عملية فدائية ضد مرتزقة داعش في مشته نور تنحدر من عائلة عرفت بمواقفها الوطنية والقومية الثابتة ولها ثلاثة أخوة منضمين إلى صفوف وحدات حماية الشعب.آرين التي ولدت في قرية ميركان أو قرية حسى التابعة لناحية موباتا بمقاطعة عفرين عام 1992 وسميت باسمها ديلارا نسبة إلى المناضلة ديلارا التي فقدت حياتها ضمن صفوف حركة التحرر الكردستانية.تحلّت الشهيدة آرين بكل الخصائص التي تؤهّلها أن تكون القائدة الميدانية في كل ساحات المعارك ولتصبح دائما مصدراً لقوة رفيقاتها ورفاقها مهما كانت الظروف و الشدائد، لتنشر بابتسامتها وحيويتها الدائمة السعادة فيمن حولها، وبروح المسؤولية العالية التي تحلت بها تجاه كل شيء في قضية شعبها أصبحت مكانا تتلقى منه رفيقاتها التوجيهات والمعرفة.لقد أقيمت مدارس وأكاديميات وحدائق وشوارع باسمها، لقد دخلت التاريخ من أوسع الأبواب، وارتبط اسم كوباني باسم آرين ميركان، لم تكن آرين امرأة فريدة من نوعها، بل كانت رمزاً للكثيرات اللواتي لم يلمع اسمهنّ، فحركة التحرّر الكردستانيّة قدّمت أسماء عدّ أمثال بيريتان، زيلان، روجبين، بروار، شهرستان، ديلان…. وكانت استمراراً لمقاومة كوباني الأسماء التي دوّنت تاريخ كوباني أمثال زوزان كوباني، إيريش، باران، ريفان…   عرفت آرين ومنذ طفولتها بإصرارها وصبرها على تحقيق أهدافها وأكدت أمّها أنها تبارك شهادة ابنتها على الشعب الكردي وترفع رأسها عاليا مفتخرة ببطولتها واسمها الذي نقش بحروف من نور، وقد أثبتت أنّ المرأة الكردية قادرة لتأخذ مكانها في بناء المجتمعات وفي المجالات كافة، وأثبتت للعالم دور المرأة الكرديّة في مقاومةى الظلام، حيث دهش العالم من بطولتها، وصار اللباس الذي ترتديه المقاتلة رمزاً للشموخ والعزّة.جاء ذاك المرتجف الداعشي إلى تلك التلّة خائفاً مرتعداً، وهو يسمع زغرودة المناضلة التي أصبحت كابوساً يقضّ مضجعه، وهو يصعد تلة مشته نور، يريد أنْ يحتلّها ويدنّسها بهمجيّة الذئب، تدفعه الشهوة الحمقاء شعاراً، ليظن أنه سيقتص من صانعي الحضارات، وهو يجترّ حقده المتوارث من دنس الفكر، حيث ترعرع هذا العبد النجس مع الكيديّة الغبيّة، عندما كان يختبئ في لحيته التي تُداري همجيته التي اجترّها في سوق النخاسة، جاء ليهدد (آرين ميركان) بأنه سيقتص من ابتسامتها الزهرية البتول.لكنّها عندما رأت لحية الوحش تتدلّى على عذرية الأرض، وتدنّس هواء كوباني، ابتسمت لرفقائها الذين ودّعوها قبل أيّام (إيريش وزوزان…) قالت: سأسلك طريق معانقتكم يا أصدقائي..هكذا اقتصّت من السلطان الملتحي الباحث عن الشهوة، وصارت قنبلة حطمته أجزاء، لم تنتظره، بل قالت: أطلق رصاصك ، حطّم أبنيتنا من كلّ الجهات، اقذفْ، دمّرْ ما تشاء من الجدران والحارات، لكنّنا قنابل تتفجّر فيك أيّها المتوحّش المتهالك، هذه كانت رسالتها ورسالة رفيقاتها اللواتي قررن اتّباع نهج الشهيدة آرين، وقلن للعدو بصوت أدخل الرعب إلى قلوبهم: (هاتوا أسلحتكم من كلّ مكان…فهذه الأرض لنا وستبقى لنا… وقد مر دواعش كثر على حمانا، ولمّا تنهزم كوباني…)هكذا علمت صديقاتها معنى المقاومة، هكذا جرّعت المعتدي علقم التعدي على كوباني، هكذا سطرت الخلود ملحمة ستتناقلها الأجيال على طريقة حبّ آرين للسماء والأرض. رسائل المقاومة والتضحية لداعش:هناك كثر من المقاتلين أمثال آرين وبيمان وزوزان وإيريش وقائمة الفدائيين الذين قدّموا جسدهم قرباناً لإعلاء صوت المقاومة والتصدّي والدفاع عن الوطن، وعدم ترك هذا العدوّ الغاشم من التقدّم، لقد قرّروا التضحية، وكان شعارهم قول عمر أبي ريشة: – شرف الوثبة أن ترضي العلا غُلب الواثب أم لم يُغلبِ، فرأوا في مواجهة العدو الشرف الأعلى وعدم ترك الساحة دون مواجهة تُذكر، إنّها فلسفة المقاوم الكرديّ فيوسف العظمة الكرديّ فعل ذلك في معركة ميسلون، وكذلك بيريتان وزيلان… والقائمة تطول، إذاً كان قرار مقاتلي مدرسة سرزوري الاثني عشر إعطاء رسالة للعدو أنّكم لن تدخلوا كوباني بسهولة، ستمرّون على أجسادنا، لن تهنؤوا بنصركم الوهميّ، سنضع حدّاً لفلسفة الغزو والنهب والسلب، وفلسفة إبادة الكرد، قالوها بصوت واحد: – لن نترك الساحة دون مواجهة تذكر، وإنْ خسرنا فسيُكتب لنا شرف المواجهة والدفاع، وسيُكتب لكم عار التسلّط والنهب وخذلان السرقة، يا من تدّعون أنّكم حملة راية الإسلام.بين YPG و YPJ وبين القوى الظلامية القروسطية الراديكالية المتوحشة، صراع بين المجتمع والسلطة، بين الذهنية العاطفية الأنثوية وبين الذهنية التحليلية الجافة العمياء الذكورية، بين الدفاع المشروع والتوسع السلطوي، بين الحب والكراهية، بين الإنسانية والتوحش، بين التاريخ الاجتماعي المنفي وتاريخ السلطة الذي دونه الذكور السلطويون، وهذا ما أدركه العالم بأسره، بينما لم يدركه بعض العميان أو الذين يصطنعون العمى، إنها لا تموّل بأسلحة أميركية أو روسية أو أوربية أو إيرانية، لا تعد أفرادها بالجنة والحوريات أو المال والبنين، لا تهاجم أحدا بل تدافع وتدافع وتدافع، فتسقط فلسفة داعش بذلك  خائرة صاغرة، بينما تنتصر هذه الإرادة المجتمعيّة على أعتى القوات المدججة بالعتاد والمال، إنّها كوباني، إنها لمقبرة السلطويين الجبابرة المعتدين. يدعون إلى الحدود والثروة والمجد وتاريخ الدول والسلطة والسطوة وتقسيم الحصص والتبعية والطبقية، بينما تدعوهم المقاومة الكوبانيّة إلى الأخوّة والعيش المشترك ومحاربة السلطة، وكتابة تاريخ المجتمع المغيب والحرية.كوباني حتّى 10-10-2015:تلّة أخرى من الناحية الشرقيّة هي تلّة كاني تطلّ على كوباني وهي التلّة الإستراتيجيّة الثانيّة تأتي بعد تلّة مشتنور، فهي تطلّ على كوباني من الناحية الشرقيّة، وتصل رصاص القنّاصة منها إلى الباب الرئيسيّ، أي المعبر الحدودي الفاصل بين كوباني وبين تركيا، وسقطت بعد سقوط مشتنور إذْ أنّ هذه تلّة كاني تحت رحمة القناصة المتواجدين على مشتنور، فالبقاء على هذه التلّة انتحار لا محالة.  إذاً أصبحت كوباني تحت رحمة ضربات العدوّ من الجهة الشرقيّة ومن الجهة الجنوبيّة، والجبهة الغربيّة قد توقّفت تقريباً بعد سقوط تلّة تل شعير 7كم لكنّها استعيدت، فصارت كوباني في العاشر من الشهر العاشر أي بعد مضي ستة وعشرين يوماً من الغزو الداعشيّ تحت رحمة داعش فخمسمئة متر تفصلهم عن المعبر الحدوديّ مع تركيا، من الجهتين الشرقيّة والجنوبيّة، وكانت خطّة داعش تكمن في السيطرة على الباب الرئيسيّ وفتح المجال للمقاتلين والمدنيين الماكثين في الجهة الغربيّة قرب تلّ تل شعير الهروب إلى تركيا، لم يدرك العدو أنّ عدم السيطرة على الجبهة الغربيّة ستنقلب وبالاً عليهم، فقد توافد المئات من المتطوّعين الشبّان من خلال تلك الجبهة، وكانت الجبهة الغربيّة هي الروح التي أعادت الحياة للمقاتلين والمدنيين الذين أبوا أن يخرجوا من المدينة، وسنتحدث عنهم في الجزء الثالث من هذا البحث. لقد كان المعبر الحدوديّ الذي كان يقع تحت أعين قنّاصة العدوّ هو الممرّ الرئيسيّ الذي كان يمدّ المقاتلين بالطعام، وكلّ أعين الكاميرات والإعلام منصبّة على الباب الرئيسيّ، فسقوط المعبر يعني سقوط كوباني، فكان العدوّ يستعجل السيطرة على المدينة.لقد بدأت مرحلة جديدة من الحرب، حرب حياة أو موت، لقد قرّر المقاتلون البقاء والصمود وعدم التخلّي عن المدينة وأقسموا على الموت على تسليم المدينة.

الشهادات الواردة في هذا البحث هي لأناس لم يغادروا كوباني، ومنهم من غادر لأسبوع أو أسبوعين وعاد، وشهادات بعض مقاتلات ومقاتلي وحدات حماية الشعب في كوباني.(انتهى الجزء الثاني والتكملة في الجزء الثالث)صلاح الدين مسلم

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد