القاعدة الاجتماعية لجماعات الإسلام السياسي وأسباب توسعها!

*طارق حمو

نجحت جماعات الإسلام السياسي في التغلغل في المجتمعات المسلمة وبين الجاليات المسلمة في الكثير من بلدان العالم، وان بشكل بشكل متفاوت، وذلك بالاعتماد على مجموعة من الأساليب والخطط المنهجية، والتي رمت كلها إلى السيطرة على تلك المجتمعات واسر قلوبها، وبناء قاعدة اجتماعية تكون حاضنة وفيّة لأفكار وأهداف وطريقة حياة هذه الجماعات.وكان لخطاب جماعات الإسلام السياسي فنون شتى في شحن العامة ضد السائد، وخلق حالة من النفور والحقد والحنق لدى هؤلاء على الإيديولوجية الحاكمة والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية السائدة، وهذه السياسة ما هي إلا توطئة من أجل تقديم الإسلام السياسي وجماعاته فيما بعد كمنهج حياة متكامل وبديل إلهي منزه لكل النظريات الوضعيّة في الحكم والإدارة.

ويكاد يكون أسلوب جماعات الإسلام السياسي في “تشويه” السائد ونسفه من أساسه، ومن ثم تقديم نفسها كبديل، مع العمل الاجتماعي الخيري، متشابها في معظم الأقطار والأمصار الإسلامية. ورغم هذه الحقيقة فإن هناك رأيا يقول بأن الصحوة الإسلامية جاءت نتيجة وعي الشعوب المسلمة بواقعها، وليس بالضرورة نتيجة عمل وتنظيم وتثوير من قبل جماعات الإسلام السياسي، أي أن الأرضية، جراء الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية الصعبة، كانت مهيأة لدى الشعوب الإسلامية لتقبل فكر جماعات الإسلام السياسي والإيمان به كملاذ أخير للخلاص والرقي، وعليه ف”الصحوة الإسلامية ليست وقفا على تيار إسلامي معين أو حزب إسلامي معين، كما أنها ليست نتيجة لانتشار فكر سياسي إسلامي معين أو مفكرين إسلاميين بعينهم، ولكنها تشمل معظم الشعوب الإسلامية نتيجة لوعي المسلمين بحقائق دينهم الإسلامي وقراءة القرآن الكريم والسنّة النبوية الصحيحة وأحكام الشريعة الإسلامية بعيون فاحصة مدققة”(1).

القاعدة الاجتماعية لجماعات الإسلام السياسي:

يٌشير أبو الأعلى المودودي، الباكستاني مٌنظر الإسلام السياسي المعروف، إلى مهام العلماء والحكم في حماية المجتمع من الفساد وكل ما يخالف الشرع من “الأمراض الاجتماعية”، ويطالب هؤلاء بالتعامل مع المجتمع المسلم كشخص مريض بالآفات يجب معالجته ووضعه تحت العناية الفائقة، فيقول: ” متى ترك العلماء وأولو الأمر واجبهم الحقيقي وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعادوا يحتملون وجود الشر والفساد، فإن الضلال والانحلال الخلقي يأخذان في الانتشار بين أفراد الأمة، وتجعل الغيرة الإيمانية فيهم تضمحل وتتلاشى حتى تفسد البيئة الاجتماعية كلها ويصبح جو الحياة صالحا للفساد وغير صالح للخير والصلاح، فيفر الناس من الحسنات، وينجذبون إلى السيئات بدل أن ينفروا منها”(2). ونتعرض هنا لعينة من خطاب أحد روّاد ومنظري جماعات الإسلام السياسي في العالم العربي، بهدف التعرف على نظرته إلى المجتمعات القائمة في الدول العربية والإسلامية، وكيف هو حالها، فيما بقيت دون احتضان الإسلام والعمل وفق مبادئه. وهذه العينة يقدمها الشيخ يوسف القرضاوي.

يقول القرضاوي عن العدالة الاجتماعية الغائبة في البلاد التي لا تطبق شرع الله: ” إن التظالم الاجتماعي يؤثر تأثيرا سلبيا على السياسة وعلى الاقتصاد والتنمية، وعلى الأخلاق أيضا. فحين تحتكر الثروة فئة من الناس، أو تتمتع أسرة أو طبقة بامتيازات لا تتوافر لغيرها، يعني ذلك إنها القادرة على التأثير في السياسة، والوصول إلى المناصب السياسية العليا، بسطوتها الاقتصادية ونفوذها لدى من بيدهم الأمر، حتى البلاد التي تجري فيها انتخابات، يستطيع المال أن يلعب دورا كبيرا في التأثير على الناخبين، بالدعاية المركزة حينا، وبالتأثير على القوة الضاغطة، حينا، وبشراء الأصوات حينا آخر،(…)، وأن توزيع الثروة لا يتم وفق قوانين العدالة التي جاء بها الدين، وقامت بها السماوات والأرض، ولكن وفق معايير تحكمية، أو أهواء بشرية، سينعكس ذلك على العمل والإنتاج كما ونوعا.

وفي مجال الأخلاق والعلاقات الاجتماعية، يٌشيع التظالم رذائل الحقد والحسد والبغضاء(…)، والتيار الإسلامي يقدم الحل العادل للخلاص من الظلم الاجتماعي، وإقامة العدالة الاجتماعية، وتقريب الفوارق بين الأفراد والطبقات، بحيث لا يزداد الغني غنى، والفقير فقرا، في ظل فلسفة كلية تمزج بين الروح والمادة، وتجمع بين حسنتي الدين والآخرة، وتوفق بين مطمح الفرد ومصالح المجموع”(3).

إذن أعلاه نموذج للخطاب الذي تلجأ إليه جماعات الإسلام السياسي في شحن العامة ضد النظام القائم، أي نظام كان، وهو توطئة، كما قلنا، لخطاب آخر يٌراد له أن يتجذّر في المجتمع ويخلق حاضنة اجتماعية كبيرة وموالية تماما للجماعات التي تخلط الدين بالسياسة، ” ومن الطبيعي أن تتبلور عن مثل هذه الأفكار شعارات هدفها الأول والأساسي جذب الإنسان المتعلق بدينه فطريا وتراثيا للعمل على تطبيقها وإخراجها إلى الميدان العملي ظنا منه، وخاصة الإنسان البسيط وغير المتعلم، إنها الدين بذاته، وعلى الأخص إذا صدرت مثل هذه الشعارات عن معممين طوال اللحى، وشموا جباههم ببقع سوداء ليحققوا بها أمام الناس مضمون الآية الكريمة “سيماهم في وجوههم من أثر السجود” (الفتح/ 29)، دون أن يخطر على بال هذا الإنسان البسيط أن يكون هناك من يستغل اسم الدين لمثل هذه الأغراض السياسية البحتة”(4).

لقد استغلت جماعات الإسلام السياسي إهمال الدولة لمتطلبات الجماهير الحياتية الآخذة في النمو والتوسع، فبدأت تطرح رؤيتها على شكل أعمال خيرية واجتماعية، تعويضا عن العمل السياسي الذي صادرته السلطة ومنعته عليها، ومن هنا و”مع دخول المجتمعات العربية الربع الأخير من القرن العشرين، والأثر الذي أوجدته الثورة الإسلامية في إيران، واختلاف سياسات الأنظمة العربية مع الإسلاميين بين التحالف الضمني والتضييق، اشتد أزر المجال العام للإسلام الحركي، وأصبحت المساجد والمؤسسات الاجتماعية الأخرى من نواد ولجان زكاة وتشكيلات نقابية داخل الجامعات وفي الطبقة الوسطى القديمة، وسائل إنتاج إيديولوجية/وسائل تخيّل، تنسج تصورا سياسيا للدولة وعلاقتها بالمجتمع.”(5).

ويٌشير حامد عبد الصمد، الباحث الألماني من أصل مصري، إلى “التحالف الضمني الصامت بين النخب الحاكمة وجماعات الإسلام السياسي، حيث جرى اتفاق يقضي بتولي هذه الجماعات( وبشكل خاص جماعة الإخوان المسلمين) أسلمة الحياة العامة والإشراف على المؤسسة الدينية الرسمية والتغلغل فيها، بينما يٌترك أمر السياسة والجيش والأمن للدولة والحكومة، بل لقد جاءت أوقات زايدت فيها الدولة على الحركات الإسلامية فيما يخص قضايا “الدفاع عن الإسلام”، ومثالا على ذلك المظاهرات التي عمت العالم الإسلامي ضد الرسوم الكاريكاتورية التي نشرتها صحف دانمركية وصوّرت نبي الإسلام محمد، حيث كانت هذه المظاهرات بتغطية مباشرة وغير مباشرة من العديد من الأنظمة الحاكمة في البلاد الإسلامية، حيث أصدرت أغلبها بيانات تنديد، وهددت بعضها بقطع العلاقات مع الدانمارك، أو بسحب السفراء منها”(6).

وقد تماهت جماعات الإسلام السياسي مع القوى الأخرى في المجتمعات العربية والإسلامية، فوضعت قواعدها وبشكل رسمي مرخص، وتحت أسماء وأعمال أخرى كثيرة، من أجل نشر أفكارها بين طبقات المجتمع، وتخلت بذلك عن الأسلوب التقليدي في الدعوة أو الصدام المباشر مع السلطات الحاكمة، ” أصبحت هذه الحركات تشكل جزءا مهما من الشريحة السياسية والاجتماعية في المجتمعات الإسلامية المعاصرة، وتنامى دور معظمها وشمل العديد من المجالات الحضارية والثقافية والاجتماعية والسياسية، وتعددت أهدافها وتنوعت وسائلها من أجل تحقيق تلك الأهداف. فمن هذه الجماعات من أتخذ شكل الحزب السياسي وخيار المشاركة القانونية من داخل الأطر القانونية والمؤسسات الشرعية للدولة، ومنها من اتخذ شكل التنظيمات الاجتماعية أو الاقتصادية”(7).

وكان ثمّة سبب آخر لتمدد جماعات الإسلام السياسي وسط الطبقات الفقيرة والمهمشة في المجتمعات العربية، وهو إلى جانب نشر الفكر والإيديولوجية، الأسلوب الوحيد للتصدي لسياسة السلطة حصر هذه المجموعات وتحجيم دورها وضعف أساليبها في مقارعة إعلام السلطة ذو الأدوات الكثيرة، فالأرضية متوفرة لدى الطبقات الفقيرة التي تريد الهروب من واقعها إلى الروحانيات، ومن هنا ” يبدو تركيز الحركات الدينية يذهب بالخصوص إلى المجموعات الفقيرة والساكنة في مدن الصفيح، والتي تتصف أغلبيتها بكونها أمية وان ضغط العامل الثقافي الغربي للتحديث له تأثيراته على علاقات الأفراد فيما بينهم أو على طريقة حياتهم التقليدية. فوضعية الفقر تدفع بالمرء إلى الغيبيات والتعلق بها. وإذا ما اعتبر هذا التصرف شيئا طبيعيا من قبل هذه المجموعات، فما ذلك إلا نتيجة لفقدانها للوسائل التي تستطيع من خلالها مواجهة سلطان السلطة السياسية. فلجوء الفقراء إلى الدين يعتبر كسلاح يمتلك أرضية ثقافية قادرة على شل القيم الإيديولوجية للسلطة السياسية وإحباط عملية التأطير الإجبارية للأفراد التي تقوم بها السلطة السياسية.

وبالإضافة إلى ذلك يملك الدين ــــ من وجهة نظر المجموعات الإسلامية ــــ القدرة على تعويض الأفراد المتماثلين مع قيمه ـــ تعويضا ماديا ــــ وان اتخذ له شكلا معنويا ـ يتحدد بحصولهم على الجنة في الآخرة”(8).وثمة كذلك أسباب أخرى لتمدد جماعات الإسلام السياسي ضمن الطبقات الشعبية في المدن والأرياف العربية، إضافة لما ذكرناه، وهي: أولا: فشل الأيديولوجيات الكبرى التي شكلت الإطار النظري للنشاط السياسي في الدولة العربية الحديثة وعلى مدى عقود طويلة.ثانيا: التهميش الاجتماعي الذي أحدثته الليبرالية الجديدة عندما جرّدت الدولة الوطنية من وظائفها الاقتصادية والخدميّة، وهو الأمر الذي أدى إلى تعديل طبقي في تركيبة البلاد الاجتماعية لصالح استقطاب حاد بين الفقراء والأغنياء.

ثالثا: الحروب الداخلية والخارجية واحتلال الدولة وما نتج عن ذلك من ترابط النزعة الإيمانية بنشاط جماعات الإسلام السياسي. واستخلاصا نرى بأن جماعات الإسلام السياسي قد استغلت الأوضاع الاقتصادية والسياسية السيئة في المجتمعات الإسلامية استغلالا واضحا وذكيا، فعملت على تشويه سياسة الحكومات، ووسمها بالفساد والرشوة والعمالة للخارج والبعد عن كلام الله والشرع، وتقديم نفسها كبديل عن ذلك، طارحة برامجها المتمحورة حول عبارة واحدة هي “الإسلام هو الحل”، إضافة طبعا إلى العمل الاجتماعي الخيري وإنشاء الجمعيات الخيرية ورعاية الفقراء والاهتمام بهم، وهو ما استعاضت به هذه الجماعات عن سياسة الحكومات منعها في الحقل السياسي، فسيطرت على جزء كبير من المجتمعات المحبطة، وشكلت لنفسها قاعدة جيدة تشمل فئات شتى مهمشة وفقيرة تؤمن بوعود العدالة والمساواة التي تقدمها جماعات الإسلام السياسي في حال سيطرتها على الحكم والسلطة وشؤون الدولة والإدارة. أسباب سعة القاعدة الاجتماعية لجماعات الإسلام السياسي:يوضح الباحث الأميركي هرير دكمجيان بأن جماعات الإسلام السياسي تبدي الاستعداد للتعامل مع المجتمعات وأزماتها الكبيرة من خلال المظاهر التالية:

أولا: قيادة آسرة تلتزم تغيير المجتمع روحيا أو ثوريا أو كليهما.ثانيا: مذهبية انتظار العصر الذهبي، وهي تتضمن دعوى إنقاذ القيم والمعتقدات والممارسات الأساسية التي ستشكل النظام الأصولي الجديد.ثالثا: الشخصية الأصولية التي تتكون تحت تأثير جو الأزمة والتأثيرات المضادة المرتبطة بالمذهبية الأصولية.رابعا: الجماعات والطبقات الاجتماعية، خاصة ما كان منها سريع التأثير بالدعوة الأصولية نتيجة لتوجهاتها الثقافية والنفسية ولأوضاع اجتماعية واقتصادية معينة قائمة في المجتمع وللنظام الاقتصادي العالمي.خامسا: الحركات والجماعات الأصولية التي تتولى قيادتها ــــ بشكل نموذجي ــــ شخصيات آسرة والتي تٌبدى أنماطا من السلوك تتراوح ما بين الحماس الروحي والفعل الثوري”(9).

وكنا قد أشرنا أعلاه إلى كيفية تصوير خطاب جماعات الإسلام السياسي للمجتمعات الإسلامية والتركيز على حجم الأمراض الاجتماعية، والأوضاع الاقتصادية المتردية، واتهام الأنظمة والحكومات بالوقوف وراء ذلك بسبب إهمالها للإسلام وعدم تطبيقها الشريعة. وبعد نسف الواقع بذلك الشكل، تقدم جماعات الإسلام السياسي نفسها كبديل وكحل دائم وسحري لكل تلك المشاكل والآفات في المجتمعات العربية. ويتم استغلال الإحباط الشعبي والتذمر من سياسة الدولة والفقر المدقع، والبطالة وسوء الخدمات وعدم وجود آفاق للمستقبل المنشود لدى قطاعات الشباب، من أجل تصوير الواقع بأنه شاذ وجاء بالضد من إرادة الله، وإن الحل يكمن فقط في الخطاب الذي تطرحه جماعات الإسلام السياسي. وبين سياسة الدولة وفشلها في احتواء المواطنين وتأمين حياة كريمة مرفهة لهم، وخطاب جماعات الإسلام السياسي القائم على “الحل السحري” يتخبط قسم كبير من أبناء المجتمعات الإسلامية الباحثين عن فرصة أفضل للحياة الكريمة.

ولا يعود مجال أمام الكثيرين سوى العودة إلى الخطاب الإسلامي وإلى الدين ومنظومته، في ظل استبداد الدولة وقمعها للحريات العامة وكمها للأفواه، ” حين لا يعود في وسع المجتمع أن يمارس السياسة في حقلها الطبيعي(الساحة السياسية)، وحين تستحيل السياسة فعلا مصادرا من قبل نخبة الدولة أو الحزب الحاكم، ينكفئ قسم من المجتمع إلى منظومته التقليدية بحثا عن طريقة مناسبة للتعبير عن الذات ولتحقيق التوازن النفسي والمادي. وطبيعي أن يكون الدين أقدر تلك المنظومات على مد طالبها بأجوبة عن مطالب ونوازل الحاضر”(10).

وقد استغلت جماعات الإسلام السياسي كل هذه الأمور، فنزلت إلى الشارع عارضة خدماتها ومقدمة نفسها كسلطة ظل، وعلى رأس هذه الجماعات جماعة الإخوان المسلمين صاحب الخبرة التنظيمية والقدرة التحشيدية والمادية الأكبر، ومن هنا فقد “كانت أقسام البر والخدمة الاجتماعية في شعب الإخوان تنشئ المستوصفات الطبية للعلاج بأجور رمزية أو بغير أجر للمحتاجين، وتجمع الزكوات والصدقات لتوزيعها على المستحقين، وتفتح الفصول لمحو الأمية، وتنشئ المدارس لتحفيظ القرآن، وتعليم الكبار، وتبني المساجد الجديدة، أو تصلح المساجد القديمة، لتقوم بدورها في العبادة والهداية، وتؤلف اللجان لإصلاح ذات البين، وتسهم في حل المشكلات التي تواجه الجماعة، وتذليل العقبات التي تعترض طريق رقيها وصلاحها”(11).

من جانبه يتحدث الباحث الكويتي عبد الله النفيسي كثيرا عن “القاعدة الطلابية” كبوابة لتغلغل جماعات الإسلام السياسي في المجتمعات العربية والنفاذ منها إلى الواجهة السياسية، وبالتالي التمكن من التأثير في القرار السياسي والتحول لعامل مهم في المشهد السياسي للدولة، فيقول في هذا الصدد: “إن قابليات الطلبة كمضغة اجتماعية كبيرة للغاية، فالطلبة هم أكثر الناس إدراكا للعلاقة بين الحقوق العامة والنظام العام، ولذا كان تجاوبهم مع القضية العامة في المجتمعات البشرية دائما الأكثر حيوية، ومن المعروف أن قطاع الطلبة في كل المجتمعات يتزايد ويتضاعف يوما بعد يوم، كذلك تعاملهم وسهولة الاتصال فيما بينهم. وتفيد الدراسات الاختصاصية أن قطاع الطلبة هو أكثر الفئات مقدرة على التحرر الاجتماعي من الخلفيات العائلية والطبقية والإقليمية. ومن هنا نقول أن الحركة الإسلامية ربما تجد من الأنسب التعويل على الحركة الطلابية في نهاية المطاف”(12).

وركزت جماعات الإسلام السياسي على الجامعات بشكل خاص وحاولت تجنيد أكبر قسم ممكن من الطلبة، وبشكل خاص القادمين من الريف والذين وجدوا صعوبة كبيرة في التأقلم مع مجتمع المدينة وأحسوا بنوع من التهميش وبدءوا بالبحث عن الهوية وعن ترياق يحميهم من سطوة المدينة والفوارق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي أحسوا بها.وفي جو هذا الاضطراب دخلت جماعات الإسلام السياسي على الخط وباشرت في تجنيد اكبر عدد ممكن من هؤلاء الطلبة مقدمة خطابها المعتاد الرافض للواقع والذي يقدم حلا آخر هو “الحل الإسلامي”، وساعد القمع السلطوي ودولة الأمن والاستخبارات وجو القمع وواقع الفساد في اقتراب هؤلاء الطلبة من التنظيمات الإسلامية والرهان عليها. وقد رفعت جماعات الإسلام السياسي شعارات دغدغت أفئدة هؤلاء المهمشين والريفيين ركزت على الفقر والحرمان والإحباط والتبعية وضياع الهوية، متوعدة بالانتقام لهؤلاء من “المجتمع الجاهلي”، وهنا “ركزت الجماعات الإسلامية على وضعية الفقر والحرمان والإحباط والتبعية وضياع الهوية، وهنا أيضا تعالت أصوات المستضعفين بالاستجابة فدعت إلى محاربة الظلمة والكفار، وطالبت بالثأر للمعدمين الذي حرموا نصيبهم من الحياة الدنيا.

وهنا نجحت الجماعات الإسلامية المسلحة في استثمار مناخ السخط والمعاناة وجعلت من هذه الجموع الساخطة مادة بشرية خام قابلة للتأييد والعمل”(13).وأدى خطاب الجماعات الأصولية إلى شحن عدد كبير من أبناء الريف والمهمشين وكسبهم في التنظيمات وجعلهم نواة القوة التنظيمية والعسكرية والتحشيدية في عمل هذه الجماعات من أجل السيطرة على السلطة وتحكيم الشريعة، ” وفي لغة بسيطة مقنعة وليست غريبة، أقنعت الجماعات الأصولية الإسلامية قطاعا كبيرا من جموع المهمشين المحرومين أن هذا المجتمع بمباهجه ومفاسده ليس مجتمعنا على الإطلاق. نحن جماعة المؤمنين وهو مجتمع الجاهلية والكفر، ومن ثم فلم يعد أمامنا أي نصيب موضوعي للتماثل معه، بعد أن حكم علينا بوضعية القهر والحرمان على كافة المستويات، علينا إذن اعتزاله والانسلاخ عنه وهجره لكي نخلق المجتمع البديل، الذي يحقق ذواتنا وأفكارنا في بناء الأسرة والمدرسة والمجتمع والدولة، وفي مرحلة تالية علينا تدمير هذا النظام الفاسد وتصفيته تماما لنقيم على أنقاضه نظاما طاهرا نقيا”(14).

وهكذا نجد بأن جماعات الإسلام السياسي قد اعتمدت في عملها على اختراق المجتمعات المسلمة والاستفادة من حالة الديكتاتورية والانسداد السياسي والفقر وانتشار الرشوة والفساد، وتفشي الاستبداد واستهتار دولة المخابرات، في ترويج خطابها القائم على تصحيح الأوضاع والانتصار للفقراء عبر الاحتكام للشريعة وبناء دولة الخلافة. وقد بنت هذه الحركات الجمعيات الخيرية والمساجد والزوايا ووزعت الخيرات وسيطرت على النقابات والجمعيات الأهلية، مستفيدة في بعض الأوجه من سياسة الحكومة المهادنة والراغبة في استمالة أبناء الشعب والطبقات المتدينة عبر نشر الأسلمة في مؤسسات الدولة. وقد استفادت جماعات الإسلام السياسي من سياسة الدولة تلك، فسيطرت على العديد من المؤسسات التعليمية والإعلامية والدينية وبدأت بسحب البساط من تحت أقدام السلطة والتأثير بشكل أكبر في القاعدة الاجتماعية وتقديم نفسها كبديل نزيه عن السلطة الحاكمة، متسلحة طبعا بالدين وبفتاوى رجاله.

المصـــــــادر:

1ـ الجوهري، محمد الجوهري حمد، النظام السياسي الإسلامي والفكر الليبرالي، مدينة نصر، مصر، الطبعة الأولى، دار الفكر العربي 1993 م. ص 134.

2ـ المودودي، أبو الأعلى، نحن والحضارة الغربية، جدة، السعودية، الطبعة الأولى، الدار السعودية للنشر والتوزيع 1987 م، ص 238 و239.

3ـ القرضاوي، يوسف، الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي والإسلامي”، القاهرة، مصر، دار الشروق، الطبعة الأولى، 1995، ص 124ـ125.

4ـ أطيمش، صادق،”محنة الدين في فقهاء السلاطين”، السليمانية، إقليم كردستان العراق، الطبعة الأولى، مؤسسة حمدي للطباعة والنشر 2010 م، ص 11ـ12.

5ـ عبود، هاني، التديّن الشبابي: نمط منفلت من المؤسسة الإيديولوجية، الدوحة، قطر، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات2011 م، ص 10ـ11ـ12. الرابط على شبكة الإنترنت: http://www.dohainstitute.org/release/481ee766-7fbe-4672-88fb-4ea20da6001d6- Abdel-Samad, Hamed, Der Untergang der islamischen Welt, München, Deutschland 2010, Knaur Taschenbuch Verlag. S 17.

7ـ مجموعة من المؤلفين، الحركات الإسلامية وأثرها في الاستقرار السياسي في العالم العربي، أبو ظبي، الإمارات العربية المتحدة، الطبعة الأولى، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية 2002 م، ص 91.

8ـ العزي، سويم ، السلوك السياسي في المجتمع العربي، الرياض، السعودية، الطبعة الأولى، دار الألفة للطباعة والنشر 1992 م، ص 60.

9ـ دكمجيان، ريتشارد هرير، الأصولية في العالم العربي، ترجمة: عبد الوارث سعيد، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، دار الوفاء للطباعة والنشر 1989 م، ص 25.

10ـ بلقزيز، عبد الإله، الإسلام والسياسة: دور الحركة الإسلامية في صوغ المجال السياسي، الطبعة الأولى، المركز الثقافي العربي 2001 م، ص 119.

11ـ القرضاوي، يوسف، التربية الإسلامية ومدرسة حسن البنا، القاهرة، مصر، الطبعة الثالثة، مكتبة وهبة 1992 م، ص 50 و51.

12ـ النفيسي، عبد الله، الحركة الإسلامية: ثغرات في الطريق، الصفاة، الكويت، الطبعة الأولى، بدون تاريخ النشر، ص 24.

13ـ حسن، أحمد حسين، الجماعات السياسية الإسلامية والمجتمع المدني: دراسة في استراتيجية بناء النفوذ السياسي والاجتماعي والتغلغل الفكري، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، الدار الثقافية للنشر 2000 م، ص 155.

14ـ نفس المصدر، ص 156.

*باحث في الإسلام السياسي. من فريق عمل المركز الكردي للدراسات.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد