استقبلت أنقرة فوز دونالد ترامب بالانتخابات الرئاسية الأميركية بالكثير من الفرح والأمل بعد أربع سنوات عجاف مع واشنطن في عهد جو بايدن. وكان مبعث هذا التفاؤل هو الشعور بإمكانية إيجاد أرضية مشتركة مع ترامب المفتون بالزعماء الأقوياء، ما يفترض أن يشكل المدخل لدفع عجلة العلاقات الثنائية الراكدة.
وعلى عكس بايدن، الذي لم يدع نظيره التركي لزيارة البيت الأبيض إلا خلال الأشهر الأخيرة من عهده وهي الزيارة التي لم تتم لأسباب تقنية، فإن حديث ترامب قبل أيام عن دعوة أردوغان له لزيارة تركيا والإشارة إلى زيارة للرئيس التركي للبيت الأبيض، يشكّل عنواناً لافتاً لهذه المقارنة بين الرئيسين.
خلال عهد رئاسته الأولى، كان بإمكان أردوغان الوصول إلى ترامب هاتفياً عبر الاتصال على رقمه الخاص دون المرور بقنوات البيروقراطية الأميركية. وكان الرئيس الأميركي مصرّاً على إمكانية الشراكة مع نظيره التركي ودائم المديح بقدراته وصفاته القيادية والسياسية.
لكن على الأرض، لم تخل هذه الفترة من أحداث سلبية حفرت في الذاكرة التركية والدولية، مثل رسالة الاستخفاف التي وجهها ترامب لأردوغان ناصحاً له «بألا يكون أحمقاً»، أو تهديده بتدمير الاقتصاد التركي في حال الاستمرار باحتجاز الراهب برونسون. كما أن العقوبات التي فرضتها واشنطن على أنقرة بسبب اقتناء الأخيرة منظومة الدفاع الجوي الروسية «إس-400» لا تزال سارية حتى الساعة رغم بعض الاستثناءات التي منحتها إدارة بايدن لشريكتها الأطلسية.
لكن تشير التطورات الأخيرة إلى أن رهان أردوغان على ترامب كان صائباً إلى حد كبير مقارنة بحقبة بايدن الرئاسية. فقد تواصل الرئيسان عدة مرات منذ الانتخابات الأميركية في نوفمبر/تشرين الثاني، وزار وزير الخارجية التركي واشنطن بعد 100 يوم من وصول ترامب إلى البيت الأبيض وشهر على تعيين رجله لحقيبة الخارجية، بينما اضطر وزير الخارجية التركي السابق مولود جاووش أوغلو للانتظار لمدة 15 شهراً للقيام بزيارته الأولى لواشنطن خلال إدارة الرئيس السابق.
ترامب هو الرئيس الرابع في سادس إدارة رئاسية أميركية تمر على أردوغان الذي تمرّس في التعامل مع البيت الأبيض. ويتشارك كلاهما في العديد من الرؤى والسياسات. فالرئيسان يرفضان البنية المؤسساتية للدولة وبيروقراطيّتها ويعتمدان خطاباً استقطابياً في السياسة الداخلية ويهاجمان السياسات الليبرالية والتقدمية.
تُرجم هذا التشابه عبر المواقف الصادرة عن البيت الأبيض المطمئنة لأردوغان. فبعد أيام من اعتقال السلطات التركية لرئيس بلدية إسطنبول الكبرى ومنافس أردوغان على الرئاسة، أكرم إمام أوغلو، في خطوة اعتبرتها المعارضة «انقلاباً باستخدام القضاء»، أشاد ترامب بنظيره التركي ووصفه بأنه «قائد جيد». وبعدها، عبّر عن إعجابه بأردوغان بحضور رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو، عارضاً المساعدة في نزع التوتر بينهما «على أن يكون نتانياهو عقلانياً».
كما استشرف مبعوث ترامب إلى الشرق الأوسط ستيف ويتكوف مستقبلاً مشرقاً للعلاقات التركية الأميركية، مشيراً إلى محادثة «عظيمة وتحويلية» جرت بين الزعيمين، ومبشّراً بـ«الكثير من الأخبار الإيجابية والجيدة» القادمة من تركيا.
يتوقّع ترامب، الذي يصر على تقديم نفسه كرجل أعمال بارع في عقد الصفقات ومطور عقاري ناجح، استغلال براغماتية أردوغان وحرصه على اغتنام الفرص للتأسيس لشراكة ثابتة مع أنقرة تكون لواشنطن النسبة الأكبر من الحصص، وبالتالي اليد العليا في القرارات، مستنداً على افتراض قدرته على الضغط على أردوغان في حال نشوب أي اختلاف.
رغم الشعارات العلنية حول الاستقلال وإقرار السياسات الخارجية وفق المصالحة الوطنية، امتثلت أنقرة للتحذيرات السرية الصادرة عن وزارة الخزانة الأميركية للحد من أنشطة البنوك المشتبه في مساعدتها لأثرياء روس خاضعين للعقوبات على نقل الأموال إلى الخارج، وكبح التجارة مع موسكو في السلع الخاضعة لعقوبات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
تعزز التجارب السابقة، سواء لناحية إذعان أردوغان لمطالب إطلاق سراح الراهب برونسون حتى قبل صدور قرار من المحكمة التركية رغم تأكيد الرئيس التركي على «استحالة تسليمه طالما كان حيّاً» أو إيقاف العملية العسكرية ضد الإدارة الذاتية و«قسد» في شمال شرق سوريا، احتمالات قدرة ترامب على تسخير ميل الرئيس التركي لعقد الصفقات لصالح تحقيق رؤاه السياسية ومصالحه الاقتصادية.
أدّت استراتيجيات «التوجه نحو آسيا» الأميركية إلى تراجع الأهمية الاستراتيجية لتركيا بالنسبة للولايات المتحدة، إلى جانب التباين في المصالح بين أنقرة وواشنطن في الشرق الأوسط، خصوصاً تلك المرتبطة بإسرائيل.
على الرغم من أن حرب أوكرانيا زادت من أهمية تركيا، إلا أنها لم تجعل من أنقرة طرفاً لا غنى عنه. فتركيا ليست محورية في التنافس الصيني-الأميركي في الشرق الأوسط، وهي ليست من بين شركاء الصين الخمسة الرئيسيين في المنطقة. وغابت عن محطات جولة الرئيس الصيني شي جين بينغ الشرق أوسطية عام 2022.
كما أدّت الاستثمارات العسكرية الأميركية في دول أخرى كاليونان وقبرص والأردن إلى تقليص أهمية تركيا في حسابات الأمن الأميركية في الشرق الأوسط وشرق البحر الأبيض المتوسط.
أثار الوجود الأمريكي في ميناء ألكسندروبوليس، الذي يبعد 40 كيلومتراً فقط عن الحدود التركية، قلق أنقرة، حيث تُعدّ هذه القاعدة مركزاً حيوياً لنقل المعدات من القوات الأميركية وحلف الناتو إلى أوروبا الشرقية، متجاوزةً بذلك مضيق البوسفور الذي تسيطر عليه تركيا. وبالمثل، شكّل احتمال تمركز قوات أميركية على جزر بحر إيجة مصدر إزعاج آخر لتركيا.
استفادت تركيا من مساعدة طرفي الحرب الأوكرانية، حيث تضاعف حجم تجارة تركيا مع روسيا ثلاث مرات تقريباً منذ الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا، على الرغم من تضررها من تراجع السياحة الروسية، مقابل تزويد أوكرانيا بالأسلحة ومسيّرات «بيرقدار» التي باتت تُصنع في أوكرانيا اليوم.
ومن بين أول عشرة موردي خردة حديدية لتركيا في أوائل عام 2025، انضمت بلجيكا والدنمارك وفرنسا وليتوانيا ورومانيا إلى الولايات المتحدة والمملكة المتحدة في انخفاض أحجام الشحنات، بينما انتقلت هولندا وبولندا إلى جانب روسيا المتصدرة في زيادة طفيفة في الحجم.
كما وسعت أنقرة نطاق نفوذها العسكري في سوريا وليبيا وجنوب القوقاز وشرق البحر الأبيض المتوسط والخليج.
في الوقت ذاته، تراقب أنقرة عن كثب الإعلانات الصادرة عن بعض الشخصيات المقرّبة من الرئيس الأميركي حول رغبة الأخير في الانسحاب من الشرق الأوسط، وهي التي أبدت استعدادها لتكون القوّة التي يمكن أن تحلّ محل الجيش الأميركي في تحقيق أهدافه المعلنة وغير المعلنة من التمركّز في المنطقة.
تشكّل المبادرة الأخيرة التي أطلقها شريك أردوغان في السلطة، زعيم حزب الحركة القومية اليميني دولت بهجلي، للسلام التركي-الكردي، مدفوعاً بتصاعد التوتّر في الشرق الأوسط، فرصة مهمّة للتعاون مع واشنطن في المنطقة.
قطعت المبادرة شوطاً كبيراً على مسار السلام مع إعلان حزب العمال الكردستاني عقد مؤتمره العام وسط توقّعات باستجابته لدعوة زعيمه التاريخي عبد الله أوجلان لحل نفسه، في خطوة تحلّ صدعاً كبيراً بين الولايات المتحدة وتركيا فيما يتعلق بشرعية وحدات حماية الشعب وقوات «قسد» في سوريا، العمود الفقري للتحالف الأميركي في الحرب ضد تنظيم داعش منذ عقد من الزمن.
كجزء من وعوده لتفادي «الحروب الأبدية» في الشرق الأوسط، حاول ترامب دون جدوى في ولايته الأولى سحب القوات الأميركية الخاصة التي تعمل إلى جانب «قسد» ضد «داعش» في سوريا. لكن شراكة بين هذه القوّات الموثوقة أميركياً والتحالف الإقليمي لمحاربة «داعش» المشكّل حديثاً، بمشاركة كل من العراق وسوريا والأردن ولبنان إلى جانب تركيا، تمهّد الطريق أمام تعاون أميركي-تركي أوثق في سوريا.
كشف ترامب عن حوار مثير دار بينه وبين أردوغان قائلاً: «هنأته، قلت له لقد فعلتم ما لم يفعله أحد منذ ألف عام. لقد استوليتم على سوريا بأسماء مختلفة لكن النتيجة واحدة».
وسط احتدام المنافسة الإقليمية، تبرز تركيا كقوة موازنة تاريخياً للنفوذين الإيراني والروسي في الشرق الأوسط، مستغلة الإرث العثماني والتوجّه الإسلامي السائد في خطابها الحالي. فضلاً عن ذلك، تضيف إمكانية التعاون في مجال الطاقة بُعداً استراتيجياً آخراً للعلاقة التركية-الأميركية، لا سيما فيما يتعلق باستكشاف النفط الصخري في تركيا وتطوير الغاز الطبيعي في شرق البحر الأبيض المتوسط.
كما تأمل واشنطن في إشراك تركيا في مشروع خط أنابيب غاز شرق المتوسط الذي يهدف إلى نقل الغاز الطبيعي من حقول شرق البحر الأبيض المتوسط (الإسرائيلية والقبرصية بشكل أساسي) إلى الأسواق الأوروبية عبر اليونان وإيطاليا.
لكن كل ما سبق، يعتمد على قدرة أنقرة على طمأنة حلفاء واشنطن في المنطقة، وعلى رأسهم تل أبيب، وهو ما يفسّر سلسلة الاجتماعات التي تستضيفها أذربيجان بين الجانبين التركي والإسرائيلي لاعتماد خط فاصل بين البلدين في سوريا عبر قنوات اتصال موثوقة لمنع أي اشتباكات محتملة، على عكس خطاب أردوغان العلني ضد إسرائيل.
ستمنح الشراكة الأميركية-التركية، بمباركة تل أبيب، ترامب مزايا اقتصادية وسياسية كبيرة. ستستفيد الشركات الأميركية من صفقات النفط والغاز في تركيا وسوريا، بينما سيقوم هو بتقديم المصالحة التركية-الإسرائيلية والشراكة بين «قسد» ودمشق، بمباركة تركية، للناخبين الأميركيين كعملية ناجحة لصنع السلام في الشرق الأوسط دون تدخل عسكري مباشر.
من جهته، يحاول أردوغان استغلال استعداد نظيره الأميركي لعقد الشراكات دون الالتفات لقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان وسيادة القانون وغيرها من المعايير التي باتت تشهد تراجعاً مضطرداً في البلاد. تمنح اللامبالاة الأميركية في هذا المضمار أردوغان شيكاً على بياض للاستمرار في فرض أجندته الداخلية الديكتاتورية.
بالإضافة إلى ذلك، فإن شراكة قوّية مع واشنطن تمنح أردوغان امتيازاً ذهبياً لموازنة الخلافات السياسية والاقتصادية القائمة مع أوروبا، بل وزيادة الضغوط عليها، كورقة تضاف إلى الأوراق الأخرى التي اكتسبتها أنقرة من خلال شراكته القوية مع موسكو وبكين وحتى طهران رغم التحفّظات والمخاوف الأوربية العلنية.
كانت أنقرة، التي تعاني أزمة اقتصادية ومالية خانقة وارتفاع في معدلات التضخّم وانخفاض النمو، الأقل تأثّراً بالتعريفات الجمركية المتبادلة التي فرضها ترامب، مانحاً إياها أفضلية بالمقارنة مع الفاعلين التجاريين الآخرين في السوق الأميركية. كما تتطلّع تركيا للتحول إلى وجهة رئيسية لصادرات الغاز الأميركي الطبيعي المسال في ظل حاجة السوق الأوربية للمادة، مقابل سعيها التقليل من البديل الروسي.
وفي الوقت ذاته، توفر الضغوط الأميركية على الشركاء الأوربيين في حلف الناتو فرصة نادرة لأنقرة للاستفادة من نفوذها الجيوسياسي وقدراتها العسكرية المتنامية، خصوصاً في قطّاع الصناعات الدفاعية، لتسيّد المشهد الأمني الأوربي في سياق المناقشات حول الاستقلال الاستراتيجي للقارة العجوز.
كما سيمنح الدعم السياسي والاقتصادي الأميركي أردوغان فرصة لتذليل العقبات الداخلية أمام إعادة انتخابه لفترة رئاسية قادمة بعد عام 2028، مع تعزيز مكانته كزعيم إقليمي.