هل يصلح «مختبر» الشيخ مقصود والأشرفية لبقية سوريا؟
شورش درويش
طلبت الإدارة الذاتية في اليوم الثاني من وصول طلائع عملية «ردع العدوان» إلى حلب إدخال المساعدات المتمثّلة بشحنات أدوية ووقود لحيي شيخ مقصود والأشرفية المحاصرين. ردّ نظام الأسد، وهو في أهون حالاته، بطلب مبالغ مالية من أجل تمرير المساعدات للحيّين. قد تكون هذه الصورة الأخيرة للنظام كاشفة لسلوكه الفاسد وهو في هزيعه الأخير وكيفية تعامله مع الأحياء الكردية الصامدة والمحاصرة بحلب، لكنها إلى ذلك تكشف عتوّ النظام ويقينه بأن كل حرب يخوضها أو تُخاض ضده ما هي سوى جولة مؤقّتة ومجرّد حربٍ بين حروب يعود بعدها إلى سيرته الأولى.
على الورق، بدا أن الحفاظ على الأحياء الكردية بحلب طوال أكثر من عقد من الصراع العسكري والطائفي المركّب أقرب لمجازفة مستحيلة، إذ تعرّضت تلك الأحياء لصنوف من الاعتداءات العسكرية لاسيما على يد المسلّحين الموالين لتركيا الذين أمطروها بالراجمات وبصواريخ «جهنم» بدائية الصنع، وبفرض أدوار من الحصار تبادلوها مع نظام الأسد. احتاج الحفاظ على الجُزر الكردية في حلب إلى جهود أصعب مع خروج عفرين من يد الكرد مطلع عام 2018، إذ أصبح الثقل الديمغرافي الكردي على الأحياء أشد وطأة ومتطلّبات التسيير الذاتي أصعب، خاصة مع فرض النظام للمكوس والضرائب على المواد والسلع الداخلية للأحياء الكردية وفرض أشكالٍ من الحصار النفسي ومضايقة السكان. تصرّف النظام مع الإدارة الذاتية للحيين كان أشبه باقتباس من صفحات تدخّله في لبنان، بفارق أنه تعامل كاحتلال داخليّ صرف يرى في السكان مادّة للابتزاز السياسي وإثراء ضبّاط الحلقة الضيّقة. وفي مقابل استمرار السياسات التعسفية تجاه الأحياء الكردية، وجدت الإدارة الذاتية نفسها في القامشلي والحسكة منخرطة في عملية تضييق الخناق على «قنصليات النظام العسكرية» المعروفة بالمربّعات الأمنية، إذ كان من شأن هذا التضييق في الحسكة أن يرخي قبضة النظام في حلب.
مع خروج حلب من يد نظام الأسد، وسّع المقاتلون الكرد دائرة سيطرتهم داخل حلب لفترة وجيزة وسيطروا على مطار حلب الدولي، بينما كانوا يخوضون معارك الدفاع عن عشرات آلاف النازحين لمخيّمات تل رفعت بعد أن أعلنت تركيا باسم المليشيات التابعة لها بدء معركة اختارت لها اسماً مخاتلاً «فجر الحرية»، غايتها الأساسية الدخول في حرب فرعية على الكرد في وقت كانت أرتال هيئة تحرير الشام تتجه جنوباً صوب المدن الداخلية. وداخل هذا الانبعاث الجديد لمشروع الحرب المفتوحة، بدا أن مهمة إزاحة الكرد من قلب مشهد ما بعد الأسد صعبة بعد أن تعطّل كل تقدّم للمليشيات التابعة لتركيا في محيط سد تشرين. تبدّل خرائط السيطرة أبقى على الأحياء الكردية في حلب تحت وطأة احتمال تجدد المعارك فيها، إذ بقيت هذه الأحياء آخر البقاع التي تحظى بحماية ذاتية دون وجود غطاء من التحالف الدولي، وفي ظل انعدام توازن القوى، إذ كان للوجود الروسي وتعدد اللاعبين دوره في الحفاظ على حالة «السلام المسلّح» التي طبعت الأوضاع في حلب منذ عام 2018. وبطبيعة الحال، سرت في نهاية مارس/آذار الماضي أنباء عن استعداد المليشيات الموالية لتركيا شن حرب على حيي شيخ مقصود والأشرفية، الأمر الذي يمكن النظر إليه كتتمة للحرب النفسية على من هم داخل هذه الأحياء وعلى مجمل الكرد، وهو ما اختبرته «قسد» طيلة سنوات النزاع المسلّح في سوريا.
مطلع الشهر الجاري، وقّع المجلس المدني للحيين الكرديين اتفاقاً مع دمشق قضى بالاعتراف بخصوصية شيخ مقصود والأشرفية الاجتماعية والثقافية، فيما أوكلت مهمّة أمن الحيين لقوات الأمن الداخلي «الأسايش» ووزارة الداخلية، وانسحاب القوات العسكرية إلى شرق الفرات وتبييض السجون، مع منح الحيين حق التمثيل الكامل والعادل في مجلس المحافظة فضلاً عن التمثيل في غرفتي التجارة والصناعة، وكذلك المحافظة على المؤسسات الخدمية والإدارية والتعليمية والبلديات إلى حين توافق اللجان المركزية المشتركة على حل مستدام. ومعنى ذلك أن مصير تطبيق كامل الاتفاق يتوقّف على ما ستؤول إليه الأوضاع في شرق الفرات وعلى جدارة اللجان المشتركة في تذليل العقبات المحتملة.
في خلفية المشهد، ثمة عاملان ساهما في الوصول إلى اتفاق حلب: الأوّل كان «نداء السلام والمجتمع الديمقراطي» الذي أطلقه الزعيم الكردي عبد الله أوجلان يوم 27 فبراير/شباط وما استصحبه من تبريد لجبهة الحرب التركية على الكرد وإتاحة أنقرة المجال لدمشق لتختبر حلولاً ذات سمة سياسية لمعالجة ملفي شمال شرق سوريا والمطالب الكردية، والثاني هو توقيع الجنرال مظلوم عبدي وأحمد الشرع ورقة التفاهم في 10 مارس/آذار والتي تعدّ اتفاقية حلب إحدى روافدها، بما تتضمّنه من عودة النازحين إلى عفرين ورأس العين/سرى كانيه، وهو ما بدأ يتحقق بشكل تدريجي في هذه الغضون بالنسبة لعفرين. ويمكن إضافة عامل ثالث قد يكون متمماً لما سلف: صعوبة إزاحة «قسد» من قلب المشهد السياسي والعسكري السوري لاعتبارات عدة.
ما جرى في الحيين الكرديين قد يصبح، حال نجاح الاتفاق وصموده، مقدّمة لتشييد نظام لامركزي يشمل غير منطقة في سوريا؛ فإذا اعتبرنا الاتفاق تصوّراً أوّلياً لما ستؤول إليه بعض الأمور في شمال شرق سوريا، فإنه يمكن القول أن شكل الاتفاق قد ينسحب على مناطق سورية أخرى مثل حي جرمانا بريف دمشق ووداي النصاري بريف حمص الغربي وسواها من مناطق. وفي حال انعكس اتفاق حلب على شرق الفرات، فإنه قد ينسحب على مناطق أوسع مثل الجنوب والساحل.
والحال أن مختبر شيخ مقصود والأشرفية قد يكون مقدّمة لتكسير التصوّرات المقلقة حول هيمنة هويّة تسعى للتسيّد والسيطرة باسم الأغلبية غير السياسية، سواء في حيّز ضيق كحيّ هنا وآخر هناك، أو على صعيد محافظات كاملة. فاتفاق حلب كشف إمكانية مواجهة خطاب الهيمنة حين نصّ على «الخصوصية الاجتماعية والثقافيّة» لسكان الحيين. في المقابل، وضع الاتفاق مسؤولية حفظ الأمن على عاتق المجتمعات المحليّة ووزارة الداخلية. وقد يكون هذا الشكل التشاركي مثالياً لحفظ الأمن في بلدٍ أثّرت في مخيلة أبنائه عمليات القتل على أساس طائفي وشهد عمليات انتقام مروّعة.