قراءة في ذهنية هيئة تحرير الشام.. هل تؤسس «دولة عميقة»؟ 

طارق حمو
تمارس هيئة تحرير الشام قدراً كبيراً من البراغماتية والمناورة بعد أن تحولت إثر عملية «ردع العدوان» من المنظمة سليلة جبهة النصرة إلى القوة المغيرة الحاسمة، ومن ثم إلى الدولة إثر تتويج حراكها العسكري في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024 بالحدث التاريخي المفصلي، أي دخول دمشق، محررة ومسيطرة معاً. وقبل ذلك، كانت الهيئة منظمة جهادية منشقة عن «قاعدة الجهاد» بقيادة أيمن الظواهري، دخلت في مجادلات فكرية وعقائدية ومواجهات عسكرية مع تنظيمات شقيقة، نازعت معها الشرعية والأحقية، إلى حين نجحت في الإمساك بجزء من أرض الشام، هو إدلب، لتبني فيه سلطة/إمارة وتنشغل بالتمكين والتحضير، متربصة فرصة الانقضاض على منافسيها بمن فيهم نظام الأسد في دمشق، وفق ضرورة/منهجية مستترة تبدأ من الأضعف إلى الضعيف فالقوي فالأقوى.
بدا الوعي السياسي للهيئة متطوراً من حيث فهم السياق السوري، ومن حيث فهم خارطة القوى العسكرية وكذلك نفوذ القوى الإقليمية والدولية الحاضرة والمؤثرة في الساحة السورية. عمدت الهيئة إلى تطويع الأيديولوجيا لتتواءم مع ثوابت الجغرافيا وتتوافق مع ماهية البنى المجتمعية. وكل ذلك في إطار التحول الذاتي من الفصيل الجهادي الدولي إلى الفصيل الثوري الشامي، ولاحقاً الوطني السوري. وجاءت تلك التحولات كتوطئة للعب دور أكبر كانت تنشده وتتحين لممارسته، وهو التوسع الأفقي، محققة طموحها في التدحرج نحو السلطة في المركز ككرة الثلج التي تتضخم كلما دارت وتقدمت لأنها تجذب وتستوعب في داخلها كميات أكبر وأكبر.
الآن تحكم هيئة تحرير الشام دمشق. وفي زمن البدايات، كانت الهيئة أعلنت الفكاك عن تنظيم القاعدة (للتخلص من الوصاية والتبعية الشرعية) وحاربت تنظيم داعش (للتخلص من منافس يدعيّ تطبيق كل الشريعة وليس جزء منها) وتعهدت بعدم «مهاجمة الغرب في عقر داره» كما تفعل التنظيمات الجهادية العالمية «لإزالة ذرائع المجتمع الدولي» في التحالف ضد الهيئة وسحقها عسكرياً. ثم مكنت الهيئة نفسها في إدلب بعد أن فرضت على كل الفصائل والجماعات الإسلامية الانخراط ضمن صفوفها لتشكيل جبهة إسلامية ـ وطنية تكون نواة القوّة المغيرة حينما تحين فرصة الإغارة على دمشق لإسقاط نظام الأسد واستلام السلطة. وبقيت تجربة إدلب النموذج الذي حاججت عليه الهيئة وزعيمها أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع لاحقاً) الجميع لإقناعهم بأهليتها في إدارة الدولة السورية، وبالتالي سحب هذا النموذج في الحكم على كل مناطق الوطن السوري.
وحالياً، تعيش هيئة التحرير الشام واقع الحكم والإدارة لدولة مدمرة خرجت من حرب أهلية تتنازعها مخططات وأطماع الجوار. ولعل الهيئة، وبحسب فهمها لتوطيد النفوذ والتمكين، كانت ترغب في التعامل مع القوى الفاعلة في الساحة السورية وكسرها، ولم تكن تحسب حساباً كافياً للتدخل السريع لدول ومحاور إقليمية تريد ترسيم مناطق النفوذ والسيطرة في الخارطة السورية. بدأت الهيئة في صناعة واستيعاب وتدوير قوى وشخصيات بشكل وظيفي تمنحها بعض من المساحة على أن تقدمها كشريك وجزء من السلطة. ونالت الفعاليات القريبة من الدولة التركية الحصة الأكبر من مخصصات «الجماعات الوظيفية» التي خلقتها الهيئة لترضي من خلالها تركيا وتمرر سردية أنها تقبل الشراكة في إدارة الدولة، بينما يقول الواقع عكس ذلك. فهذه الجماعات لا تملك من القرار شيئاً، وكل المفاصل الأمنية والعسكرية والاقتصادية والدبلوماسية في يد رجال الهيئة، وهم مجموعة محددة من القريبين من أحمد الشرع.
في الداخل، تريد الهيئة جماعات وظيفية تابعة لها، بينما في الخارج تقدم الهيئة نفسها كجماعة وظيفية قادرة على إرضاء جميع القوى المؤثرة في المشهد السوري، وبالتالي التشّكل بحسب المطلوب. فهي تتعهد بمحاربة الإرهاب وتنظيم داعش وبصيانة الاتفاقيات الدولية التي أبرمها النظام السابق وحماية الحدود والتخلص من النفوذ الإيراني. كل ذلك، مقابل منحها الشرعية وقدراً من السلام لكي تتجذر وتتمكن في الوطن السوري ضمن الفترة الانتقالية التي حددتها هي بخمسة أعوام كاملة.
أما القوى السياسية، فلا مكان لديها في دولة/إمارة الهيئة. فالواقع الحالي كله مبني على سردية «من يحرر يقرر»، وهو ناتج «النصر» الذي حققته الهيئة في الحرب الأهلية السورية. النصر حقق واقعاً سياسياً جديداً منح الهيئة تشكيل «سوريا الجديدة»، كما منح نصر الحلفاء في الحرب العالمية الثانية لهم الحق في تشكيل مجلس الأمن الدولي والتمتع بحق النقض، وبالتالي فرض رؤى وطريقة إدارة المنتصر على المشهد الدولي برمته.  تريد هيئة تحرير الشام بناء دولة على مقاسها هي. دولة يديرها المنتصر ويحتفظ فيها لنفسه بكل مفاصل السلطة ومؤسسات وإدارات «الدولة العميقة». دولة توزع فيها الهيئة بعض المناصب والمهام على أفراد تختارهم هي وترى في أصولهم الأثنية أو الدينية أو الطائفية كنوع من «المحاصصة»، ولكنها محاصصة مزيفة ومعكوسة. لا تقبل الهيئة الحقوق الجمعية بل تختزل حقوق الجماعات بصناعة وتأهيل وتصدير أفراد، فتعمد إلى الترميز والتزوير وتهرب من روح وجوهر المشكلة. وهي عندما تلتقي برجال الدين وشيوخ ووجهاء الطوائف والعشائر وقادة الفصائل المحلية، فهي تنطلق من فهمها في رفض القوى السياسية والأحزاب القائمة على مفهوم الوطنية السورية. تريد التقسيم والتذرير وربط «رموز» هذه المكونات بالسلطة، وبالتالي ترسيخ مفهومها الضيق والمشوه في المحاصصة الهوياتية والجغرافية.
تهدف الهيئة إلى تسويق نفسها كدولة وتنشد القبول من المجتمع الدولي. ترغب في إزالة العقوبات على سوريا وفي مؤتمر دولي لإعادة الإعمار وشطب كل أشخاصها من لوائح الإرهاب. تريد النجاة من تبعات المذابح التي حصلت في الساحل بحق المكون العلوي (أسست لجنة تحقيق ستصدر على الأرجح تقريراً وفق فهم وتصور الهيئة لما حدث). تجهد للتمسك بالاتفاق الذي أبرمته مع قوات سوريا الديمقراطية، والذي فرض عليها من قبل القوى المؤثرة صاحبة الكلمة العليا في المشهد السوري. منتقدو وخصوم الهيئة يتحدثون عن عدم جديتها في تقبل الآخر كإرادة وقوة. يقولون إنها تغدر حينما تقدر، وإن ما حصل من اتفاقيات وتفاهمات هي فقط مرحلة و«إدارة للأزمة» ليس إلا. ولا شك أن الأطراف السورية الفاعلة، سواء في إقليم شمال وشرق سوريا أو في السويداء، تملك تصوراً عن ماهية الهيئة وطريقة تفكيرها، وبالتالي فهي تعي كينونة التنظيم الذي تقابله وتتفاوض معه.
ثمّة وعي بشهوة السلطة لدى الهيئة وقادتها. تاريخ الهيئة معلوم وآليات ابتلاعها للخصوم واضحة ومقروءة. الجميع يعلم بأن ما يحدث ويسير حالياً ليس امتداداً للهبة الجماهيرية التي حصلت في مارس/آذار 2011، والتي طالبت النظام الآفل بدولة القانون والحريات والعدالة ودفعت أثماناً باهظة من دماء وثروات السوريين. إنما هو نتيجة زلزال جيو سياسي وقع في منطقة الشرق الأوسط كان مركزه في غلاف غزة وتاريخه 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وأن جزئية من حصيلة تدمير الدولة العبرية لـ«محور المقاومة» كان وثوب الهيئة على السلطة في دمشق وصنعها لنصر تبني عليه الآن دولة كاملة، وتريد هضم كل التراث السياسي النضالي السوري واختزال التنوع والتعددية في شخصيات هامشية تأتي بها في إطار الترميز/التزوير الذي تمارسه في كل مكان وميدان الآن.
وتستفيد الهيئة من بعض «النخبة» السورية التي تجتهد في تمرير سياساتها وإرادتها بوصف ذلك «مرحلة انتقالية» ستنتهي بدولة القانون والمواطنة والمؤسسات، وأن ما يحصل من تمكين وتمدد لهو «أهون الشرين»، ذلك أن البديل هو حرب أهلية بين المكونات والجغرافيات، وأن الهيئة هي من تمنع وقوع هذه الحرب، وهي لذلك «صمام الأمان» في البلد! ومن الوطنية مساعدتها على اجتياز هذه «المرحلة الحساسة من تاريخ وطننا وأمتنا» بحسب الأفكار/ المنطلقات النظرية لبعض النخبة السورية القديمة/ الجديدة تلك.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد