عام على 7 أكتوبر.. نظرة إلى الوراء

محمد سيد رصاص

تشتعل الحروب بالتدرج. وبالكثير من الأحيان لا تكون نيران ما قبل الحرب مرئية. ففي حرب السويس عام 1956، يمكن القول أن التدرج الاشتعالي استغرق عشرون شهراً بعد أن بدأ في 28 فبراير/شباط 1955 مع الغارة الإسرائيلية على قطاع غزة التي أسفرت عن مقتل أربعين جندياً مصرياً. منذ ذلك اليوم، فكًر الزعيم المصري جمال عبدالناصر بالالتفات شرقاً بعيداً عن الغرب بعد أن كان منذ يوم 23 يوليو/تموز 1952يفكر باستغلال تفكير واشنطن بالحلول محل لندن في الشرق الأوسط من أجل التحرر من الوجود والنفوذ البريطانيين في مصر. وكانت صفقة الأسلحة التشيكية لمصر برعاية موسكو دافعاً رئيسياً لسحب تمويل واشنطن لمشروع السد العالي، وهو ما كان بعد أسبوع دافعاً لعبدالناصر نحو تأميم شركة قناة السويس، ما أنشأ طريقاً مستقيماً وسريعاً نحو اندلاع الحرب بعد ثلاثة أشهر، ولو كانت من دون علم واشنطن، حيث كان للقائمين عليها في لندن وباريس وتل أبيب أهدافاً مختلفة ضد مصر عبدالناصر، ولكن تلاقوا وتحالفوا في تلك الحرب.
في الحرب التي بدأت في 7 أكتوبر/تشرين الأول العام الماضي مع هجوم حركة حماس على إسرائيل في منطقة غلاف غزة، ثم امتدت إسرائيلياً إلى لبنان مع هجوم البيجر في 17 سبتمبر/أيلول الماضي، يجب البحث عن الشرارة الأولى.

يمكن القول إن شرارة هذه الحرب حصلت في 10 مارس/آذار 2023 مع الاتفاق السعودي الإيراني الموقع في بكين. من راقب ردود الفعل في واشنطن، لمس فزعاً أميركياً من دلالات الاتفاق الصينية، أي أن يصبح الأمير محمد بن سلمان نسخة ثانية من عبدالناصر الذي انزاح نحو موسكو، فيصبح الرئيس الصيني شي جينبينغ نسخة صينية عن خروتشوف السوفيتي، الذي أصبح مع خلفائه في الكرملين، في موقع المصارعة الرئيسي مع واشنطن في الشرق الأوسط لعقود ثلاثة مقبلة. وترافق هذا التقارب الصيني مع الرياض، الذي تفسره الحاجة الصينية للنفط، مع علاقات وثيقة بين الرياض وموسكو تعززت كثيراً إثر أزمة التصادم بين السعودية والولايات المتحدة بعد قضية خاشقجي عام 2018. هنا، قَدَحت واشنطن شرارة كبرى للحرب مع زيارة مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان السعودية في مايو/أيار، بحسب ما كشف باراك رافيد في 8 مايو/أيار في موقع «أكسيوس»، حيث عرضت واشنطن خطة جديدة على الرياض مؤلفة من شقين: تطبيع سعودي- إسرائيلي، ومشروع ما سمي بـ«الكوريدور الهندي» ليكون هناك جسر بري إماراتي- سعودي – أردني- إسرائيلي يربط بين الساحلين الهندي والأوروبي في اليونان أو إيطاليا. لاحقاً في صيف 2023، تكشفت تفاصيل أكثر من قبيل مفاعل نووي سعودي تسهله واشنطن للرياض وفتح مخازن السلاح الأميركية أمامها. ثم في 9 سبتمبر/أيلول، تم التوقيع في نيودلهي على اتفاق «الكوريدور الهندي» بحضور الرئيس الأميركي. ويجعل المشروع مرفأ مومباي مصباً لبضائع الهند وجنوب شرق آسيا لكي تنقل بحراً (كما كشفت الخريطة التي أبرزها نتانياهو في خطابه الأخير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 27 سبتمبر/أيلول الماضي) إلى مرفأ في سلطنة عمان شمالي العاصمة مسقط. ومن هناك، براً بواسطة طرق وسكك حديد إلى الإمارات- السعودية- الأردن- إسرائيل من خلال النقب وغلاف غزة حتى مرفأ حيفا. ومن هناك، بحراً إلى الساحل اليوناني مع أنابيب نفط وغاز وكابل ألياف ضوئية تحت البحر بالاتجاهين مع البضائع والسلع. كان هذا الممر شرارة كبرى أتبعتها شرارة رابعة كانت لازمة ونتيجة لها، عندما أعلن الأمير محمد بن سلمان في مقابلة مع شبكة «فوكس نيوز» في 21 سبتمبر/أيلول 2023 أن «التطبيع مع إسرائيل يقترب يوماً بيوم».
كان لافتاً هنا أن الرئيس الأميركي جو بايدن كتب في مقاله المنشور في 18 نوفمبر/تشرين الثاني في صحيفة «واشنطن بوست» أن «أحد أسباب إثارة حماس لهذه الأزمة في 7 أكتوبر هو لتدمير الأمل في ذلك المستقبل للشرق الأوسط الذي أعطاه التوقيع على اتفاق الكوريدور الاقتصادي»، من دون أن يتطرق لدافع حمساوي آخر هو تدمير فرص التطبيع السعودي- الإسرائيلي، وهو ما لانراه عند نتانياهو في خطابه المذكور في نيويورك حينما قال إن هجوم الحركة أتى لضرب «التطبيع الذي كان أقرب من أي وقت مضى بين السعودية وإسرائيل».
في مقال بايدن المذكور، يضع الرئيس الأميركي في منظار تهديفه كلاً من حماس والرئيس الروسي فلاديمير بوتين فقط، ولا يذكر إيران وحزب الله، حيث أعلن الأخيران عدم علمهما بالعملية قبل عام، فيما ظل المسؤولون الأميركيون يؤكدون «عدم وجود دلائل على ضلوع إيران» لأشهر لاحقة في انسجام مع سعيهم إلى تجنب حرب إقليمية تكون أبعد من نطاق قطاع غزة، خاصة مع تأكيد حزب الله أن مشاركته منذ 8 أكتوبر/تشرين الأول تقتصر على «المساندة والاشغال». ورغم مشاركة الحوثيين، التي كانت مؤثرة على التجارة الدولية، إلا أن رغبة طهران التي التقت مع رغبة واشنطن في عدم نشوب حرب إقليمية جعلت نظرية «وحدة الساحات» من دون تطبيق فعلي في مرحلة ما بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول فكانت «حماس» لوحدها عملياً.
وعندما قال وزير الدفاع الإسرائيلي إن «ثقل الحرب ينتقل شمالاً» في 18 سبتمبر/أيلول، كان هذا عملياً قراراً إسرائيلياً بإطلاق حرب في لبنان بعد «انتهاء قدرة حماس العسكرية في غزة»، وبعد أن أظهرت ضربة إيران لإسرائيل في ليلة 13- 14 أبريل/نيسان ضعفاً في القدرة الإيرانية، وهو ما فتح شهية نتانياهو لاستفزاز طهران وجرها للمجابهة، رغم المانع الأميركي، من خلال اغتيال إسماعيل هنية في بيت الضيافة الإيراني بطهران في 31 يوليو/تموز.
من الواضح أن مشروع «الكوريدور الهندي» موجه أساساً ضد مشروع «الحزام والطريق» المطروح منذ عام 2013 من الصين للربط بين آسيا وأوروبا عبر طريقين شرق أوسطيين: باكستان- إيران- العراق- سوريا ومنها بحراً لأوروبا، أو عبر سوريا لتركية نحو أوروبا، وطريق إيراني- تركي نحو القارة الأوروبية، وطريق أوراسي (كازاخستان- روسيا- أوكرانيا- بولندا). منذ الأزمة الأوكرانية، التي تؤشر الكثير من الدلائل على إشعال أميركي لها منذ 2013، أصبحت أوكرانياً سداً أمام الطريق الأوروبي للمشروع الصيني. هناك كثير من المؤشرات أن سياسة واشنطن نحو خطب ود ايران عبر الاتفاق النووي عام 2015، والذي عنى عملياً اغماض عيني واشنطن عن تمدد طهران في منطقة الشرق الأوسط ، كان يراد منها قطع الطريق أمام الصين نحو الشرق الأوسط بسد إيراني. مع انسحاب الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب من الاتفاق النووي عام 2018، تعمّق التقارب الصيني مع طهران ثم التقارب الإيراني مع روسيا التي تزودت بالمسيّرات الإيرانية في حربها مع أوكرانيا. وأفشل علي خامنئي مفاوضات إحياء الاتفاق النووي في فيينا بين أبريل/نيسان 2021 وأغسطس/آب 2022 بعدما أرسل أخو صهره علي باقري كني ليترأس الوفد المفاوض وهو الذي عارض الاتفاق حينما وقّع في 2015.
خلال ستة أعوام مضت، قامت الصين بتحديث وتنويع سكك الحديد بين باكستان وايران ثم طرح مشروع الربط السككي بين إيران والعراق والذي بدأ تنفيذه في الأسبوع الذي سبق مشروع الممر الهندي. وفي مارس/آذار 2023 أثناء زيارة رئيس الوزراء العراقي لأنقرة، طرح مشروع «القناة الجافة: طريق التنمية» لربط مرفأي الفاو ومرسين عبر طرق وسكك حديدية. ثم بدأ الحديث عن الربط السككي بين العراق وسوريا عبر وصل سكة الحديد من القائم نحو ديرالزور. هنا، يمكن تفسير أن الممر الهندي وضع ضد مبادرة الحزام والطريق ولتعويض الأوروبيين بالنفط والغاز عبر الشرق الأوسط بدلاً من روسيا. كما يمكن تفسيره بجعل الهند قطباً آسيوياً حليفاً للغرب ضد الصين. تفسّر تقاربات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مع روسيا والصين وإيران استبعاد تركيا من الممر الهندي. كما أن التباعد الأميركي- الإيراني يفسر شيئاً من هذا الممر، لجهة أن هناك قائمة من المتضررين والمستبعدين هم باكستان، إيران، تركيا، سوريا، لبنان، العراق، الكويت، قطر، اليمن ومصر.

في خطبة جمعة 4 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، قال خامنئي إن «هناك هدف لجعل إسرائيل بوابة لتصدير الطاقة من المنطقة إلى أوروبا»، في إشارة واضحة منه إلى «الكوريدور الهندي». وهنا، إن كان لا بصمة إيرانية واضحة في هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، فإن طهران كانت سعيدة بما فعله يحيى السنوار، حيث أظهر الهجوم أن منطقة غلاف غزة غير آمنة للمر، كما أنه عرقل طريق التطبيع السعودي- الإسرائيلي. وربما هذا ما جعل خامنئي يقول في 3 يونيو/حزيران الماضي في ذكرى وفاة الخميني إن «هجوم حماس جاء في اللحظة المناسبة للمنطقة». وعلى الأرجح أن رؤية خامنئي، التي أبداها في خطاب ألقاه عام 2021 وكررها في 11 سبتمبر/أيلول 2023 عن «الضعف الأميركي»، تنسجم مع رؤية بوتين حينما غزا أوكرانيا في 2022. وعلى الأرجح أيضاً أن تلك الرؤية يتشارك فيها كذلك السنوار ونصرالله الذي قال إن «إسرائيل هي أوهى من بيت العنكبوت»، ولولا ذلك لما حصل هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول الغزاوي وذلك اللبناني في اليوم التالي. ولكن إلى أي مدى أظهر عالم ما بعد 7 أكتوبر العكس؟

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد