شورش درويش
لطالما وصف الإعلان عن مشروعات النقل والربط الكبرى المستقبلية بأنها موازية أو مشابهة لمشاريع تمّ تنفيذها في أزمنة أسبق وحققت انجازات ملحوظة، ومن جملة ذلك التشبيهات التي انهالت على طريق التنمية، الذي أعلن عنه رئيس الوزراء العراقي محمد شيّاع السوداني في أيار/مايو الماضي، فالمشروع بات يوصف بأنه قناة السويس الجديدة، أو مشروع ماريشال الجديد، أو سكة حديد بغداد الجديدة، وطريق الحرير الجديد.
بطبيعة الحال ليس المشروع جديداً، إذ سبق أن حمل المشروع ذاته في السنوات السابقة اسم مشروع “القناة الجافّة” وقد كانت وزارة النقل العراقية قد أعلنت في نيسان/إبريل 2010 قبولها لعروض استثمارية تركية لبناء سكك حديدية من ميناء الفاو الكبير (Great Fav) الذي أوكل بناؤه لشركة دايو الكورية الجنوبية، والذي كان سيمتد إلى سوريا وتركيا، إلّا أن أحداث الربيع العربي وانخراط تركيا في مشكلات المنطقة بشكل حاد حال دون المضي في هذا المسار الاستثماري آنذاك.
نظرة إلى الشراكات والتحديات اقتصادية
مشروع طريق التنمية كما هو مخطط له سيربط ميناء الفاو الكبير بتركيا وأوروبا، ويشهد المشروع موافقة عشرة دول إلى جانب العراق وهي: السعودية وتركيا وسوريا والأردن والكويت والبحرين وقطر والإمارات والبحرين وإيران، فيما يطمح المسؤولون العراقيون من أن يحقق المشروع تطويراً يتجاوز قطاع النقل العراقي المتهالك ليحقق تنمية موازية في مجالات الزراعة والصناعة والتجارة إضافة لتطوير المدن التي سيقطعها الطريقان، الحديدي والبري، هذا إضافة إلى تصوّر متفائل يسعى لإنشاء مدن صناعية جديدة وأخرى سكنية على جانبي الطريق وتجديد البنية التحية المتهالكة في المناطق التي تعبرها الطرق.
وتقدّر تكلفة المشروع الأوليّة بــ17 مليار دولار، وبطول يصل إلى 1190 كم ممتداً من ميناء الفاو بمحافظة البصرة جنوباً وحتى فيشخابور على الحدود التركية شمالاً، على أن يُنفَّذ في عدة مراحل تنتهي عام 2050. غير أن أحوال الاقتصاد العراقي المتردّية والعجز في الموازنة العامة قد يجعل من المشروع مجرّد إعلان دعائي، إذ لا يمكن للقطاع العام العراقي تولّي مهمة تنفيذه. وجدير بالملاحظة أن الحكومات العراقية المتعاقبة كانت تعلن عن مشروعات ضخمة تضعها في واجهة المشهد السياسي لأسباب انتخابية وتحقيقاً لإنجازات صورية أو تهرّباً من سؤال الاخفاق الاقتصادي، وهو ما بات يقلل من شأن جدية تنفيذ هذا المشروع التنمويّ الذي تقول الحكومة أنه سيبعدها من الاعتماد التام على قطاع النفط، ويوفّر لها مداخيل سنوية إضافية تقدّر بـ4 مليار دولار، ويخفّض من مشكلة البطالة المتنامية.
كما أن الشراكة بين القطاعين العام والخاص تبدو متعذّرة أيضاً، نظراً إلى قلّة خبرة القطاعين في إرساء شراكة متينة في ظل غياب سوابق بين الجهتين. غير أن البديل المحتمل للتغلّب على مشكلة التمويل قد يكون بإفساح المجال للاستثمارات الخارجية، لكن تحقّق مثل هذا السيناريو قد يضيف إلى قائمة المتدخّلين في الشأن العراقي دولاً أخرى، ليس آخرها الصين التي تطمح للنفاذ إلى المنطقة عبر مشروعات الإنماء والإعمار، لاسيما وأن بكين كانت قد قرّرت في وقت سابق استعدادها لنقل جزء من معاملاتها التجارية إلى مدينة الفاو، هذا فضلاً إلى سعيها الموائمةَ بين مشروعي طريق التنمية والحزام والطريق. فهل ستفسح الولايات المتحدة لمثل هذا التمديد الصيني (التدخّل الناعم) في منطقة ما تزال على رأس أولويات واشنطن رغم تراجع زخم حضورها فيها منذ العام 2015؟ ولعل هذا التنافس الدولي على التمدد داخل العراق يمثّل واحداً من التحديات التي تضاف إلى التحديات المالية التي تعترض المشروع.
المعوّقات السياسية أو هل يمكن إرضاء تركيا؟
لايمكن استشراف آفاق المشروع بمعزل عن الجزء المتمّم له في تركيا، ذلك أن تراجع تركيا لاحقاً، أو وضعها لاشتراطات صارمة، قد يودي بالمشروع لأن يصبح مشروعاً محلّياً.
إلى جانب العوائد الاقتصادية، فإن الأوضاع السياسية الراهنة في المنطقة التي انطلق منها المشروع، يكاد يكون واحداً من الديناميكيات المحفّزة التي دفعت حكومة السوداني لطرح مشروع الطريق وتقديمه كمشروع إقليمي أيضاً، ذلك أن العراق يريد الاستفادة من مناخ تطبيع العلاقات في المنطقة (التطبيع السعودي-الإيراني، والسوري-العربي، التركي-لسوري)، هذا فضلاً عن جانب آخر يحاكي التجربة الخليجية الجديدة المتمثّلة بالتعاون مع الصين، والهند بدرجة أقل، وذلك تنويعاً لسلّة العلاقات الخارجية بالشكل الذي يخفف من حدّة الاعتماد على الولايات المتحدة وأوروبا.
لكن عقدة النجار فيما يخص التحديات السياسية يكمن في الابتزاز التركي الذي سيظهر خلال الفترة المقبلة، فرغم أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وصف المشروع، في مؤتمر صحفي مشترك مع رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني عقب لقائهما في آذار/مارس الماضي بأنقرة، بأنه “طريق الحرير الجديد”، وتحدث عن العوائد الاقتصادية والمنافع المتبادلة إلّا أن الشرط “الأمني” غلب على لغة اللقاء، إذ أعاد أردوغان التذكير برغبته توصيف بغداد لحزب العمال الكردستاني “كتنظيم إرهابي وتطهير أرضهم من هذا التنظيم”، ولعل تكرار اسم الكردستاني جاء على نحو أُريد منه إظهار هذه المسألة بأنها اشتراط لإكمال العمل أكثر من أنه مجرّد تذكير بالمطالب التركية من بغداد.
خلال العقدين الأخيرين، نجحت تركيا في إنشاء معسكرات وقواعد داخل أراضي العراق وإقليم كردستان، مستفيدة من الخلافات السياسية داخل الإقليم في مناسبات عدّة، ومن ضعف بغداد بعد عام 2003، وقد تنامى هذا النشاط العسكري بعد تفشّي تنظيم داعش والاضطراب الكبير الذي حصل بفعل ذلك عام 2015، ليقيم الجيش التركي معسكرات جديدة في بعشيقة وصوران وقلعة جولان وزمار، ولتحوّل أنقرة بعض معسكراتها إلى قواعد عسكرية كما في قاعدتها في منطقة “حرير” بالقرب من أربيل، وكذلك أنشأت تركيا قاعدة سيدكان ومقرات في مدينتي جومان وديانا بالقرب من جبال قنديل، ليبلغ إجمالي عدد النقاط العسكرية التركية 30 معسكراً وقاعدة عسكرية منها 11 قاعدة دائمة، فضلاً عن تنامي نشاط جهاز الاستخبارات التركي (MIT) الذي باتت له 4 مقرات رئيسية له في مناطق العمادية، وماتيفا، وزاخو، وكارباسي في مركز مدينة دهوك.
لطالما اصطدم هذا التدخل العسكري والأمني التركي بحاجز اعتراض عراقي وفي التسبّب بمشكلات دبلوماسية بين البلدين، إذ سبق للبرلمان العراقي في يوليو/تموز 2022 أن استعرض في جلسة خاصة بالانتهاكات التركية، بعيد سقوط ضحايا بالطيران الحربي التركي في كردستان العراق الانتهاكات التركية وسجّل العراق “أكثر من 22 الف و700 انتهاك تركي ضد سيادة العراق” حتى تاريخه، فيما قدمت وزارة الخارجية 296 مذكرة احتجاج على التدخلات التركية وتم إدراجها مؤخراً مع الشكوى المقدمة إلى مجلس الأمن الدولي تجاه تركيا، وهو ما عنى رفضاً عراقياً للتدخلات العسكرية التركية من ضمنها مسألة القواعد والمعسكرات التركية مطالبين بسحب القوات التركية من داخل الأراضي العراقية.
غير أن هذه الأزمة المستمرة، مضافاً إليها مسألة تقليل حصّة العراق من نهري دجلة والفرات والتي تسبّبت في أزمة بيئة عراقية غير مسبوقة، تدخل في حسابات العلاقة المضطربة بين البلدين. وعليه فإن تركيا لن تمضي في دعم المشروع ما لم تحقق مزيداً من التقدّم العسكري والتدخّل في المناطق الواقعة قرب سنجار وفي سهل الموصل، ذلك أن الذريعة الأمنية تؤمّن لأنقرة غطاءً للتمدد داخل الأراضي العراقية والاقتراب بشكل أكبر من “استعادة” الأراضي التي لطالما طالبت بها منذ العام 1925، أي الموصل التي تعتبر فاكهة تركيا المحرّمة، وهو ما يعني أن الشراكة على أساس طريق التنمية يصطدم بمطامح تركية التي لن ترضى عنها كتل وازنة من الطبقة السياسية العراقية، وكذا إيران، ودول عربية/خليجية، ومن المفيد التذكير بأن الشراكة الاقتصادية والوشائج المالية بين إقليم كردستان وتركيا لم تحولا دون التمدد العسكري الذي ينغّص فكرة الشراكة بما هي تعادل في الحقوق والواجبات واحترام متبادل للسيادة.
صفوة القول: إن التحديات الاقتصادية وتعذّر الوصول إلى شراكات مالية مناسبة هي واحدة من المعوّقات الرئيسة. كما أن التحديات السياسية المتمثّلة بالسلام الهش بين دول المنطقة، التي تحاول بغداد التوفيق بينها والوصول إلى توليفة تقول بأن الاقتصاد قادر على كبح جماح المشكلات القائمة فإنها تبقى مجرّد قراءة آنية تفتقر للخبرة اللازمة في فهم التعقيدات التي تعيشها المنطقة وسرعة نشوب المشكلات بين دولها، كما أن محاولة إرضاء أنقرة تبدو مسألة عصيّة وشبه مستحيلة في ظل حكومة تركية تؤمن بالتوسّع وبالثقة المفرطة بعضلاتها العسكرية (Hard power) بدل الاعتماد على قدراتها الاقتصادية وقوّتها الوسطى (Middle power). حاصل هذه المسائل قد يجعل من طريق التنمية مجرّد سراب سياسي أو مجموعة أوراق ومخططات ودراسات جدوى تنتظر زمناً آخر.