المركز الكردي للدراسات
تشهد القارة الأوروبية تغيراتٍ سياسية عديدة منذ نحو عشرة أعوام، تكاد تكون جذرية، أشبه بالانزياح عن الواقع الذي استمر لعقودٍ طغت عليه ثنائية يمينة-يسارية تقليدية، لتفرض بذلك واقعاً جديداً أملته الأزمات المالية والهزات الاجتماعية وموجات اللجوء وما خلفه كل ذلك من شعورٍ باللايقين لدى الناخب الأوروبي قلَب مزاجه، وهو ما استثمرته أحزاب وحركات اليمين الشعبوي التي نجحت في إيصال رسالتها بطريقةٍ تستثير مشاعر النوستالجيا لدى ذلك الناخب.
ففي ألمانيا، التي تحمّلت العبء الأكبر في أزمة اللاجئين الأوروبية في 2015 بفعل سياسة الأبواب المفتوحة التي اتبعتها المستشارة آنذاك أنجيلا ميركل، نجح حزب البديل من أجل ألمانيا المشكّل حديثاً في تصدر المشهد. فهذا الحزب، الذي تأسس في 2013 فحسب كحركةٍ احتجاجية على اليورو، نال في انتخابات 2017 التي كانت الأولى التي يشارك فيها 94 مقعداً. وفي انتخابات 2021، احتفظ بـ83 نائباً وأضحى ثالث أكبر الأحزاب في البرلمان الألماني بعد الحزبين اللذين تسيدا المشهد السياسي لعقود وهما الاشتراكي الديمقراطي والمسيحي الديمقراطي. وتتزعم كتلته البرلمانية نائبة صغيرة السن سياسياً هي أليس فيديل وتبلغ من العمر 44 عاماً. ويطالب مؤيدو الحزب بحظر بناء المساجد ومنح حرس الحدود صلاحيات إطلاق النار على المهاجرين غير الشرعيين.
وفي الجارة النمسا، يأتي حزب الحرية في المرتبة الثالثة داخل البرلمان بـ31 نائباً من 183. وفي انتخابات الرئاسة العام الماضي، حصل مرشح الحزب فالتر روسنكرانز على 18 في المئة من الأصوات ليحتل المركز الثاني. وشارك الحزب للمرة الأولى في تاريخ النمسا في الائتلاف الحكومي للمستشار سيبستيان كورز، وحصل على منصب نائب المستشار الذي تولاه هاينز كريستيان ستراشه بين عامي 2017 و2019. ولعل أشهر سياسيي الحزب يورغ هايدر، الذي لقي حتفه في حادث سيارة عام 2008، وكان يمجّد معسكرات العمل القسري النازية ويعتبرها حلاً لمشكلة البطالة، ووالداه عضوين في الحزب النازي. ويرفع الحزب شعارات: النمسا أولاً، وأولوية التوظيف للنمساويين، وتفضيل قيم العائلة، وأن ينشأ الأطفال في كنف عائلة نووية.
أما في الجارة الأخرى هولندا، نجح حزب الحرية، ولا يتجاوز عمره 17 عاماً، وزعيمه خيرت فيلدرز في لعب دور بيضة القبان في التشكيلات الوزارية. وكان للحزب 12 مقعداً في مجلس النواب حتى ما قبل أزمة اللاجئين من إجمالي 150 (بلغت حصته 15 في الأساس لكن طُرد نائب وغادره آخران). ثم ضاعف الغلة تقريباً في انتخابات 2017 ليصبح عدد نوابه 20 قبل أن يستقر على 17 نائباً في انتخابات 2021 ويصبح ثالث أكبر الأحزاب في البرلمان. وللحزب مقارباتٍ تبدو مستهجنة أوروبياً من قبيل مطالبته بالسماح بالاعتقال الإداري، أي من دون محاكمة، فضلاً عن الخطاب المعادي للمهاجرين ودعوته إلى ذِكر الخلفية العرقية في بطاقة الهوية.
وشمالاً، تمكّن حزب ديمقراطيو السويد من فرض نفسه على المعادلة السياسية عبر استراتيجيةٍ متأنية تتلخص في ترك المشهد السياسي يتدهور بفعل عوامل عديدة، وتالياً انتظار مجيء الناخب الغاضب من الأوضاع الحالية إلى الحزب بدلاً من العكس. وتحملت المملكة الاسكندنافية عبئاً كبيراً لجهة استقبال اللاجئين عبر الأعوام الماضية، وباتت اليوم من أكثر دول الاتحاد الأوروبي تشدداً في منحهم حق الإقامة. ويتضح الصعود الصاروخي للحزب من خلال نظرةٍ سريعة إلى أدائه منذ تأسيسه في 1988. ففي انتخابات 2006، فشل في تجاوز العتبة التي تسمح له بدخول البرلمان. لكنه في 2014، ومع تدفق اللاجئين، امتلك 49 مقعداً من أصل 349. أما في انتخابات العام الماضي، فحل في المرتبة الثانية محدثاً زلزالاً سياسياً في بلدٍ لطالما تفاخر بأنه يوتوبيا اشتراكية وأن المجتمع بحد ذاته يساري التوجه وليس النظام فحسب. والحزب الذي لديه اليوم 73 نائباً يشارك بشكلٍ غير رسمي في الائتلاف الحكومي، وحظي بتصويت 20 في المئة من السويديين، أي أن من كل خمسة سويديين هناك شخص يتبنى أدبيات الحزب الذي تعود أصوله إلى أحزاب نازية صغيرة محظورة. ويرى رئيس حزب ديمقراطيو السويد جيمي أوكيسون أن تقدم حزبه جزء من صورة أشمل لحركة تمتد في أوروبا والولايات المتحدة تتحدى المؤسسة الرسمية التقليدية.
وشرقاً إلى بولندا، يطل حزب العدالة والقانون البولندي الذي تأسس في 2001 وله 235 نائباً في البرلمان من إجمالي 460 وحصد 43% من الأصوات في انتخابات 2019، بينما لم يكن للحزب أكثر من 146 نائباً في انتخابات 2007 وهو ما يشي بخطٍ تصاعدي واضح للأفكار اليمينية الشعبوية في دول المنظومة الشيوعية السابقة. ورئيس الوزراء الحالي منذ 2017 هو زعيم الحزب ماتيوز موراوسكي الذي كان نائباً لرئيسة الوزراء بياتا سيدلو وهي قيادية في الحزب الذي نجح في إيصال مرشحه إلى الرئاسة أندريه دودا إلى المنصب في انتخابات 2015 وإعادة انتخابه في 2020. ومنذ حرب أوكرانيا، ارتفع منسوب الدعم الشعبي لرئيسي الوزراء والدولة في ظل التهديدات الروسية، وهي الجزئية التي تبرع فيها الأحزاب اليمينية الشعبوية القادرة على حشد المؤيدين حولها بخطابها المعادي للآخر والخارج والغريب. واستثنى الحزب اللاجئين الأوكرانيين من خطابه المعادي للمهاجرين، غالباً لأن الأمر يندرج في إطار الصراع الكاثوليكي الأرثوذكسي في أوكرانيا، إذ يبدو أن من مصلحة الحزب جذب الناخبين البولنديين، الكاثوليك بمعظمهم، عبر تبني حماية اللاجئين الأوكرانيين الكاثوليك منهم وكذلك الأرثوذكس بهدف كثلكتهم.
ولا تختلف الصورة كثيراً في دولة شيوعية أخرى سابقاً هي المجر التي يتمثل اليمين الشعبوي فيها بحركة وطننا التي تأسست في 2018 ونجحت في تجربتها الانتخابية الأولى العام الماضي في دخول البرلمان بستة مقاعد من 199. وكما بقية أحزاب اليمين الشعبوي التي تروج لنفسها على أنها طريق ثالث بعيداً عن الثنائية التقليدية بين اليمين المحافظ واليسار الديمقراطي، يؤكد قادة الحركة أنهم أقرب إلى حزب خضر محافظ يشدد على ضرورة المحافظة على البيئة ويتغنى بطريقةٍ شعبوية بطبيعة البلاد وغاباتها وأنهارها. وخلافاً للمعادلة في بولندا، يدعم الحزب روسيا ويطالب أوكرانيا بالتخلي عن أراضيها من أجل وقف الحرب، لكنه يؤيد إعادة الخدمة العسكرية الإلزامية للحفاظ على أمن المجر.
ولعل الاختراق الأكبر لليمين الشعبوي تحقق في فرنسا. ففي انتخابات الرئاسة العام الماضي، نجحت مارين لوبن في الحصول على 41 في المئة من الأصوات مقابل 59 في المئة للرئيس الحالي إيمانويل ماكرون. وتعد هذه النسبة غير المسبوقة ذات دلالاتٍ عميقة عن مدى التحول في مزاج الناخبين الفرنسيين الذين أعطى أكثر من 13 مليوناً منهم أصواتهم لمرشحة مثيرة للجدل مشهورة بمعاداة الأقليات والمهاجرين، بالإضافة إلى نفورها الشديد تجاه فكرة الاتحاد الأوروبي. وكانت لوبن نالت 33 في المئة في انتخابات الرئاسة في 2017 بمقدار ما يزيد عن عشرة ملايين ونصف المليون صوت. ولم تنحصر تلك الأرقام في انتخابات الرئاسة فقط، بل نجح حزب لوبن المسمى التجمع الوطني في حصد 89 مقعداً في البرلمان في انتخاباتٍ جرت بالتزامن مع الاستحقاق الرئاسي، ليصبح رابع أكبر الأحزاب، بعدما كان عدد نوابه في الدورة السابقة لا يتجاوز سبعة.
ويبقى، أن جل ما يجمع تلك الأحزاب عقيدة أقرب إلى القومية الانعزالية تروج لها قيادات شابة مفوهة تتحدث بلغة بسيطة أقرب إلى لغة الشارع بعيداً عن الصوابية السياسية، وهو ما يجعلها تبدو متفهمة لهموم المهمشين ومشاكلهم والأقدر على حلها، في حين يلاحظ أن أسماء الأحزاب اليمينية الشعبوية تحمل معانٍ نوستالجية تضامنية، الأمر الذي يكسبها شعبية في ظل حالة القلق التي تعتري الناخب الأوروبي من التغييرات التي تطرأ على سوية عيشه التي بقيت ثابتة تقريباً لعقودٍ طويلة. وعليه، فإن تلك الأحزاب تلعب وستظل تلعب على المدى المنظور دور صانع الملوك على الساحة السياسية الأوروبية.