في مفردات ومشاهد الخطاب الدعائي لأردوغان

طارق حمو

لا تعتمد استراتيجية حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا منذ عام 2002، في إطار استعداداته للانتخابات الرئاسية والبرلمانية في 14 أيار 2023، فقط على الإبقاء على هيكلية التحالف مع شريكه حزب الحركة القومية المتطرف، ومؤخراً تم توسيع هذا التحالف عبر ضم أحزاب صغيرة أخرى (عنصرية الخطاب، وإجرامية التاريخ، كما في حالة حزب هدى بار، قد لا تحوز، مجتمعة، على أكثر من 100 ألف صوت)، ولكن أيضاً تعتمد هذه الاستراتيجية على خطاب تكفير وتخوين وتحريض وكراهية، تنشره وتسوّقه وسائل الإعلام الموالية للحكومة، إضافة طبعاً إلى “تحركات ميدانية”، يقوم بها العدالة والتنمية، وعلى أعلى المستويات، هدفها شراء أصوات المواطنين، عبر اللجوء لطرق مخجلة لا علاقة لها بأساليب الدعاية والترويج المألوفة في الدول الديمقراطية المتحضرة، فضلاً على أنها تحط من كرامة المواطن لأنها تخاطب احتياجاته المادية وليس عقله وإرادته الحرة، من قبيل توزيع مبالغ مالية على الناس في الشوارع، ووضع سلال غذائية أمام أبواب المنازل. ويقوم رجب طيب أردوغان رئيس الجمهورية، شخصياً، بتوزيع الأموال وسلال الغذاء على المواطنين، بل ويدخل في “اشتباكات” لفظية مصورّة مع هذا وذاك، ممن يمد يده إلى جراب الرئيس، ويظن هذا الأخير إنه ليس أهلاً للحصول على المبلغ/ المكرمة!

المطلوب من المواطن الانحدار إلى هذا المستوى المتدني والبدائي من “العلاقة” مع السياسة، والتفاعل مع هذا الأسلوب وتمريره، بل وقبول الرشاوي الصغيرة والمهينة عن طيب خاطر، كثمن للتصويت لتحالف الحزب الحاكم ومنحه تفويضاً جديداً لإدارة البلاد بنفس العقلية والمنهج القديم! أما الحديث عن الملفات والقضايا الكبرى وانتقادها، مثل تردي وتراجع الاقتصاد، والمأسسة الرسمية للفساد، والتحالف مع الإرهاب ( تشكيلة واسعة من الإخوان والجهاديين والميليشيات المسلحة المأجورة) والتدخل الاحتلالي في بلدان قريبة وبعيدة، والإصرار على الحرب ضد الشعب الكردي وممثليه، ومعاداة قيم التسامح والديمقراطية لصالح نشر خطابي التطرف الديني والعنصرية القومية، فهو أمر غير مسموح، ويدرجه الحزب الحاكم في خانة “الخيانة الوطنية”!

وتشمل وعود أردوغان وحزبه للمواطنين المكتوين بنار التضخم والفساد وتردي الخدمات، حزمة أخرى منها: الإنترنت المجاني، والقروض الميّسرة بدون فائدة، وتخفيض سعر الغاز والكهرباء والماء لأشهر، وغير ذلك. وكل هذا بشرط إعادة الانتخاب وتناسي هوية الحكومة التي حكمت البلاد لأكثر من عشرين سنة، وكانت المسبب لكل هذا الواقع البائس الذي جعل المواطن يحتار في كيفية تأمين أساسيات الحياة من طعام ومسكن وخدمات أولية. من يتساءل عن هوية الجهة المسؤولة عن التراجع الخطير في مستوى المعيشة، وفقدان العملة الوطنية لأكثر من نصف قيمتها أمام الدولار، والتضخم الهائل، وتردي الخدمات وانتشار الفساد، لا يؤخذ على محمل الجد، ولا يتم الإصغاء إليه، بل يتم تخوينه وملاحقته بالدعاوي القضائية والسجن.

سقوط أردوغان وخسارته وحزبه للانتخابات يعني بدء مرحلة المحاسبة والمحاكمات وفتح الملفات الكبرى التي تورط فيها هو وأركان حزبه

نقد الحكومة وما تسببت به من تراجع وفشل شامل على كافة الأصعدة، لا يسمعه المرء في وسائل الإعلام التي تسيطر عليها الحكومة والجماعات الأوليغارشية المرتبطة بشخص أردوغان، وأولاده وأصهاره.

وبالرجوع إلى الخطاب السياسي للحزب الحاكم في الحديث عن “الملفات الكبرى”، نجد تشكيلة واسعة من مفردات التخوين والتكفير، التي تطال الخصوم، ويهبط أردوغان إلى مستوى “التأصيل الطائفي”، فيتهم منافسه كمال كليجدار أوغلو بالكفر، لأنه ينحدر من الطائفة العلوية، وبالتحالف مع “الإرهابيين”، لأنه جلس وحاور نواب وقادة حزب الشعوب الديمقراطي، ويعتبرهما معاً “طابوراً للغرب وأميركا”، يعملان في إطار “حرب صليبية” يقودها الغرب (كله، ومعه الناتو طبعاً!) ضد تركيا المسلمة! ويكرّر أردوغان كل يوم هذا الخطاب الغارق في الكراهية والتخوين والتكفير والتنمر، للتأثير في الكتلة المتدينة (الصلبّة، ولكن المتآكلة!) حول حزبه، والتي اعتادت انتخابه ووقفت وراء تصدره كل هذه السنوات. أردوغان، باستخدامه هكذا مفردات خارجة عن قاموس الانتخابات وعموم تراث الديمقراطية، يرمي إلى شحن هذه الكتلة بالتطرف والتعصب وشد عصبها القومي والطائفي، بغية قولبتها بالشكل الذي يريد، والحصول على أصواتها “المضمونة”. وما نظريات المؤامرة التي يجترحها هنا وهناك، وحديثه عن انتصارات وهمية حققها، ومنع من خلالها “تقسيم تركيا”، إلا جرعة زائدة من مادة التخدير التي يستخدمها للتأثير في تلك الجموع، واستنهاض هممها، بحيث تصبح مطواعة وسهلة الانقياد، فتعمد للتصويت للحزب الحاكم، بدافع “وطني” وآخر “ديني” منعاً لوقوع ” الكارثة وسقوط وتقسيم تركيا”، وبدون أن تقرأ أي كلمة من البرامج السياسية للكتل، أو تدرس تجارب وسير حياة وعمل مرشحيها.

مستوى الانحدار الذي وصل إليه أردوغان وحزبه من خلال الإصرار على استخدام هذا الخطاب في الشحن والتحريض والتخوين والتكفير والقذف، يوحي بمدى المأزق الحقيقي الذي يعيشانه والتهديد الكبير والصميمي الذي يشعران به من التحالف المنافس.

إن سقوط أردوغان وخسارته وحزبه للانتخابات يعني بدء مرحلة المحاسبة والمحاكمات وفتح الملفات الكبرى التي تورط فيها هو وأركان حزبه، والكشف عن مدى الفساد المهول ووقائع نهب المال العام، ناهيك عن جرائم عصابات الدولة العميقة في القتل والتخريب وتمويل الإرهاب، داخل وخارج البلاد.

المتابع لما يحدث الآن في تركيا من مجريات الحملة الانتخابية، وذخيرة الاتهامات الخارجة عن العادة والمألوف في البلدان الديمقراطية، سيعي حجم الاستقطاب والاحتقان، والمأزق الكبير لسلطة الفرد الواحد، الذي جمع كل خيوط اللعبة السياسية في يده، وبنى تحالفات داخل الجيش والداخلية والقضاء والإعلام، بغية التجذر والديمومة، ارتكب معها، ومن خلالها، تجاوزات وجرائم كبيرة ومهولة بحق مواطني بلاده، وبحق مواطني دول أخرى، وبحق الإنسانية ككل.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد