في الذكرى 12.. ضرورة البحث عن إجابات سوريّة للأسئلة الصعبة  

بشار عبود
من يستطيع أن يؤكد عدم وقوع المجتمع السوري في قبضة الاستبداد إذا ما سقط نظام الأسد؟ كيف يمكن منع إنتاج استبداد جديد لا يجعلنا نواصل دفع الأثمان الثقيلة التي ندفعها الآن؟ هل يتفق السوريون اليوم على مفهومٍ واحد للدولة الوطنية؟ وهل لدينا أي تصورٍ عن بنية النظام الديمقراطي بتطبيقاته الحقوقية والدستورية وقوانينه التشريعية التي تكفل الحقوق للجميع كما الواجبات عليهم؟ هل رحيل بشار الأسد عن الحكم سيعالج وحده كل معاناتنا أم أنه سيكون مجرد تفصيل صغير جداً قياساً بالمآسي التي راكمتها سنون الحرب، وتحتاج كل واحدة منها إلى سنوات من الجهود الوطنية لإصلاحها؟
هل جهّزنا مشروعاً سورياً بحوامل سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية توافق عليه كل مكونات الشعب من إدلب إلى الساحل ومن درعا إلى عفرين والقامشلي؟ مشروع يمنح المواطنين حقوقهم المُستحقّة والتي سُلِبَت منهم على مدار عقود. من منا ينكر أن بلدنا يضيع أمام أعيننا فيما نحن ندير ظهورنا لبعضنا البعض؟ ألم نشعر بالصدمة والألم عندما رفضت المعارضة السورية المساعدات التي قدمتها الإدارة الذاتية إلى سكان مناطق شمال yغري سوريا عقب الزلزال المدمّر؟ أم أننا اعتدنا ارتهان المعارضة للخارج فأصبح ينطبق عليها مقولة أن «الضرب بالميت حرام»؟
عقب سنوات الخيبة التي طالت الروح السورية، لا أظن أن سوريان اثنان لديهما الحد الأدنى من الوطنية يختلفان على تأخرنا كثيراً في الإجابة على هذه الأسئلة التي جرى تغييبها عن العقل الجمعي السوري لأكثر من عقد.
ربما لم يحن الوقت بعد لكي نحصي أوجاعنا وضحايانا كلها، فنزيف الدم لا يزال مستمراً. لكن من ينكر أن بلدنا تحتله جيوش عدّة؟ ومن لم يشاهد طبقة أمراء وأثرياء الحرب وهي تنمو على حساب الشعب السوري الذي وصلت نسبة الفقر المدقع فيه إلى 90 في المئة وفقاً لمنظمات الأمم المتحدة؟ ألا يمكن القول، وبمرارةٍ شديدة، أننا لا نملك قرارنا الوطني والسيادي؟، وأن لا رأي لنا في كل ما نواجهه على أرضنا؟ وأن مهمة السوريين (نظاماً ومعارضة) اقتصرت على استلام الأوامر وتنفيذها بما يخدم مصالح الدول التي تتحكم بمصير بلدنا؟!
لاشك بأن الاستبداد الذي عشناه طوال عقودٍ على يد نظام الأسد ساهم بإيصالنا إلى ما نحن عليه الآن من ضياع. فمن وُلِدَ من رحم الظلم لن ينجو من تشوهاته الكارثية بسهولة، والتي تجلّت بوضوح خلال العقد الأخير. قد يُشكّل هذا الاعتراف نقطة بداية لاستيعاب المشكلة وتفهّم عدم ثقة السوريين ببعضهم ولجوء كل مكوّنٍ منهم للبحث عن خلاصه بعيداً عن الآخرين. وعليه، فإن طريق العمل الوطني السوري الجامع لن يكون هيّناً على السوريين، ولن يكون بمقدور أطراف الصراع، بحالتهم الراهنة من تفرقة، أن يقودوا مثل هذا الحِمل للوطن كله أو أن يضعوا اللبنة الأساسية لعملية البناء على أسس جديدة ومصالح مشتركة.
لماذا لم تنجح المعارضة في سوريا؟ 
منذ تولي المعارضة السورية «سلطة» مقارعة نظام الأسد نيابةً عن كل الشعب السوري وتأسيس المجلس الوطني في قطر 2012، الذي تم تحديث اسمه لاحقاً إلى «الائتلاف المعارض» في محاولةٍ للتغطية على فشل المجلس، لم تحصد هذه المعارضة أي نجاحٍ له قيمة لا على مستوى الوطن ولا على مستوى المواطن. فإلى جانب أنها لم تتوجه بخطابٍ يَطمئِنُّ له كل السوريين، فإنها لم تقنع دول العالم بقدرتها على إدارة البلد أو الحلول مكان نظام الأسد أو حتى مشاركته في الحكم. ويحضرني في هذا المقام تعبير «السَّلَطَةْ» الذي خرج على لسان رئيس وزراء قطر السابق حمد بن جاسم عندما أراد توصيف المعارضة السورية، علماً أن قطر كانت واحدة من أهم الداعمين لكل مؤسسات المعارضة والكثير من شخصياتها.
لا بد إذاً، والحال كذلك، من العمل على تحليل أسباب فشل المعارضة بهدوء دفعاً لإيجاد منهجيةٍ جديدة في التفكير تساهم في تغيير الواقع إلى ما هو أفضل. بقراءةٍ مبدئية، يمكن أن نعزو هذا الفشل إلى أن المعارضة السورية أعطت مساحة واسعة لخطاب الكراهية تجاه مكونات أخرى من الشعب السوري من دون تفكيرٍ بلجم هذا الخطاب أو حتى التبرؤ منه، على الرغم من علمها بالدور الخطير الذي لعبه هذا الخطاب في تقسيم السوريين على أرض الواقع. كذلك، لم تتمكن هذه المعارضة من تحقيق أبسط شروط الكرامة والعدالة الاجتماعية للمواطن السوري حتى في المناطق التي تسيطر عليها الآن والتي تطلق عليها زوراً اسم «المّحرّر». فضلاً عن دور المعارضة الرسمية في عدم التوصل إلى عملية انتقالٍ سياسي حقيقي بناءً على ما جاء في قرار جنيف 2254 نهاية عام 2015 والذي ينصّ جوهره على أن يكون الحل سورياً بالكامل وأن يحقق كل مطالب الشعب وأن تبقى سوريا موحدة لكل مكوناتها وليس لجزءٍ منها.
بكل تأكيد، ليست المعارضة وحدها من أوصلنا إلى هذا القعر. فجميعنا يعلم مدى شراسة القوى اللاعبة على أرضنا ومدى تشابك مصالحها فيه، فضلاً عن أن طبيعة الصراع ذاته أخذت منحاً آخر بأبعادٍ ذات طابعٍ دولي وإقليمي إثرالتدخل الروسي والإيراني والتركي ودول الجوار في الأزمة السورية، إذ لم يعد بالإمكان معالجة أي ملفٍ ضمن حدود البلد بمعزلٍ عن المنطقة ككل. وأي طرف خارجي سيعرقل مثل هذا الحل ما لم تتحقق مصالحه. لكن ومع فهمنا لكل تفاصيل دور هذا العامل الخارجي، إلا أنه لا يمكننا تجاهل الدور الأساسي للمعارضة ومؤسساتها وأفرادها في وصولنا إلى ما نحن عليه.
خرج الشعب ضد نظام الأسد في 2011 نتيجة الإحساس بالقهر والظلم. انتفضنا لانعدام شعورنا بالكرامة والعدالة والحرية وليس رغبةً في إشعال حربٍ مع سلطةٍ نعلم سلفاً أنها خاسرة. لكن المعارضة، كونها لم تكن تبحث سوى عن السلطة، وكونها ناقصة الخبرة والتجربة، لم ترتق لمستوى تطلعات الجماهير.
كان يمكن لهذا التدخل الإقليمي والدولي أن يشكل قيمةً في عمل المعارضة بدل الاستكانة والارتماء في أحضان الدول أسوةً بما فعله النظام. كانت تستطيع ـ على الأقل ـ توجيه خطابها إلى الشعب السوري بأكمله تدعوه فيه للوقوف صفاً واحداً ضد استبداد النظام والدول التي تحتل بلدنا على حدٍ سواء. فمن كان سيرفض خطاباً وطنياً كهذا؟ كان بإمكان المعارضة أن تتسلّح بالشعب السوري ضد أعدائه، لا أن تستقبل الإرهابيين من كل دول العالم ثم تعترف بهم ضمن صفوفها وبأنهم جزء من الثورة؟!
لقد سقطت المعارضة السورية في فخ الطائفية وارتضت الارتهان للقوى الخارجية وطغى خطابها الشعبوي على كل ما هو عقلاني ومتوازن ووطني، فأصبح خوفنا منها كسوريين أكبر بكثير من استمرار نظام الأسد في الحكم على الرغم من رفضنا لطغيانه واستبداده وجرائمه.
خرج الشعب ضد نظام الأسد في 2011 نتيجة الإحساس بالقهر والظلم. انتفضنا لانعدام شعورنا بالكرامة والعدالة والحرية وليس رغبةً في إشعال حربٍ مع سلطةٍ نعلم سلفاً أنها خاسرة. لكن المعارضة، كونها لم تكن تبحث سوى عن السلطة، وكونها ناقصة الخبرة والتجربة، لم ترتق لمستوى تطلعات الجماهير. كما أنها لم تبذل أي جهدٍ لتصبح بمستوى قيادة الشعب إلى دولةٍ وطنية ديمقراطية تحقق العدالة لمواطنيها. فساهمت، إلى جانب كل من النظام والتدخلات الخارجية، في وأد أحلام الشعب السوري. ومهّدت، نتيجة سلوكها «غير الوطني» لاستمرار الأسد إلى الآن. ويمكن القول بأنه لم تؤدّ معارضة في التاريخ دور المساعد لجلّادها كما فعلت تلك السورية.
عندما هزّ الشارع السوري السلطة الحاكمة في دمشق، ظنّت المعارضة، كونها وُلِدَتْ من رحم الاستبداد، أن الفرصة سانحةٌ للاستفراد بالحكم، ففكرت بعقليةٍ انقلابية صرفة واستنفرت كل جهودها فقط من أجل الإطاحة ببشار الأسد والجلوس مكانه، وقدّمت مشروعها «الإخواني» المدعوم من تركيا وقطر، معتقدةً أنه يمكن أن يكون البديل لـ«النظام العلوي». وأقصت عنها، في لحظات نشوتها بقرب الانتصار، كل من لا يرتهن لمشروعها، واشتغلت على أن تكون سوريا مُفصّلة على مقاس «المرشد» وليس على مقاس حلم الشعب السوري وتطلعاته في الحرية والكرامة.
لا شك أن إسقاط نظام الأسد ضرورة. لكنه لن يحمل وحده الحرية والديمقراطية للسوريين أو ينهي معاناتهم. ومع كل ما نشاهده الآن من خراب، نستطيع القول إن رحيل الأسد سيكون أقل مصائبنا المنتظرة. لذلك، يمكن لهذه المحطة العصيبة في تاريخنا، والتي زادها الزلزال الأخير صعوبةً وتعقيداً، أن تكون فرصتنا للتفكير بذهنيةٍ جديدة على مستوى الجرح الغائر وليس على أساس المحاصصات الطائفية.
يترتب على الطرح الأساسي لبناء مقدمات العمل الوطني سلوكيات محدّدة بحيث يمكن ضبطها على إيقاع السؤال التالي: سوريا إلى أين؟ لا يمكن الإجابة على هذا السؤال من دون وجود نُخب سوريّة وطنية تتجاوز مفهوم المعارضة والموالاة وتعمل على إعادة تشكيل الهوية الوطنية السورية التي شوّهها الاستبداد من جهة، وتهافت المعارضة إلى السلطة من جهة أخرى. نُخبٌ تنظر بمساواةٍ إلى جميع المواطنين السوريين، فلا فرق بين العلوي والسني والدرزي والمسيحي الذين لم تتلطّخ أياديهم بالدماء، ولا تمييز بين الكردي والعربي والتركماني والأرمني في الحقوق والواجبات. ويحتاج ذلك إلى العمل على تمتين الجسور بين جميع المكونات السورية من دون استثناءٍ، ومد يد العون فيما بينها، ثم العمل على تجسير الهوة بين هذه المكونات من خلال مشاريع وطنية سياسية واقتصادية تستند إلى ثوابت حقوقية دستورية وتشريعية يشعر فيها الجميع بأنهم أحرار وأنهم يمتلكون حصةً في بلدهم، وثوابت حقوقية اقتصادية يشعر معها المواطن بأنه يتمتع بكرامته ولديه الحد الأمثل من العدالة الاجتماعية.
ليس بيننا من لم يسمع بأسطورة طائر الفينيق الذي يبعث نفسه من الموت. وكثيراً ما كان آباؤنا يرددون على مسامعنا أن شعبنا السوري مثل هذا الطائر العجيب يقوم من بين الرماد كلما شعر بنهايته. ها هي فرصتنا لنعمل على تجديد فكرنا بما يعيننا على تحويل العجز إلى عملية بناءٍ واسعة تتم عبر إعادة الثقة بإمكانات شعبنا وطاقاته الإبداعية والاقتصادية. هي فرصتنا لننفض عن كاهلنا غبار السنوات الـ12 الأخيرة من أجل الوصول إلى وطنٍ حقوقي دستوري يعيش فيه الجميع بحريةٍ وكرامة ويمنع تجار الدم من الاستمرار في متاجرتهم بآلامنا وتمزيق وطننا وشعبنا. فلنعمل جميعاً لكي تكون ذكرى الثورة هذا العام بمثابة دعوة لإيقاظ طائر الفينيق فينا.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد