كيف ساهم الفساد والأهمال والإعفاءات في مفاقمة نتائج الزلزال في تركيا؟

 المركز الكردي للدراسات

أعلنت منظمة الصحة العالمية أن عدد المتضررين من جراء زلزال مرعش المدمر الذي ضرب تركيا وسوريا بلغ نحو 26 مليون شخص. حصة تركيا تزيد عن 20 مليون متضررٍ، فيما أرقام القتلى في تزايدٍ ولا يمكن الركون إلى رقمٍ محدد حتى هذه اللحظة. كذلك الأمر بالنسبة للخسائر المالية التي قدرها اتحاد الشركات والأعمال التركي بمبلغ 84.1 مليار دولار. وعلى صعيد النقاش العام، بادرت أصواتٌ تركية منذ اللحظات الأولى للكارثة إلى تحميل المسؤولية للحكومة، واستعيدت النقاشات حول سياسات الحكومة الكارثية في التعامل مع خطر الزلازل.

أولاً: التطبيق السيء للمعايير والإعفاءات

شدّدت تركيا في أعقاب زلزال 1999 الذي ضرب بحر مرمرة غرب تركيا وسقط فيه ما يزيد عن 17 ألف شخص لوائح البناء. إلاّ أن القوانين، بما في ذلك المعايير الحديثة التي وُضعت في عام 2018، طُبقت بشكلٍ سيء، إذ يقول الخبراء إن لدى تركيا القوانين الضرورية لمنع مثل تلك الكارثة. لكن عادةً ما يتم التساهل في تطبيقها من شركات بناءٍ كثيراً ما تكون كبراها مقربة من الرئيس رجب طيب أردوغان(1)؛ إذ نصّ آخر تحديثٍ صدر عام 2018 للقواعد التركية التي تحكم الإنشاءات على استخدام خرسانةٍ عالية الجودة مسلّحةٍ بأسياخ من الصلب المضلّع في بناء أعمدةٍ رأسية ودعامات خرسانية أفقية حتى يمكن امتصاص أثر الهزات(2). لذا، بدأت آراء الخبراء تركّز على جوانب الخلل الفني والغش في عمليات البناء. وتعود أسباب تهاوي الأبنية إلى النوعية الرديئة للأسمنت الذي يُمزج مع كثيرٍ من الماء والحصى وقليلٍ جداً من الأسمنت. وتعود أسبابٌ أخرى إلى نوعية قضبان الحديد التي قد تكون رفيعة جداً بحيث لا تتمكن من دعم الأعمدة، ما يحدّ من قوة البناء(3). أما السبب الذي بدا أشد تأثيراً، فكان سياسة الإعفاءات من مخالفات البناء حين اتبعت تركيا منذ الستينات سياسة الإعفاء على مخالفات البناء مقابل رسومٍ مالية. كان آخر تلك الإعفاءات ذلك الصادر عام  2019 في ولاية هتاي إحدى أبرز الولايات المتضررة في الزلزال الأخير.

درّت الإعفاءات المليارات على خرينة الدولة، لكنها كانت السبب المباشر في الإبقاء على الخطر القائم. ولطالما حذر معارضو أردوغان أن من شأن هذا العفو أن يؤدي إلى كارثةٍ في زلزالٍ كبير يضرب البلاد. وقبل أيامٍ قليلة من وقوع الكارثة، ذكرت وسائل الإعلام التركية أن قانوناً جديداً لتقسيم مناطق الإعفاء في انتظار الموافقة البرلمانية، في وقتٍ كان تقرير وزارة البيئة ذكر أن 50 في المئة من المباني في تركيا، أي ما يقرب من 13 مليون مبنى، لم يتم بناؤها وفقاً للأنظمة المرعية(4). وتبلغ حصة المناطق المنكوبة، طبقاً لتصريح رئيس غرفة مخططي المدن في إسطنبول التابع للغرفة التركية للمهندسين المعماريين والمهندسين، ما يقرب من 75000 مبنى استفاد من إعفاءات تقسيم المناطق في منطقة الزلزال(5).

ثانياً: إبعاد الجيش عن المشاركة في حالات الكوارث

منذ العام 2009 أصبحت رئاسة إدارة الكوارث والطوارئ «AFAD» سلطةً تنفيذية ومنسقاً في حالات الكوارث بطاقم عملٍ يتكون من 10000 إلى 15000. لكن قبل صعود إدارة الكوارث إلى المشهد، لعب الجيش التركي إبان زلزال 1999 دوراً رئيسياً في جهود البحث والإنقاذ في غضون ساعات.

بعد زلزال 1999، تم إضعاف دور الجيش وتسييسه في عهد أردوغان. منذ الانقلاب الفاشل عام 2016، قامت حكومة أردوغان بإلغاء بروتوكول يتيح للقوات المسلحة التدخل في حالات حصول الكوارث من دون تعليمات. وكان إبعاد الجيش أحد العوامل التي تفسر بطء إرسال القوات إلى المناطق المتضررة من الزلزال(6). إلا أن أردوغان سيضطر تحت وطأة الكارثة وحجم الدمار إلى دعوة الوحدات العسكرية التابعة للجيش إلى التدخل. وبالتالي، قد يخضع قرار إلغاء البروتوكول إلى المراجعة مجدداً نتيجة فشل إدارة الكوارث والطوارئ في مهمة الإنقاذ.

وهددت أنقرة في وقتٍ سابق بإغلاق قاعدة إنجرليك العسكرية، وسط خلافاتٍ مع واشنطن. إلا أن دور القاعدة تزايد خلال فترة الإنقاذ؛ إذ أعلن الجيش الأميركي أنها استقبلت حتى الجمعة الماضي أكثر من 1337 رحلة جوية دولية لدعم جهود الإغاثة من الزلزال. وسلّمت القوات الجوية الأميركية فريقين للبحث والإنقاذ في المناطق الحضرية من الوكالة الأميركية للتنمية الدولية إلى جانب المهندسين الإنشائيين والأطباء و170 ألف رطلٍ من معدات الطوارئ إلى القاعدة لمساعدة الأطقم المحلية والدولية(7). وهو ما قد يعني أن موقف الجنرالات الأتراك ذوي الميول الأطلسية تعزز داخل المؤسسة العسكرية التركية، وأن التشبيك العسكري مع واشنطن سيستمر على الرغم من سعي أردوغان إلى تحيجم العلاقات العسكرية. وبالتالي، ستوضع مسألة نجاعة سياسة تحييد الجيش عن المجتمع على بساط البحث مجدداً.

ثالثاً: اتهامات بالفساد وتحميل للمسؤولية

قبل الانتخابات المحلية في 31 مارس/آذار 2019، كان أردوغان خاطب مواطني مرعش خلال تجمع حاشد قائلاً: «لقد حللنا مشاكل 144556 مواطناً من مرعش بالعفو (البناء)». تباهى أردوغان بخطوة الإعفاء التي اتخذتها حكومته خلال التجمعات في مقاطعات ملاطية وهاتاي، حيث كان يقوم بجولةٍ في البلاد قبيل انتخابات 2019(8). كانت هذه المقاطعات الأشد تضرراً بالزلزال الأخير. واعتبر معارضون أتراك ممن تداولوا مقاطع فيديو أو اقتباساتٍ من كلمات أردوغان أنها لم تكن إلا مؤشّرٍ على تنامي الزبائنية وشراء الأصوات وتدعيماً للفساد.

واتهمت أحزاب المعارضة التركية حكومة أردوغان بعدم تطبيق لوائح البناء وسوء إنفاق أموال الضرائب التي فُرضت بعد الزلزال المدمر الذي هز البلاد عام 1999 من أجل تعزيز مقاومة المباني للزلازل(9). ففي مايو/ أيار 2018، حينما تم اعتماد أحدث قانون عفوٍ خاص بتقسيم المناطق التي ستخضع للإعفاء، حققت الحكومة ما يعادل 2 مليار دولار من العائدات نتيجةً لذلك (10). ومنذ عام 2002، دفع دافعو الضرائب الأتراك «ضريبة الزلزال» الإضافية على كل معاملةٍ مالية يقومون بها تقريباً، من ضريبة الدخل إلى ضريبة السيارات وحتى على شراء تذاكر الطائرة. وكانت الغاية من فرض ضريبة الزلزال أن تصبح إجراءً مؤقتاً لإنشاء صندوقٍ للطوارئ والكوارث، فجمعت الحكومة أكثر من 140 مليار ليرة تركية (17.4 مليار دولار) من دافعي الضرائب(11).

وفي الأعوام العشرة السابقة لعام 2022، تراجعت تركيا 47 مرتبة في مؤشر مدركات الفساد التابع لمنظمة الشفافية الدولية لتصل إلى المرتبة 101 بعد أن كانت في المرتبة 54 من بين 174 دولة عام 2012(12)، في وقتٍ وجدت الحكومة والرئيس أنفسهم غير ملزمين بتقديم تفاصيل عن أوجه الصرف، حتى تلك الأسئلة المتعلّقة بإنفاقات ضريبة الزلزال. بعيد الزلزال الذي وقع في ولاية آلازيغ، وخلف 41 قتيلاً، سُئل أردوغان في يناير/كانون الثاني عن كيفية إنفاق أموال ضريبة الزلزال، فأجاب قائلاً: «ليس من شأن أي شخص أن يسأل أين تم إنفاق أموال ضريبة الزلزال. لقد تم إنفاقها حيث يجب أن تنفق»(13). كانت الأسئلة بشأن تلك الأموال شبه محرّمة في معظم الأحوال. كما امتنع أردوغان عن الإفصاح عن تدابيره لمواجهة الكوارث المحتملة. وبالتالي، كان لانعدام الشفافية دوره في تحميل المعارضة الرئيس المسؤولية الكاملة. ففي مقطع فيديو انتشر عقب الزلزال، يتحدث زعيم المعارضة (طاولة الستة) كمال كليجدار أوغلو  عن إساءة تجيير أموال ضريبة الزلزال بالقول: «إذا كان هناك شخصٌ واحد مسؤول عن هذه العملية فهو أردوغان.. على مدار 20 عاماً ، لم تقم هذه الحكومة بتجهيز البلاد لزلزال».

بطبيعة الحال، شهدت تركيا طفرة بناءٍ كانت المحرك الكبير للاقتصاد في الأعوام الأولى لعهد أردوغان. وتُظهر الأرقام الرسمية أن عدد الشركات العاملة في قطاع العقارات ارتفع بنسبة 43 في المئة خلال عشرة أعوام لتصل إلى 127,000 شركة قبل أزمة كورونا في 2020 (14)، فيما كانت كبرى تلك الشركات محسوبة على النظام التركي أو مقربة من الرئيس. ولعل الاستعجال والتوسّع في عمليات البناء جاء على حساب معايير السلامة.

رابعاً: محاولة احتواء حكومية  وردود الأفعال

عقب الزلزال مباشرة ، أعلن أردوغان حالة الطوارئ لمدة ثلاثة أشهر، ما منحه سلطة «الإنفاق العام السخي» في المناطق المتضررة. ووعد أردوغان بالتبرع بعشرة آلاف ليرة تركية (530 دولاراً) للمتضررين من الزلزال ودعم إيجارهم. وقال الجمعة الماضي إنه سيتم تخصيص 100 مليار ليرة إضافية (5.3 مليار دولار) لجهود ما بعد الزلزال(15).

بدت هذه الإجراءات السريعة محاولةً أولى لتطويق الموقف وامتصاص حالة الغضب الشعبي، خاصةً أن سبع ولايات من العشر التي تضررت بالزلزال صوتت لصالح الحزب الحاكم، ما يعني أن إنفاق أردوغان السخي جاء لامتصاص حالة الغضب في المناطق الموالية له، فيما لم يكترث للولايات التي لم تصوّت لحزبه، كما في إهماله ولاية ديار بكر.

وإمعاناً في توزيع المسؤولية، أعلن وزير العدل التركي بكير بوزداغ في 12 فبراير/شباط أنه تم اتخاذ إجراءاتٍ قانونية ضد 134 من المشتبه بهم (مقاولاً) حتى الآن في نطاق التحقيقات المتعلقة بالمباني التي تهدّمت بفعل الزلازل. وأضاف أنه تم سجن ثلاثة أشخاص على ذمة المحاكمة.  وقررت وزارة العدل إنشاء مكاتب تحقيقٍ فى جرائم الزلازل في المقاطعات(16). لذا، قد تُحمّل الحكومة بعض المقاولين المسؤولية تشتيتاً للرأي العام وتخفيفاً من حدة الانتقادات.

خاتمة

تمرّ تركيا بظروفٍ عصيبة وصدمة عامة أصابت المجتمع، وسط تنامي الأصوات المعارضة التي تضع المسؤولية على عاتق الحكومة وشكل تعاطيها مع ملف الزلزال وما انتاب ذلك من فسادٍ وتطبيقٍ سيء لمعايير البناء وسياسة الإعفاءات وسواها من مسائل فاقمت نتائج كارثة الزلزال. يحدث كل ذلك على مقربة من موعد الانتخابات الحاسمة التي بات موعد إجرائها موضع تساؤلٍ أيضاً، فيما يئن الاقتصاد قبل الكارثة تحت وطأة التضخم وتدني قيمة الليرة التركية. وقد لا تفيد سياسة الاحتواء التي سيتبعها الرئيس التركي في مواجهة الأزمة المتولّدة عن الكارثة في التهرّب من الأسئلة المتصلة بمسؤولية الحكومة المباشرة عمّا جرى، خاصةً أن التركيز الآن قائمٌ على السياسات السابقة واستعادة أبرز القرارات والاستثناءات التي صدرت في عهد حكومة العدالة والتنمية والتي انزاحت إلى الإهمال وتجاوز معايير البناء في سبيل تحقيق مكاسب سياسية/انتخابية،ودعم اقتصاد شركات البناء والمقاولات المقرّبة من أردوغان على حساب سلامة المواطنين العامة.

المصادر

(1) دمار الزلزال يثير تساؤلات في تركيا حول معايير البناء، العربي الجديد https://2u.pw/wrQ8la

(2) أوزغي أوزديمير – بول كيربي، زلزال تركيا وسوريا: إخفاقات في التعامل مع الكارثة تعرض مصير إردوغان السياسي للخطر، BBC https://2u.pw/BALeJY

(3)العربي الجديد – مصدر سابق

Jake Horton & William Armstrong,  Depreme dayanıklı olması gereken binalar neden çöktü?BBC https://2u.pw/7Cz6gF  (4)

(5) انهيار آلاف المباني يفجر سجالات بين أردوغان والمعارضة، أحوال تركيا https://2u.pw/roI9nQ

Gonul Tol, How Corruption and Misrule Made Turkey’s Earthquake Deadlier, FP   https://2u.pw/xj9ifr (6)

Jared Szuba, US military deploys more assets to Incirlik to aid Turkey earthquake response, AL MONITOR https://2u.pw/ubhCP1 (7)

DUVAR  https://2u.pw/G3fBM3  video of Erdoğan praising zoning amnesty in quake-hit province goes viral2019, (8)

(9) أحوال تركيا- مصدر سابق

(10) DUVAR- مصدر سابق

Govt policy worsens Turkey’s earthquake toll, ASIA TIMES https://2u.pw/sjEOIQ    ALEXANDRA DE CRAMER, (11)

(12)أحوال تركيا- مصدر سابق

(13) ASIA TIMES- مصدر سابق

(14) العربي الجديد- مصدر سابق

SUZAN FRASER and ZEYNEP BILGINSOY,  Earthquake compounds Turkish leader’s woes as election nears , https://2u.pw/miBhlH  (15)

Several contractors detained during attempt to flee Turkey after their buildings collapse in quakes,  DUVAR  https://2u.pw/aZqUrY

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد