حسين جمو
افتتح العام 200 للهجرة (815 م) بحرب أهلية عباسية ثانية، بعد مذابح الأمين والمأمون، وهذه المرة أيضاً بين المأمون، المنتصر في الحرب السابقة والخليفة العباسي المتوشح بالعمامة الخضراء «العلوية» وهو في خراسان، وأبناء بيته من آل العباس في بغداد وهم المتمسكون بالعمامة السوداء المعروفة للعباسيين.
لعب قادة كبار أدواراً مهمة في الحرب التي بدأت بخلع المأمون عن الخلافة في بغداد، منهم كبار قادة ينحدرون من بيوت ساسانية في خراسان؛ الفضل بن سهل وطاهر بن الحسين، ورايات العرب وفي طليعتهم هرثمة بن أعين وزعماء آل البيت من أبناء جعفر الصادق وإخوته، «وفيهم 33 ألفاً من بني العباس (ابن كثير – البداية والنهاية) ذكوراً وإناثاً» هم حصيلة إحصاء طلبه المأمون من رجاله حين همّ بالخروج من خراسان إلى العراق في عام 200 للهجرة، وعلي الرضا ابن موسى الكاظم ولي عهده، في انقلابٍ غير مسبوق على سلالة بني العباس لخلافة السلطة. وحدث أن قادة العلويين تغلبوا على معظم مراكز الدولة، في الكوفة والبصرة والمدينة ومكة وبلاد اليمن، ومنهم من حمل لقب «زيد النار» وهو زيد بن جعفر الصادق في اليمن والحجاز. وخلع بنو العباس المأمون سنة 202 للهجرة وبايعوا إبراهيم بن المهدي العباسي، فاضطربت الدولة و تدفقت القوات نحو بغداد من كل صوبٍ للظفر بالسلطة، من مرو والري وسرخس وأصفهان نجدةً للمأمون، ومن الحجاز والبصرة والكوفة نصرةً لعلي الرضا، فيما تدفقت قوات أبي السرايا من رأس العين والجزيرة نصرةّ لآل البيت قبل أن ينفض عنهم ويُقتل على أيدي هرثمة بن أعين الموالي لعلي الرضا. ثم قتل هرثمة بأمرٍ من الفضل بن سهل وزير المأمون بعد فترةٍ وجيزة من وفاة علي الرضا في طوس، حيث دفن بجوار هارون الرشيد في الموقع المسمى اليوم «مشهد» شمال شرق إيران. وسط كل هذا الهرج والمرج، انعزلت قوة إقليمية واحدة لم تشارك في هذه الحروب، وهي الدعوة المهدية الخرمية بقيادة بابك خرمدين، فوسعت من نفوذها وتبعه معظم الكرد والديلم.
إن وقائع هذه الأعوام القليلة من الحرب الأهلية الطاحنة كافية لتعطي صورة محجوبة عن حال أصقاع العرب وجوارها في حقبة المأمون وإخوته. فوقائع الحروب المتصلة من خراسان إلى المدينة المنورة، مروراً ببغداد، تُبدد تلفيقات مؤرخي السلطة العباسية عن أن الانحطاط الحضاري ضرب البلاد مع اجتياح المغول لاحقاً، إذ اعمّ الخراب البلاد في وقتٍ مبكر.
على هامش هذه الأحداث الكبرى وسقوط القادة واحداً تلو الآخر، دارت واقعةٌ صغيرة في شيراز في ربيع 203 للهجرة بعد وفاة أو مقتل إمام العلويين علي الرضا. كان شقيقان لعلي الرضا، هما أحمد ومحمد ابنا موسى الكاظم، في طريقهما من الحجاز إلى طوس لمساندته قبل شيوع نبأ وفاته، ومعهما آلاف الأنصار، قيل ثلاثة آلاف و15 ألفاً.
في حوادث 203 للهجرة، حُجب في كتب المؤرخين نبأ وفاة علي الرضا وهجوم المأمون على بغداد وانهيار الأمن الاجتماعي وسطوة العيارين في العاصمة ونهبهم للفلاحين، على هذه المعركة الصغيرة على مشارف مدينة شيراز. وفق المصادر الشيعية المتأخرة، مثل بحار الأنوار، فإن قتلغ خان، عامل المأمون على شيراز، توجه إلى أحمد بن موسى الكاظم خارج البلد في مكان يقال له «خان زينان» على مسافة ثمانية فراسخ من شيراز، فتلاقى الفريقان ووقعت الحرب بينهما. فنادى رجلٌ من أصحاب قتلغ إنهم إن كانوا يريدون الوصول إلى الرضا فقد مات، فحينما سمع أصحاب أحمد بن موسى ذلك تفرقوا عنه ولم يبق معه إلا بعض عشيرته وإخوته. فلما لم يتيسر له الرجوع، توجه نحو شيراز فاتبعه المخالفون وقتلوه حيث مرقده هناك.
وكتب بعض في ترجمته أنه لما دخل شيراز اختفى في زاوية وانشغل بعبادة ربه حتى توفي لأجله، ولم يطلع على مرقده أحد حتى زمان الأمير مقرب الدين مسعود بن بدر الدين، الذي كان من الوزراء المقربين لأتابك أبي بكر زنكي. وكان الحدث على وجه التقريب سنة 1231 للميلاد، أي بعد نحو 400 سنة من وفاة أحمد بن موسى الكاظم. ولما عزم على تعمير شيء في محل قبره حيث هو الآن، ظهر له قبر وجسد صحيح غير متغير وفي إصبعه خاتم نقش عليه «العزة لله. أحمد بن موسى»، فشرحوا الأمر إلى أبي بكر فبنى عليه قبة.
وعرف عن قادة الشعوب التركية الوافدين إلى حواضر الخلافة العباسية ميلهم إلى تقديس الأضرحة أكثر مما كان شائعاً، حيث أمعنوا في هذه الظاهرة وسارعوا إلى بناء القباب في مواضع منسوبة لشخصيات ورعة تتناقلها شائعات العوام، ومنها ضريح أحمد بن موسى الكاظم وشقيقه محمد.
وحين زار الرحالة المغربي ابن بطوطة مدينة شيراز عام 1327 كانت تحت حكم القائد التركي أبو إسحاق بن محمد شاه ينجو، الذي امتلك قوةً ومُلكاً كبير «وعسكره ينيف على خمسين ألفا من الترك والأعاجم وبطانته الأدنون إليه أهل أصفهان، وهو لا يأتمن أهل شيراز على نفسه ولا يستخدمهم ولا يقربهم ولا يبيح لأحد منهم حمل السلاح لأنهم أهل نجدة وبأس شديد وجرأة على الملوك..».
وأمر تعيين حاكم لشيراز يأتي بأمرٍ من السلطان الإلخاني في بغداد، وكان يومها السلطان الشهير أبو سعيد، وهو من أحفاد هولاكو خان. مدحه ابن كثير في «البداية والنهاية» بقوله: «وقد كان من خيار ملوك التتار، وأحسنهم طريقة، وأثبتهم على السنة، وأقومهم بها، وقد عز أهل السنة في زمانه، وذلت الرافضة – بخلاف دولة أبيه – ثم من بعده لم يقم للتتار قائمة، بل اختلفوا فتفرقوا شذر مذر».
«وقد أمر سعيد الإلخاني بتعيين أمير يدعى حسين بن جويان، وانتزاع شيراز من عائلة أبي إسحاق. فقام الأمير الجديد باعتقال عائلة الأمير السابق، بما فيهم والدته طاش خاتون، وأراد حملهم إلى العراق.. فلما توسطوا السوق بشيراز كشفت طاش خاتون وجهها وكانت متبرقعة، حياء أن ترى في تلك الحال، فعادة نساء الأتراك أن لا يغطين وجوههن، واستغاثت بأهل شيراز وقالت: أهكذا يا أهل شيراز أخرج من بينكم وأنا فلانة زوجة فلان؟ فقام رجل من النجارين يسمى بهلوان محمود قد رأيته بالسوق حين قدومي على شيراز فقال: لا نتركها تخرج من بلدنا ولا نرضى بذلك، فتابعه الناس على قوله وثارت عامتهم وقتلوا كثيراً من العسكر وأخذوا الأموال وخلّصوا المرأة وأولادها وفر الأمير حسين من شيراز» (ابن بطوطة).
تعلّقت هذه المرأة، طاش خاتون، بأهل شيراز بعد هذه الواقعة. ومع وفاة السلطان سعيد في بغداد، تسلم أبو إسحاق الحكم في شيراز وعاد الأمر إلى سابق عهده. ولولا رحلة ابن بطوطة، لطوى النسيان وقائع هذه العائلة الحاكمة. وروى أن «السلطان أبو إسحاق طمح ذات مرة إلى بناء إيوان كإيوان كسرى، وأمر أهل شيراز أن يتولوا حفر أساسه فأخذوا في ذلك، وكان أهل كل صناعة يباهون من عداهم فانتهوا إلى المباهاة إلى أن صنعوا القفاف لنقل التراب من الجلد وكسوها ثياب الحرير المزركش وفعلوا ذلك في براذع الدواب وإخراجها وصنع بعضهم الفؤوس من الفضة وأوقدوا الشمع الكثير. وكانوا حين الحفر يلبسون أجمل ملابسهم ويربطون فوط الحرير على أوساطهم والسلطان يشاهد أفعالهم في منظرة له. وقد شاهدت هذا المبنى وقد ارتفع عن الأرض نحو ثلاثة أذرع، ولما بنى أساسه رفع عن أهل المدينة التخديم فيه وصارت الفعلة تخدم فيه بالأجرة ويحشر لذلك آلاف منهم. وسمعت والي المدينة يقول أن معظم جبايتها ينفق في ذلك البناء..».
وبينما انشغل أبو إسحاق بمحاكاة إيوان كسرى، ليفشل في ذلك بكل الأحوال، كانت أمه تقوم بعملٍ سيبقى علامةً على مر الدهر أكثر من نسخته المقلدة للإيوان. فبعد أعوامٍ على بناء القبة بأمر من أبي بكر الزنكي، تضعضع البناء وآل للسقوط، فجددت الملكة طاش خاتون عمرانها وبنت قبةً عالية وزينت المسجد بالمرايا، ليكثف المسجد كمية الضوء الذي يدخله بأكثر من ألف مرة. وإلى جانب ذلك، بنت مدرسة وجعلت قبرها في جوار المبنى، وكان ذلك حوالى 750 للهجرة. وجعلت قرية ميمند الواقعة على بعد 80 كيلومترا عن مدينة شيراز وقفاً عليه، وأمرت بأن يصرف واردها على تلك البقعة، وهي باقية إلى يومنا هذا، حيث يعمل المتولون لها على قرار الوقف وينفقون واردها في شؤونه، ومحصولها ماء ورد معروف بجودته إلى يومنا هذا.
أما تسمية «شاه جراغ»، وتعني سيد الأنوار، فجاءت من رواية منسوبة لآية الله دستغيب، إذ رأى نوراً ساطعاً من بعيد، فقصد المكان ووجد قبرًا دُفن فيه شخصان، كلاهما يرتديان الزي العسكري. كما كان أحدهم يحمل خاتماً مكتوباً عليه اسم والده. وتوغل هذه الرواية في الشعبوية، لكن لا نفي لها من مؤرخي المذهب الشيعي. وتبارى ملوك إيران في توسيع الضريح والمسجد، من الصفويين إلى نادر شاه أفشار وكريم خان زند.
في سنة 1827 للميلاد، بنى السلطان فتح علي شاه القاجاري مشبكاً من الفضة الخالصة على الضريح المنسوب لابني موسى الكاظم. كما يوجد على قبره نصف قرآن بقطع البياض بالخط الكوفي على ورقٍ من رق الغزال، ونصفه الآخر بذلك الخط في مكتبة الرضا وفي آخره: كتبه علي بن أبو طالب!
بتاريخ 27 أكتوبر/تشرين الأول، قتل عشرات الأشخاص في هجوم استهدف مسجد شاه جراغ وتبناه تنظيم داعش.