رؤوف بكر *
تُنظّم في الحادي عشر من سبتمبر/أيلول المقبل انتخابات عامة في السويد يتوقع أن تسفر عن تغيّرٍ كبير في الخريطة السياسية. مرت السويد بالعديد من التحولات خلال الأعوام السبعة الماضية منذ أزمة اللجوء في 2015 حينما استقبلت المملكة الاسكندنافية بذراعين مفتوحين العدد الأكبر من اللاجئين إلى أوروبا نسبة لعدد السكان (163 ألفاً في بلد يعد حينها أقل من عشرة ملايين). ولم يستغرق الأمر وقتاً طويلاً حتى تبدّل مزاج المواطن السويدي، الذي عُرف على الدوام باستقباله المضطهدين حول العالم، جرّاء الصدام الثقافي مع المهاجرين الذين أتى أغلبهم من أفغانستان وسوريا والعراق. وكما هو متوقع في مثل هذه الحالات، يلقى خطاب اليمين الشعبوي تقبّلاً واسعاً، وليست السويد استثناءً. وأمكن ملاحظة الصعود التدريجي لشعبية حزب «ديمقراطيو السويد» منذ أزمة اللاجئين التي افتعلتها تركيا ونجحت على إثرها في ابتزاز أوروبا ودفعها إلى عقد صفقة معها في 2016 أشبه بـ«اتفاقية إذعان». ففي انتخابات 2014، لم يحصل «ديمقراطيو السويد» على أكثر من 12.8 في المئة من الأصوات. وبعدها بأربعة أعوام، نال 17.5 في المئة ليصبح ثالث أكبر الأحزاب في البرلمان بعد الحزبين التقليديين «الاشتراكي الديمقراطي» و«المحافظون» على التوالي. واليوم، تمنحه استطلاعات الرأي ما بين 18 إلى 21 في المئة، وتضعه بذلك على قدم المساواة مع «المحافظون» أو متفوقاً عليه بفارقٍ ضئيل، ما يعني أنه سيكون بيضة قبان تشكيلة الحكومة المقبلة وقد ينضم إليها للمرة الأولى عبر تحالف يميني رباعي مع «المحافظون» والحزب المسيحي الديمقراطي والحزب الليبرالي.
وعليه، يمكن اعتبار أن أنقرة لعبت دوراً غير مباشر، لربما متعمداً ومنهجياً بتنسيق مع الشريك الروسي، في رفع منسوب شعبية اليمين المتطرف في السويد ودول أوروبية عديدة من خلال تهيئة الأجواء المناسبة للتوترات داخل المجتمعات الأوروبية المضيفة مع القادمين الجدد، إذ أن كلاً من الرئيسين التركي رجب طيب أردوغان والروسي فلاديمير بوتين، من المؤمنين بأن الشرق شرق والغرب غرب، برؤيتهما وأهدافهما الخاصة، ومن الساعين، تالياً، إلى خلخلة أسس المجتمعات الغربية.
وليس ذلك فحسب، بل تتغلل تركيا داخل المشهد السياسي السويدي بقوة. ويبلغ عدد الأتراك في السويد قرابة 230 ألفاً، فيما ينضوي أغلب أنصار أردوغان في أحزاب الوسط واليسار. ويعد محمد كابلان وميخائيل يوكسل من أشهر الشخصيات المحسوبة على الرئيس التركي. وتبوأ كابلان حقيبة الإسكان والتطوير العمراني بين 2014 و2016 عن حزب الخضر قبل أن يضطر إلى الاستقالة بعد الكشف عن لقاءات عقدها في 2015 برئيس منظمة «الذئاب الرمادية» في السويد إلهان سنتورك ونائب رئيس رابطة «أتراك السويد» بربروس ليلاني. وفي 2016، نشر التلفزيون الرسمي السويدي تقريراً مدعّماً بالوثائق عن صلات كابلان بحزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا ومنظمة «ميلي غوروش» التركية، إحدى أكبر المنظمات الإسلامية في أوروبا والممولة من أردوغان. وأسس كابلان في 2008 منظمة «سويديون مسلمون للسلام والعدالة» التي تنشط في مجال التعليم، خاصةً عبر برامج أشبه بمنحٍ، ولها صلاتٍ وثيقة بـ«الرابطة الإسلامية في السويد»، وهي فرع لجماعة «الإخوان المسلمون».
أما يوكسل، فأسس في 2019 حزباً يدعى «نيانس»، ومعناه (الفارق/الاختلاف)، بعدما طرده حزب الوسط من صفوفه على إثر الكشف عن صلاته بـ«الذئاب الرمادية» التي ينتمي إليها والده. ويركز الحزب في خطاباته على القضايا التي يرى أنها تؤثر على المسلمين في السويد، وينتقد بشدة ما يعتبره انتشار «الإسلاموفوبيا» فيها. وعادةً ما يدلي يوكسل بتصريحاتٍ إلى وسائل إعلامية تركية. فمطلع 2021، أجرى حواراً مع صحيفة «يني شفق» التركية المحسوبة على النظام الحاكم في أنقرة قال فيه إنه يريد «منع السويد من التحول إلى فرنسا أخرى». وقبلها بعام، نقلت عنه وكالة الأناضول تعليقاتٍ حصرية بشأن هجوم استهدف مصلىً في ضواحي مدينة غوتبورغ جنوب السويد. وبعيد تأسيس حزبه، ذكر في حوارٍ مع صحيفة «ديلي صباح» الموالية للحكومة التركية أنه طُرد من حزب الوسط لأنه رفض «التحدث بسوء» عن أردوغان. ويثير يوكسل الجدل إلى درجة أن وزير العدل مورغان يوهانسون لم يتمالك نفسه وخالف الأعراف السياسية السويدية، البعيدة عن اللغة الهجومية الحادة، واتهمه بمحاولة «دق أسفين» بين المسلمين وبقية المجتمع وبكونه يشكل تهديداً للتعددية.
وجاءت الحرب في أوكرانيا، التي أشعلها حليف أنقرة، كهدية ثمينة إلى أردوغان فعاد إلى ممارسة سياسة الابتزاز والمقايضة. وأثار الغزو الروسي ذعر دول منطقتي البلطيق واسكندنافيا، ودفع استوكهولم وهلسنكي إلى إعلان رغبتهما الانضمام إلى حلف ناتو. ولكي يرفع الفيتو عن انضمامها إلى الحلف، نجح الرئيس التركي في إجبار السويد على قبول شروطٍ لم تكن الدولة، التي لطالما قدمت نفسها على أنها جنة ليبرالية، لتوافق عليها في السابق. ومن ضمن تلك الشروط، تسليم المقيمين في السويد ممن تعتبرهم أنقرة إرهابيين وعدم تقديم الدعم لوحدات حماية الشعب وحزب الاتحاد الديمقراطي ومنع أنشطة «المنظمات الإرهابية وامتداداتها». ومؤخراً، أعلنت السويد نيتها تسليم تركيا شخصاً مقيماً على أراضيها مطلوب بتهم احتيال مالي، كما يقول الأتراك، فيما يؤكد هو أن السبب كونه كردي رفض أداء الخدمة العسكرية واعتنق المسيحية. ويظهر اسم الشخص في قائمة تضم 73 شخصاً قدمها الأتراك من أجل ترحيلهم. وبمعزل عن كون الشخص ارتكب فعلاً جرائم مالية أو أن الأمر لا يعدو عن كونه تهمة جنائية ملفّقة لمعارضٍ سياسي، فإنه من غير المستبعد تماماً أن تعمد السلطات التركية إلى كتابة قائمة تخلط فيها المدانين جنائياً بالمعارضين السياسيين من أجل التشويش وتخفيف الوطأة السياسية لعمليات الترحيل. ويجد الأتراك أنفسهم في حالة استرخاء سياسي في تعاملهم مع السويديين، إذ بدا سفير أنقرة لدى استوكهولم إيمري يونت مطمئناً أن لا عواقب دبلوماسية لتصريحه الذي طالب فيه بتسليم بلاده النائب المستقل في البرلمان أمينة كاكابافيه، وهي مواطنة سويدية من كرد إيران، أي أنها ليست حتى تركيّة. ومن المفارقة أن الفضل يعود إلى كاكابافيه في بقاء الحكومة الحالية في السلطة إثر تصويت على حجب الثقة في يونيو/حزيران، إذ كان صوتها وحده مرجِحاً لمنع إسقاط الائتلاف.
وبعد الاتفاق الثلاثي التركي-السويدي-الفنلندي، تغيرت لهجة الأحزاب والمسؤولين في السويد، على اختلاف انتمائهم، تجاه أردوغان. فبينما نددت رئيسة الوزراء ماغدالينا أندرسون، من الحزب الاشتراكي الديمقراطي، برفع أعضاء في حزب اليسار أعلام حزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب ووحدات حماية المرأة خلال تجمعٍ سياسي، رفضت انتقاد سجل السلطات التركية في حقوق الإنسان، كما دأبت الحكومات السويدية، وتهربت خلال مقابلة صحافية من المطالبة بإطلاق سراح السياسي الكردي المعتقل في تركيا صلاح الدين دميرتاش، قائلةً إن لا علم لها بتفاصيل القضية وليست على دراية كاملة بها.
حتى زعيمة حزب اليسار نوشي دادغوستار تنصلت مما فعله الأعضاء الثلاثة، نافيةً حصولهم على دعم الحزب في تصرفهم هذا، على الرغم من موقف الحزب غير المرحّب بالانضمام إلى «ناتو».
أما حزب المحافظون المعارض، فعلى الرغم من أن قياديين كتبا مقالة في صحيفة «داغنز نيهتر» السويدية واسعة الانتشار في أكتوبر/تشرين الأول 2019 ينتقدان فيها الغزو التركي ووصفاه بأنه «يهدد بمنح تنظيم (داعش) مجالاً لالتقاط أنفاسه لإعادة بناء هيكله ووجوده في المنطقة»، إلا أن الحزب أيد انضمام السويد إلى «ناتو» ولم يصدر عنه أي انتقادٍ علني لاتفاق الحكومة مع الأتراك.
حتى «ديمقراطيو السويد»، الذي غيّر موقفه المتحفظ على عضوية «ناتو»، لم يُصدر مسؤولوه أي موقفٍ من الاتفاق الثلاثي منذ توقيعه، ويغيب أي بيان بهذا الشأن عن صفحته الرسمية على الانترنت، وهم الذين لطالما عرفوا بتصريحاتهم الخارجة عن الصوابية السياسية، علماً أن للحزب صلاتٍ بموسكو. ولدى تواصل «المركز الكردي للدراسات» مع مكتب الحزب الإعلامي بشأن تسليم المطلوبين والإعلان عن أول ترحيل في هذا الصدد، اكتفى بردٍ عام مقتضب ذكر فيه أن «هناك معلوماتٍ متضاربة فيما إذا كان التسليم مسألة روتينية أم لا. من المهم جداً من أجل مصداقية الحكومة والسويد أن يكون هناك شفافية فيما إذا كنا كدولة نلتزم بمبادئنا، وأن يتم التوضيح فيما إذا هنالك عقبات للتسليم أم لا».
ويبدو أن التنسيق بين أنقرة واستوكهولم وهلسنكي ماضٍ كما هو مخطط له، إذ سيجتمع مسؤولون من البلدان الثلاثة في 26 أغسطس/آب لمتابعة تطبيق ما بات يعرف بـ«الآلية الثلاثية»، لتسجل الاوتوقراطية بذلك نقطة أخرى في مرمى الديمقراطية وهي تكسب أراضٍ جديدة وتتمدد في معقلها بفعل الانحناءة السويدية أمام أردوغان.
* صحافي وباحث مهتم بقضايا الشرق الأوسط والشؤون الأوروبية.