لم يشكل الكرد موضوعاً مستقلاً في أي من سجلات ثورة التدوين التاريخي في العصر العباسي، مع ما يعتري هذا التدوين من تغليب وتفضيل واختلاق ما زال محل جدل إلى اليوم. ويصح القول بثورة التدوين أو تأسيسه، ذلك أن العربية لم تكن قد اكتملت لغوياً إلى منتصف العصر العباسي، وهي إلى ذلك الحين كانت تفتقر إلى ألفاظ العلوم والفلسفة. و هذا مما عالجه الجاحظ (توفي سنة 869م) في كتابه “البيان والتبيين” حين ذكر ما دخل العربية من ألفاظ و موضوعات جديدة لم تكن فيها من قبل. و لم يملك الجاحظ ما يرد به على الشعوبية حين تحدّوه بتراث التدوين في بلاد إيران والهند واليونان، وذكروا كتباً مرجعية تحكي بلاغة و أدب وعلم هذه الشعوب (البيان والتبيين ج3- ص 10) وأن ليس للعرب ما هو مدوّن عن أدبهم وتاريخهم وخطابتهم. فما كان من الجاحظ إلا أن يوافقهم ضمنياً بتجاهل الإجابة، لكنه اعتصم بالتشكيك في وجود كتب قديمة مدونة لدى الهند وفارس، و قال فيها: “و نحن لا نستطيع أن نعلم أن الرسائل التي بأيدي الناس للفرس، أنها صحيحة غير مصنوعة، وقديمة غير مولّدة، إذ كان مثل ابن المقفع وسهل بن هارون، وأبي عبيد الله، وعبد الحميد وغيلان، يستطيعون أن يولدوا مثل تلك الرسائل، ويصنعوا مثل تلك السير” (البيان والتبيين – ج3 – ص21).
و الخلافة العباسية شديدة الإشكال، فهي من جهة انقلاب داخل البيت القرشي، ومن جهة أخرى يمكن قراءتها كهجوم إيراني مضاد للسلطة العربية، و هو هجوم لم يكن للكرد دور بارز فيه، فقد كانت القيادة للخراسانية من عرب وأقوام إيرانية متنوعة، بما فيهم الكرد في تلك الأنحاء، وعلى رأسهم أبو مسلم الخراساني، غير أن الكرد القريبين من مراكز الخلافة لم يكونوا في طليعة الرايات السوداء القادمة من الشرق. و رغم عروبية الجاحظ، و تعظيمه الشديد لبني العباس، فإنه لم يتغاضى عن هذه الهوية الملتبسة للدولة، فكتب في “البيان والتبيين”: “وقد يجب أن نذكر بعض ما انتهى إلينا من كلام خلفائنا من ولد العباس، ولو أن دولتهم عجميّة خراسانية، ودولة بني مروان عربية أعرابية وفي أجناد شاميّة” (ج3 – ص237).
التدوين وفق التوجيه السياسي
و عليه، فإنّ المطلع على مؤلفات الجاحظ، ليعتقد نفسه في زمن تفشي القوميات الحديثة في القرن العشرين حيث التفاخر بالعلو والتاريخ و أحسن الخصال حاضر في معظم أوراق الجاحظ، و منه نطّلع على ما كان تردده نخبة الأقوام الأخرى عن العرب. مع ذلك، في السنوات اللاحقة للجاحظ، حين تفشى تدوين التاريخ وكثر المؤرّخون وكتّاب الأمراء والسلاطين، لم يظهر الكرد في هذا التاريخ إلا سطوراً في كل كتاب، و حضوراً غامضاً كل بضع سنين من الحوادث المسجلة وفق الحوليات. على أنّ هذا يتناقض مع علو سمعة وصيت الكرد حتى في جزيرة العرب في المرحلة الأولى من الحقبة الإسلامية، من “الفتوحات” إلى مطلع العهد العباسي. فالشاعر والفقيه الأصمعي (توفي سنة 831م) له وصف خالد لقبيلة هُذيل العربية المقيمة في الحجاز، فقال عنهم: “هُذيْل أكراد العرب”. و لم يطلق عليهم هذا الوصف ليدل على بداوة هُذيْل، فصفة البداوة مختصة في العرب قبل غيرهم وليس خاصاً بقوم منهم سوى فئة قليلة امتهنت التجارة. و يتفاخر أبناء هذه القبيلة وما تفرع عنها، إلى اليوم، بهذه الصفة التي عرفت عنهم في التاريخ، و هم يفسرونها بـ”مداومة الحرب مثل الكرد”. و قد استخدم الجاحظ هذا الوصف أيضاً حين كان يمتدح الترك ويعظّم من شأنهم رداً على مآخذ الفرس على الترك ومجاراة لاعتماد بني العباس عليهم، فعمل على تحسين صورتهم بكل أدوات الحذق والبراعة اللغوية التي امتلكها، فقال فيهم في كتابه “الرسائل السياسية”: “كذلك التّرك أصحاب عمد وسكّان فياف وأرباب مواشٍ، وهم أعراب العجم كما أنّ هذيلاً أكراد العرب” (الرسائل السياسية – دار الهلال – ص510). و سياق ما أورده الجاحظ ينفي أيضاً أن اقتران هذيل بالكرد إنما لأمر البداوة، فهو بنفسه أطلق على الترك صفة “أعراب العجم” لبداوتهم كما يوضح في سطور تالية في: “لم تشغلهم الصّناعات والتّجارات، والطّبّ والفلاحة والهندسة؛ ولا غرس ولا بنيان..”. وإذا ما عدنا إلى الفترة ما بين الأصمعي والجاحظ، أي القرن التاسع الميلادي، فإن كل الروايات التاريخية المؤرخة لاحقاً والمعتمدة اليوم كأمهات كتب التاريخ الإسلامي، لم يكن قد تم تدوينها بعد. و بما أن هُذيل تفاخرت بالوصف و حملته عبر تاريخها إلى اليوم، فقد كان الكرد إلى ذلك الحين مادة للفخر في التشبيه والقرب. إلا أن هذه الصورة اختلّت تدريجياً، فنجد في قصيدة شهيرة للشاعر العربي القرشي، أبو الحسن السلامي (توفي في 1003م):
وَيُبَاع فِي الاكراد شعري إِنَّه … يغلو إِذا مَا بيع فِي الأعراب
و لوحظ خلال الفترة الممتدة بين مطلع العصر العباسي وذروته، أي مرحلة القوة والجبروت، بداية انحدار ثم تلاشي ذكر الكرد في التاريخ رغم شيوع الكتابة التاريخية. و لعل ما يصعب من التفسير هو استسهال قراء اليوم لمسألة الرقابة في ذلك العصر، وتقليلهم من شأن “التوجيه السياسي” في الكتابة. فنجد مثلاً أن الجاحظ يحامي ويدافع عن الترك بشدة، لدرجة أنه خصص في كتابه “الرسائل السياسية” فصلاً عن مناقب الترك، و هذا لا يخرج من باب بدء مجاراة اعتماد الخلفاء على هذا القوم كمقاتلة وجيوش، وكان لا بد من تنظيف سيرتهم الملطخة حتى بأحاديث منسوبة للنبي محمد. و رغم سيادة الأيوبيين نحو قرن من التاريخ، فإن صورة الكرد تعدلت قليلاً فقط، بشكل إيجابي، حيث أن مركزية الكتابة بقيت تتبع الخط العام البغدادي، لذلك لا يخفى إلصاق ابن الأثير المؤرخ، بالكرد صفة الإفساد مقرونة بجل ما يذكره من حوادث عن الكرد خارج دائرة الأيوبيين، خاصة الكرد في أذربيجان ولورستان وهمذان. هذا الالتزام بالتوجيه السياسي، أو فرضية وجود توجيه سياسي، ليس مخصصاً للكرد، بل لجميع الأقوام غير المطيعة لسلطة الخليفة. و قد زاد من تهميش الكرد في التاريخ، أنهم لم يأخذوا خلال بدايات الصراع الدموي بين شيعة علي وأبنائه من جهة، و الأمويين و الإسلام السلطوي العباسي من جهة أخرى، جانب أي منهما، بل كانوا أقرب إلى الخوارج، و هؤلاء لم يدونوا تاريخهم، و ربما وُجِدت و أُتلِفت، فما وصل من تاريخ الخوارج على ألسنتهم عبارة عن نتف قليلة حفظها الإباضيون، بينما الصورة السائدة عنهم وغيرهم من حركات التمرد قد دونها مؤرخو السلطة العباسية. فلا يكاد يعرف شيء عن دعوة الخرمية، على سبيل المثال، سوى نكاح المحارم كجوهر دعوتهم الاجتماعية! لذا، فإن السلطة كتبت تاريخها، والمعارضة (الرسمية) كتبت تاريخها ضمن مؤلفات الشيعة، و في كلا المدرستين، خاصة في المؤلفات الشيعية، صورة الكرد وضيعة مثل ما نسبوه إلى الإمام جعفر الصادق وغيره من الأئمة أن الكرد “قومٌ من الجن كشف الله عنهم الغطاء”. هناك إذاً، رواية السلطة و رواية المعارضة، وما من رواية ثالثة.
استقلالية عن السلطة والمعارضة
قد تكون المقدمة أعلاه كافية كمدخل للإجابة عن سؤال: أين هم الكرد في التاريخ الإسلامي؟ لماذا اختفوا إلى سطور متناثرة في كتب ثقيلة الأوراق؟
للكرد ظهور في الجغرافيا أكثر من التاريخ، حيث تقدم علم التدوين الجغرافي و كان أكثر استقلالية عن التوجيه السياسي، على عكس التدوين التاريخي الذي خضع إما لتأثير مركز التدوين (بغداد ومراكز سلطة الخلفاء في الولايات) أو لنزعات المؤرخ الملتزم بالمنهج المركزي، حيث يعتمد على ذكر الأحداث ذات الصلة المباشرة بالسلطة. و يقدم كتاب الدكتور حيدر لشكري “الكرد في المعرفة التاريخية الإسلامية” (دار الزمان) إحاطة غنية في مناقشة منهجية المؤرخين و قدم استنتاجات هادئة وعميقة لظاهرة قرب الكرد، جغرافياً، من مركز الخلافة، و ندرة أخبارهم في المؤلفات، وإنْ وجدت فهي متناثرة ولا سياق محكم للأحداث فيها. ويفسر لشكري على سبيل المثال، موقف المؤرخ والفقيه محمد بن جرير الطبري (توفي سنة 923م)، الأكثر استقلالية ونزاهة، لكنه لإيمانه بـ”وحدة الجماعة الإسلامية” فإنه يصغر أي جماعة متمردة على سلطة الخليفة، و منهم الكرد؛ فيقدم وقائع هزائمهم بانحياز للمنتصر الممثل للخليفة العباسي. فكانت صورة الكرد هي “المناهض العاصي.. المجردة من الصفات الإنسانية” (لشكري – ص 143).
في مثال آخر يناقش لشكري كتاب المؤرخ اليعقوبي (توفي سنة 905م) حيث لم يذكر فيها الكرد سوى مرتين بشكل عابر ومقروناً بشخصيتين هما “جيلويه” و عصمة الكردي”. هل لم يكن الكرد يفعلون شيئاً في زمانهم هذا وبلادهم تتسع من وسط خوزستان حتى أذربيجان، ومن همدان حتى الجزيرة؟ الواقع أن لشكري مصيب في تفسيره حول مركزية التدوين أولاً وعدم انقياد الكرد للخلافة ثانياً، و إن كان من عبارة تجمع السببين فهي أن بلاد الكرد لم تكن فعلياً جزءاً من بلاد الخليفة حتى الانسياب الكردي العسكري نحو الشام تحت راية الأيوبيين. و لم تتضح عقائد الكرد حتى هذه المرحلة، فكما مرّ في مادة سابقة نشرها المركز الكردي للدراسات، كانت المزدكية وبقايا الديانات القديمة ما زالت راسخة في المجتمعات الكردية. وحتى في أقرب المناطق للسيادة العربية، أي الموصل والجزيرة، فإن الدين الإسلامي لم يكن السائد فيها حتى زمن اليعقوبي أواخر القرن العاشر الميلادي. يورد الطبري أولاً معركة ضمن حوادث 872م طرفاها وكيل الخليفة المدعو مسرور البلخي و “الأكراد اليعقوبية”. ولم يتطرق الطبري في هذه الجزئية التي لم يذكرها إلا لأن جيش الخليفة أوقع بالكرد، ما هي عقيدة هؤلاء اليعقوبية. وترد إشارة لدى أبو عبيد البكري (توفي سنة 1094م) في كتابه “المسالك والممالك” عن الكرد النصارى على المذهب اليعقوبي وحدد انتشارهم في منطقة تمتد من الموصل إلى جبل جودي في شمال كردستان (كردستان تركيا). وجاء في النص: “ومن أجناس الأكراد: الشّوهجان والماجردان والماذنجان والكيكان والبارسان والمستاكان وغيرهم، وهم بأرض الدينور وهمدان وبلاد آذربيجان وبلاد الشام وبأرض الموصل إلى جبل الجودي، وهؤلاء نصارى على رأي اليعقوبيّة. ومن الكرد خوارج على رأي البراءة عن عثمان وعلي رضي الله عنهما”. (البكري – ج1 – ص 344).
بالتالي، يعود التناثر والهامشية في ذكر الكرد ضمن تدوينات العصر العباسي إلى خروجهم المتكرر عن سلطة بغداد، وعدم قدرة الجيوش المرسلة، حتى تلك المنتصرة كما في حملة الأفشين على بابك الخرمي، على الاستمرار في الاحتفاظ بالبلاد الجبلية المأهولة بعدد هائل من السكان. و هناك ما يدل على أن بلاد الكرد القريبة من بغداد بقيت بدون ولاة ومسؤولين يمثلون سلطة الخليفة. فيذكر ابن حوقل (توفي سنة 977م)، وهو أيضاً من الملتزمين بالتوجيه السياسي العباسي تزيين صورة الترك، في كلامه عن شهزور، عدم وجود عامل للخليفة فيها، وكذلك اتخاذ الخوارج منها ومن سهرورد قاعدة قبل أن يرحل عنها جلهم: “وشهرزور مدينة صغيرة قد غلب عليها الأكراد وعلى ما قاربها ودنا من العراق وليس بها أمير من قبل السلطان ولا عامل على وجوه أموالها وهى من رغد العيش وكثرة الرخص وحسن المكان وخصب الناحية بحالة واسعة وصورة رائعة، وكذلك مدينة سهرورد كشهرزور فى الأوصاف التى قدّمتها من ذكر خيراتها وقد غلب عليها الأكراد وهى فى قدر مساحتها ورقعتها وكان أكثر أهلها الشراة فانتقلوا عنها..” (ج2 – ص 123).
حتى الدولة الكردية المعروفة بالدوستكية أو المروانية بعاصمتها ميافارقين، ليس لها حيز من الإسهاب في التاريخ لولا كتاب ابن الأزرق الفارقي الذي صدف أنه من قضاة السلالة الكردية المروانية (حكمت بين 990م – 1084م). و هذا الحظ الذي أنقذ تاريخ الدولة المروانية من الضياع لم يُكتب لأسرة كردية أخرى أكثر أهمية واستقلالية، وأقرب إلى بيزنطة من قرب المروانيين إليهم، و هي الأسرة الخرمية التي حكمت أيضاً لأربعة أجيال متتالية منطقة أذربيجان. و لولا شهادات البطريرك السرياني ديونيسيوس التلمحري، لضاع حتى نسبه الكردي. وهنا يصف التلمحري المبرقع الكردي، مرة بالمسلمين، ومرة بالوثنيين، وأن المجوس قد اتبعوه. و المبرقع ليس أول زعماء هذه الطائفة كما يبدو من تجذر دعوته الدينية التي قدمها المؤرخون المسلمون وكأنها دعوة لإباحة زنا المحارم، و مع غموض من كان قبله، فإن التملحري ذكر زعيمين بعد مقتل المبرقع، هما ابنه هارون الذي قتل هو الآخر، وخلفه في الحكم بابك الخرمي ولقبه وفق البطريرك السرياني “راعي البقر”. (التلمحري – تحقيق تيسير خلف – ص 37، 40). لولا شهادة هذا البطريرك لكانت الرواية المنسوخة عن بعضها البعض بين مؤرخي العصر العباسي هي الوحيدة التي بقيت. و من الجدير بالذكر أن الوعي بالتاريخ في العصر العباسي كان متقدماً و تحت رقابة سلطوية، ولا أدل على ذلك سوى المعلومات المكررة المنسوخة نسخاً بين المؤرخين حول وقائع معينة، مثل ما يسمى “فتنة بابك”. لذلك، لا غرابة في اختفاء أي أثر تدويني يدل على الانتفاضات الخارجية على العباسيين من وجهة نظر المنتفضين.
غياب سيرة الإسلام
هذا الاستهلال حول منهجية الكتابة ضرورة للدخول في العصر الذي ظهر فيه الكرد على مسرح التاريخ في العصر الأيوبي. و هو ظهور أرستقراطي اقتصر على الطبقات الحاكمة و كبار أعوان الأيوبيين، بينما بقي المجتمع الكردي في طور المغيب. وعلى سبيل المقارنة، هناك تفاصيل لا حصر لها حول الحركات الاجتماعية في بغداد حين بدأت السلطة تتلاشى فيها، مثل العيارين والشطار ومجموعات التمرد الاجتماعي التي تشكلت من مختلف الجاليات الساكنة في بغداد، إلا أن مثل هذه المقاربة تجاه أي مجتمع كردي في المراكز الحضرية المأهولة بكثافة، كدينور و همذان و أذربيجان وشهرزور، بقيت مجهولة على التعريف. ذلك أن تدوينات المؤرخين في العصر العباسي تمحورت على الجانب السياسي إلى حد كبير، وكذلك صراعات القبائل العربية وغير العربية في مناطق التماس القريبة من حدود سلطة الخليفة في بغداد. الجزء الأكثر غموضاً في هذه المرحلة هو المظهر العقائدي، أو بعبارة فقهية “أركان الإسلام”. فبينما نالت سيرة الإيمان، في سردية المرحلة المبكرة، الجزء الأعظم من قصة الإسلام، فإن سيرة الإسلام تلاشت في العصر العباسي. وربما لا شيء يدل أن تنظيم العلاقة بين السلطة في بغداد- وهي سلطة ذات طابع فارسي في مرحلتها الأولى، وسلجوقي تركي في المرحلة الثانية – وبين المجتمعات المجاورة، قد بدأت ترسو على قواعد مالية و تعاقدية قبل كتاب “الخراج وصناعة الكتابة” لقدامة بن جعفر والمقدم إلى الخليفة العباسي هارون الرشيد. وهناك التباس شديد حول طبيعة التغلب العربي على البلاد غير العربية وغير الإسلامية، حيث أن مدناً يزعم أن أهلها دخلوا الإسلام في وقت مبكّر وتظهر لاحقاً أن الزرادشتية هي الدين السائد فيها، مثل مدن فارس وأذربيجان والجبال، و هذا يرجح إلى أن صيغة الفتح كانت تخضع لقبول المجتمعات المغلوبة الدخول في سيادة الدولة العربية الجديدة دون أن تتخلى عن عقائدها، أو ربما أن العقيدة الجديدة لم تكن قم نضجت على صورة دعوة متكاملة الأركان.
في تاريخ الطبري وردت عدة حوادث تشير إلى هذا الالتباس، وكذلك إلى أسبقية دخول الطبقات الأرستقراطية إلى الإسلام دون عامة الناس. و في هذا سبقت الفئة الإقطاعية الفارسية نظيرتها الكردية في الاندماج مع الدين الجديد ممثلة بالبرامكة رغم التباس أصولهم الإثنية، إلا أنهم في النهاية كانوا يمثلون بقايا المجتمع الزرادشتي، و الزرادشتية كانت متمركزة في فارس و وسط آسيا، فهي بالتالي طبقة ممثلة للإقطاعية الفارسية. ثم ظهر ممثلون للإقطاعية العسكرية الكردية وهم يرفعون راية الإسلام قبل العوام في وقت لاحق، و إذا لم يكن من سند مباشر لهذه الفرضية، دخول الأرستقراطيات إلى الإسلام دون العوام، فإن نقضها يكون أضعف. ففي الحقبة المقصودة، هناك اختفاء تام لدور الدعاة في الحياة الاجتماعية والدينية في البلاد الجديدة. لا شيء سوى قادة عسكريون يعينون ويخلعون فيأتي غيرهم، كما هناك شواهد ضعيفة ومتناثرة عن بناء المساجد في المدن التي يزعم أنها تحولت إلى الإسلام مبكراً، واقتصرت في بعض الحالات على بناء مساجد للجند والفئة المرافقة للولاة والحكام العسكريين، ومثال ذلك تحويل بيت نار زرادشتي في إقليم الجبال الكردي إلى “مسجد سليمان” (يقع اليوم في لورستان الكبرى). و في سرديات الأيام الأولى للإسلام، نقرأ لدى الطبري: “و لما بلغ أهل فارس قول عمر ورأيه في السواد وما خلفه، قالوا: و نحن نرضى بمثل الذي رضوا به، (لكن) لا يرضى أكراد كل بلد أن ينالوا من ريفهم. (الطبري – ج 4 – ص 33). وجاء في حادثة فتح تستر والأهواز أن الهرمزان طلب الصلح من المسلمين، فكتب عمر بن الخطاب إلى قائد الجيش العربي “يأمره أن يقبل منه على ما لم يفتحوا منها على رامهرمز وتستر والسوس وجندي سابور، والبنيان ومهرجانقذق، فأجابهم إلى ذلك، فأقام أمراء الأهواز على ما أسند إليهم، وأقام الهرمزان على صلحة يجبى إليهم ويمنعونه، و إنْ غاوره أكراد فارس أعانوه وذبوا عنه”. (الطبري- ج4 – ص 74 ).
وأكثر من ذلك ما نقله الاصطخري عن مؤرخي الفتوحات الأولى، فإنه تحدث عن عهود حصل عليها الأرستقراطيون الكرد في فارس ليكون لهم نصيب من الجباية كنوع من التسوية عبر مقاسمة الأموال. فذكر أن المقاسمة في كور فارس على وجهين: “ضياع فى أيدي قوم من أهل الزموم وغيرهم، ومعهم عهود من علي بن أبى طالب عليه السلام ومن عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وغيرهما من الخلفاء، فيقاسمون على العشر والثلث والربع وغير ذلك ، والوجه الآخر مقاسمات على قرى صارت لبيت المال ، فيزراع الناس عليها”. (الاصطخري – المسالك والممالك)، وإنْ لم يكن الكرد قد ذكروا بالاسم في هذه الفقرة فإن كلمة الزموم لا تدل على أحد غيرهم، و هم بين أربعة إلى خمسة زموم في إقليم فارس.
اندماج بلاد الكرد في الخريطة الإسلامية
ضمن هذه البيئة الغامضة في التدوين التاريخي، ظهر الأيوبيون على مسرح التاريخ كممثلة لطبقة عليا كردية حين يكون اتصالهم بالمجتمع الكردي، وكسلالة إسلامية جهادية فرضت نفسها بخططها العسكرية المذهلة على مشهد الأحداث، خاصة في عهد صلاح الدين الأيوبي الذي أحدث نقلة في التخطيط العسكري الشرقي، و هو موضوع ليس محوراً ضمن هذا الطرح (في دراسات قادمة نتطرق للدور الأيوبي بالتفصيل في إنهاء عزلة كردستان التي امتدت لأكثر من ثلاثة قرون).
إن الإسهاب الكبير من جانب المؤرخين حول سيرة العائلة الأيوبية، وفرت جوانب اجتماعية كانت خفية في السابق بخصوص الامتدادات الكردية الجبلية التي تنحدر منها السلالة الأيوبية. و ما أن حلت سنة 1220م، حتى كانت البلاد الإسلامية في غاية الاضطراب لكنها أيضاً في ذورة التوسع الأفقي. فقد تم إدماج بلاد الكرد كاملة ضمن الإمارات الإسلامية شبه المستقلة وبقيادة كردية محلية، واستمر الحال على ذلك حتى منتصف القرن التاسع عشر حين ألغى السلطان محمود الثاني الوضع المستقل للإمارات الكردية في كردستان.
في تلك المرحلة الأيوبية، خسر الملك الكامل الأيوبي مدينة دمياط لصالح الصليبيين عام 1220، و بدأ هجوم جيش المغول بقيادة جنكيز خان على خراسان وأذربيجان بسبب رعونة علاء الدين خوارزم شاه، الذي استدرج عن غير عمد، جيش المغول لمهاجمة بلاده عبر قتل رسل جنكيزخان و جلافته في التعامل مع المغول. وكان لافتاً أن جيش المغول حين عبر أذربيجان، التي كانت مسكونة أساساً بالكرد والتركمان وشعوب إيرانية أخرى، فإنه وفق ما ذكره ابن واصل في كتابه “مفرج الكروب” أنه انضم إلى التتار “جمعٌ من المفسدين من أهل تلك الجبال من التركمان والأكراد وغيرهم، وساروا في مقدمة التتر إلى الكرج، ففتحوا حصناً من حصونهم، وخربوا البلاد ونهبوها، وقتلوا أهلها، وسبوا ما لا يحصى حتى قربوا من تفليس” ( ج4 – ص 48). و مثل هذه الوقائع غامضة في التاريخ، ذلك أن المؤرخين المعاصرين للأحداث أو من عاصروا شهود العيان عليها، لم يتطرقوا للتناقضات الدينية والاجتماعية ذات الطابع الإقليمي. و من غير المرجح أن يكون الكرد الذين انضموا إلى جيش المغول في أذربيجان من معتنقي الدين الإسلامي حيث بقي قسم من الكرد في المعاقل الجبلية، من أذربيجان إلى زاغروس والموصل، على أديانهم القديمة، و هي متقاربة في المعتقد ضمن اشتقاقات مذهبية من الزرادشتية والمانوية. وهناك شهادة تكاد تكون وحيدة عن ديانة جماعة من الكرد أوردها المؤرخ السرياني ابن العبري (توفي عام 1286م). فكتب في “مخطوطة تاريخ الأزمنة” ضمن حوادث عام 602 هجرية (1205- 1206 م) : “وفي سنة 602 هجرية خرجت جماعة كردية من جبال ميديا كانت تسمى تيراهايا؛ أحدثوا بكثير من المدن تخريباً وتدميراً، وتجمعت قوات من الفرس وقابلوهم في معركة وقتل منهم الكثير”. والمقصود هنا قوات الفرس هو قوات الخليفة العباسي حيث كان المؤرخون السريان يعتبرون بغداد تحت السيادة الفارسية.
ثم يضيف ابن العبري كلاماً حول معتقد هؤلاء الكرد: “لم يدخل هؤلاء الجبليون في دين المسلمين، ولكنهم اعتنقوا الوثنية القديمة والمجوسية التي كانت لديهم، وعندما يقع مسلم في أيديهم يقتلونه بعد تعذيب أليم..” (ص 52).
هذه الشهادات التي أوردها مؤرخون عن الفترة المبكرة، و حصول ممثلي الطبقة الإقطاعية الكردية على عهود مالية من الخلفاء الأوائل، و خشية أمراء الفرس المستسلمين من الكرد وطلبهم العون من العرب لحمايتهم من الكرد، يدعم فرضية عدم تحول الكرد للإسلام مبكراً، و يترك شكوكاً على روايات الفتوحات الأولى حول اقتحام المدن في شهزور وأذربيجان والسبي و غيره مما يرافق انهيار الدول وحلول غيرها؛ غير أن الوحشية في الحرب والسبي قد طغت خلال هزيمة الخرّمية. كما أنّ هذه السيرة تعطي فكرة عن الانفتاح والانعزال.. ففي ثورات الخرمية، ثم الداسنية في الموصل وهكاري بزعامة الأمير جعفر الداسني، ثم تأسيس الدولة المروانية في ميافارقين، و الأردلانية (اليارسانية) في شهرزور و لورستان، في كل هذه الحركات كان الطابع الهوياتي والعقائدي فيها يتمثل في الانسحاب من دائرة السلطة المركزية، لكن دون أن تنجح أي من هذه الحركات في تأسيس دولة ذات مركزية صلبة، على غرار بغداد العباسية. و رغم إجماع مؤرخي السلطة العباسية على أن حركة بابك قد أصابت مؤسسة الخلافة بالهلع، فإن في مرحلة من المراحل، استطاع بابك حشد مئتي ألف مقاتل في سبيل دعوته الدينية والسياسية، لكنه لم يقم بالخطوة التي تحرر هذه القوة الهائلة من طور الانعزالية إلى المبادرة في الهجوم على مركز الخلافة ذاتها في بغداد تحت الرايات الحمراء التي اتخذوها شعاراً للدعوة المزدكية الجديدة؛ فبقي بابك نحو 20 عاماً بين جبال أذربيجان ولورستان وأرمينيا، وكانت هذه الـ20 عاماً كافية لتستعيد السلطة العباسية قوتها وتجهّز قوة جبّارة تقضي على الخرمية بقيادة الأفشين، القائد الفارسي المنحدر من طبقة زرادشتية ذات شأن منذ أيام الدولة الساسانية، و الأفشين (أو آفشين) لقب ساساني قديم وليس اسماً، ويطلق على كل شخص يحكم مقاطعة أسروشنة الإيرانية وسط آسيا. فوقعت الخرمية التي كافحت قرابة قرن كامل حتى بلغت ذروتها مع بابك، وقعت في فخ امتلاك الدعوة والخطة المعلنة لكن دون تنفيذها، و هو القضاء على مركز السلطة في بغداد.
بعض السلالات الأرستقراطية الكردية نجت من معادلة الخرمية، فاستمرت قرابة سبعة قرون، مثل السلالة الأردلانية، والبابانية، و هما من الدول الفريدة التي يصلح فيها الوصف أنها من “الدول المختبئة” المتوارية عن الأنظار، حتى أنه لا ذكر للسلالة الأردلانية في التاريخ المدوّن طيلة ثلاثة قرون من التأسيس المؤرخ في حدود 1160م.
في تجربة أخرى، هناك العاصمة الكردية الأقوى في القرن الحادي عشر، ميافارقين، خلال حكم السلالة المروانية الكردية. وبينما كانت الدولة الأردلانية “مختبئة” اعتمدت المروانية على دور وظيفي هو الحاجز المهدئ للصراع بين الإسلام والمسيحية عبر بناء علاقات إيجابية مع الإمبراطورية الرومانية الشرقية لحساب الخليفة العباسي. لكن هذا الدور الوظيفي لم ينقذها من التعرض لأول هجوم سلجوقي سنة 1042م (ابن الأزرق – تاريخ ميافارقين – ص 161) وتأجل اقتحام آمد بعد دفع الأمير المرواني أمولاً طائلة للسلاجقة. وطيلة الفترة من هذا التاريخ وحتى سنة 1086م، تاريخ الانهيار، ركن الكرد في هذه الدولة إلى دفع الأموال لحماية انعزالهم الفريد عن المحيط المضطرب، إلى أن جاءتهم الضربة القاضية على أيدي السلاجقة، فخاطب الوزير نظام الملك السلطان السلجوقي ملكشاه: “تلك البلاد قد خلت، وبها من الأموال ما لا يعد ولا يحد”. وفي عام 1086، استولى ملكشاه وجنود الترك السلاجقة على ممالك الكرد قاطبة. وأرسل السلطان ملكشاه إلى أمير الكرد ناصر الدولة يسأله، تهكماً أو جاداً، عما يطلبه مقابل ما خسره، فأجابه ناصر الدولة: “حربة تقع في صدري فتخرج من ظهري” (تاريخ ميافارقين – ص 213).
على عكس الخرمية والمروانية والأردلانية، خرجت الأيوبية من حدود الكرد. وهذا حدث يؤرّخ للمرة الأولى على الصعيد الكردي منذ الدولة الميتانية – الهورية 1500 ق.م. لكنه كان توسعاً إشكالياً، فقد كان معكوساً، بدأ من مصر ودمشق ثم اتجه نحو كردستان.
*الصورة المرفقة لوحة تمثل معركة دمياط بين المسلمين والصليبيين عام 1220م
حسين جمو، كاتب كردي سوري. له العديد من الدراسات والأبحاث السياسية والتاريخية. صدر له “التكايا المسلّحة – التاريخ السياسي للطريقة النقشبندية الكردية” و”الأنبار.. من حروب المراعي إلى طريق الحرير”.