تعرض قنوات تركية مسلسلاً جديداً بعنوان “الذئب فقط”، وقد تداولت حسابات كردية على وسائل التواصل الاجتماعي مقاطع من هذا المسلسل بصيغة استنكار للعنجهية التي يتم فيها استعراض أحقية تركيا في احتلال كردستان، بما في ذلك كردستان العراق. و يظهر شخص تابع للمخابرات التركية في المسلسل داخل قاعة تحقيق أو محاكمة، وفي القاعة صورة كبيرة للزعيم الكردي مسعود بارزاني، و حوارات مصاغة ليكون فيها التركي منتصراً في الحجة رغم ركاكة السيناريو من كافة النواحي. هذا العمل الدرامي ليس الأول في سلسلة الجهود التركية لتركيب صورة بصرية كثيفة للإبادة والتوسع والاحتلال، القائم والقادم منه. فعلى منصة نتفلكس، يروي فيلم تركي بعنوان Godspeed سيرة عناصر من الجيش التركي قتل أحدهم خلال مواجهات مع حزب العمال الكردستاني. والعمل برمّته مبرمج وموجه بأسلوب فج و مكشوف لتبرير الحرب التركية ضد الكرد و ممثليهم في السياسة والكفاح المسلح. على أن من المهم وضع هذه الأعمال الدرامية في سياق متكامل مع برنامج الدولة التركية في التلاعب بالتاريخ.
ما زال التاريخ الكردي، في إطاره السردي، في دائرة القرصنة من جانب المدارس والمؤسسات القومية في الدول المعلنة خلال القرن الماضي على الأرض التي دارت فيها أحداث كان أبطالها شخصيات كردية عبر التاريخ. الحديث هنا عن تركيا وسوريا وإيران، والعراق حتى عام 2003، من حيث هي دول قائمة على “كتالوغ” مبرمج من زاوية واحدة، مهمتها ليس فقط اختلاق تاريخ قومي، فهذا الاختلاق هو وظيفة أساسية من وظائف الدولة القومية، إنما العدوان الفكري المتمثل في إلغاء “الآخرين” من التاريخ. وهناك مثال يمكن العودة إليه لاحقاً بتفاصيل أكثر، و هو طريقة تعامل البروفسور أكمل الدين إحسان أوغلو، الأمين العام السابق لمنظمة المؤتمر الإسلامي، ومرشح حزب الشعب الجمهوري في انتخابات 2014 الرئاسية، في كتابه المترجم إلى العربية على جزأين، وفي أكثر من ثلاثة آلاف صفحة (الدولة العثمانية.. تاريخ وحضارة). كان من الممكن أن يرد اسم “الكرد” مئات المرات، في سياق الحوادث التي كان لهم دور رئيسي فيها. كان من الأمانة التاريخية على الأقل ذكرها (وليس تمجيدها). هذا ما كان يحدث فعلاً حين لم يكن التاريخ قد أصبح من مهام “الجمهورية” بعد عام 1923. ولأن كتاب أكمل الدين تم تأليفه في عهد الجمهورية، مثله مثل آلاف الكتب غيره، فإنه حين يتحدث عن اللغات التي أثرت وتأثرت بالعثمانية، على سبيل المثال، يذكر كل لغات المنطقة؛ العربية والفارسية والبلقانية والروسية والجورجية واللاظية والأرمنية، لكنه لا يذكر الكردية، وهي أقرب اللغات جغرافياً، والأكثر احتكاكاً بالتركية جهة الأناضول، لدرجة أن الفنون التركية والكردية قد تداخلت بشكل كبير في نمطي الموسيقا والغناء. هذا الاحتيال الواعي ينطبق على المؤرخ الأكثر شهرة أيضاً، خليل إينالجيك، حيث أن مؤرخاً مطلعاً على كنوز الأرشيف العثماني مثله لا تغيب عنه وثائق أدوار الكرد في الدولة العثمانية، لكنه بالكاد ذكرهم في إطار “القبائل الكردية”. مرّ إينالجيك على حرب جالديران عام 1514 وكأنها معركة تركية خالصة، وينتقي ما شاء من كتاب أوليا جلبي (سياحتنامة) الذي تم فيه أول تفصيل للجغرافيا البشرية لكردستان، وبشكل أفضل من كتاب الشرفنامة لشرف خان بدليسي الذي اهتم بالطبقة الكردية الحاكمة، على عكس جلبي الذي وثّق جوانب غزيرة من الحياة الاجتماعية والثقافية في كردستان. لا يقتبس إيناليجك، وأكمل الدين إحسان أوغلو، والمؤرخ يلماز أوزتونا، من سياحتنامة جلبي شيئاً بخصوص التشاركية الكردية التركية، أو الصدامات بينهما. فقط هناك مناسبة لا يتفادون فيها ذكر الكرد، و هو تعرض الكرد لمجازر منسوبة للأرمن من أجل تبرير الإبادة الأرمنية. إنهم يلتزمون بمنهج الدولة في إعادة صناعة التاريخ حتى لو لم يكونوا جزءاً من مؤسسات الدولة.
بالتالي، التاريخ العام لمنطقة إيران والأناضول وبلاد ما بين النهرين، منقّح في مختبر الدولة القومية الحديثة. و لعلّ إيران بإرثها الإمبراطوري في التاريخ، الأقل تزويراً في هذا الجانب، لأنها ضمنت السيادة الفارسية في معظم مراحل تاريخ إيران في وقت مبكر، قبل ظهور الدول القومية الحديثة مطلع القرن العشرين، فمهمة السيادة الفارسية أنجزت في وقت مبكر على أيدي مؤرخي العصر العباسي، حتى أن نسخة أبو القاسم الفردوسي (توفي عام 1020م) من “الشاهنامة” حذفت فصلاً كاملاً من تاريخ إيران و هو حقبة الدولة الميدية (هناك خلاف على سنة تأسيسها أما انهيارها فكان في 550 ق.م).
إن المساهمة الكردية في تاريخ هذه المنطقة ما زالت متناثرة و تائهة، فمن جهة عمدت الدولة القومية الأحادية (تركيا، سوريا، العراق، إيران) على إزاحة الكرد من التاريخ، و في أحسن الأحوال كان يتم تعريب ما لا يستطيعون حذفه، مثل مسألة أصول صلاح الدين الأيوبي. فحدث أن أحد أمراء بني أيوب ويدعى المعز إسماعيل بن سيف الإسلام ابن أيوب، قد ملك بلاد اليمن، وخطرت له فكرة أن يدعي نسباً قرشياً ليعتلي عرش اليمن كخليفة وليس فقط كملك. وقد ذكر ابن خلكان في كتابه وفيات الأعيان، نقلاً عن ابن العديم الحلبي، أن المعز إسماعيل: ادّعى نسباً في بني أمية وادعى الخلافة. وسمعت شيخنا القاضي بهاء الدين، عرف بابن شداد، يحكي عن السلطان صلاح الدين أنه أنكر ذلك وقال: ليس لهذا الأصل أصلاً” (ابن خلكان – وفيات الأعيان – دار صادر، بيروت – ج7 – ص 141). إلا أن مسألة النسب العربي للعائلة الأيوبية بقيت تظهر بين فينة و أخرى، خاصة حين أصبح التاريخ مادة لكثير من الابتذال على وسائل التواصل الاجتماعي. وحقيقة أن العائلة الأيوبية حافظت على سر و لم تبح به طيلة فترة حكمها قرابة قرن، و بعد ذلك. فقد أخفت العائلة بشكل متعمّد شجرة عائلتها، و معروف أن أطول نسب قد ذكره ابن خلكان الذي تقصى عن شجرة العائلة و زاد اسماً واحداً فقط و هو مروان: “ولقد تتبعتُ نسبتهم كثيراً فلم أجد أحداً ذكر بعد شاذي أباً آخر، حتى إني وقفت على كتب كثيرة بأوقاف وأملاك باسم شيركوه وأيوب، فلم أر فيها سوى شيركوه بن شاذي، وأيوب بن شاذي، لا غير؛ وقال لي بعض كبراء بيتهم: هو شاذي بن مروان” (وفيات الأعيان – ج 7 – ص140). فإذا كان من موضوع يصلح مادة جديدة للتاريخ هو تقصي سبب تعمد بني أيوب إيقاف نسبهم عند “شادي” حتى لم يفصحوا عن اسم مروان، و هو نسب قصير، ومثير للريبة قياساً بالفخر العالي من أمراء بني أيوب لمكانتهم، ومثال ذلك قصيدة نقلها ابن واصل في كتابه “مفرج الكروب في أخبار بني أيوب” ضمن حوادث 617 هجرية، للملك المنصور محمد بن تقي الدين عُمر بن شاهنشاه الأيوبي، ملك حماة، ومما جاء فيها:
وكل فخر سوى فخري فمختلق … زور وقائله ينمى إلى الكذب
أنا الذى لم ينل من ذا الورى أحد … ما نلته قط من عجم ومن عرب
سموت فيهم بأصل لا يقاومه … أصل ومن بعده بالعلم والأدب
ما الذي يخفيه الملك المنصور في هذه القصيدة؟ ما الأصل الذي يسمو على كل العرب والعجم؟ هل يقصد جده شادي؟! لم يكشف الأيوبيون من يكونون، و هذا الكتمان ليس بلا سبب. فالعائلة من القبيلة الهدبانية الكردية في أذربيجان حين كانت أذربيجان موطناً لقبائل كردية لعبت أدواراً مفصلية في التاريخ. و لعل مجرد الشك يقود إلى احتمالات (مجرد احتمالات) أو تساؤلات فيما إذا كانت العائلة الأيوبية امتداداً لعائلة باباك خرمدين (بابك الخرمي) أو من رجال الدين المزدكية أو الزرادشتية.
إنّ أهمية التاريخ في الوضع الكردي الراهن ليست في اختلاق سيرة متماسكة غير منقطعة على امتداد 2700 سنة، رغم أن ذلك ممكن بدون اختلاق حتى، ويحتاج جهوداً ما زالت غير متأهبة لمثل هذا العمل الكبير. الأهمية تكمن في أن نموذج الدولة القومية المشوهة، المتمثلة في تركيا وسوريا على وجه التحديد، و العراق وإيران تالياً، قائم على أرضية تاريخية لا يوجد فيها أثر حتى لشخص كردي يقول إنه كردي أو عائلته كردية. في إحدى مناهج الدراسة الجامعية في تركيا، صلاح الدين الأيوبي هو قائد تركي ويقاتل من أجل رفعة الأمة التركية. كذلك هو قائد عربي في التاريخ الرسمي السوري. لأن الجزء الكردي من التاريخ مستباح، حتى لو كان جزءاً صغيراً من مرحلة تاريخية طويلة، يبقى ممنوعاً من الظهور. و هو تاريخ مستباح من كافة النواحي، وهذه الاستباحة هي التي تجعل من باحث سوري يطلق على بلاد الجزيرة التي كانت تاريخياً وحتى قبل مئة عام، خارج تصنيف بلاد العرب، اسم “الجزيرة الشامية”. و ما الذي يمنعه؟! إن نزعة الإلغاء الجماعي للكرد في الوقت الراهن تم تأسيسه أولاً على إلغاء الكرد من التاريخ، حتى الإسهامات المؤقتة التي كانت إقليمية في عهد الدولة المروانية في آمد وميافارقين، وإمبراطورية تعددية في عهد الأسرة الأيوبية، يجري التعامل معها بعقلية الإبادة. الدولة الحديثة في أذربيجان تتوّج بابك الخرمي بطلاً من الإثنية التركية، ولا تحتفي به لمجرد أنه ابن المكان بل ابن القبيلة، ذلك لأن هذا الجزء من التاريخ مستباح ومشاع، يأخذ منه كل طرف ما يحتاج إليه ويرمي الباقي في سلة الحظر من التداول. لذلك، لا يمكن كسر نموذج الدولة القومية الأحادية بدون كسر هذه الحلقة من السطو على التاريخ. إنّ الأساس القومي للدولة الحديثة في المنطقة يحمل مضمون الدولة اليهودية في الحق التاريخي ، و هذه نقطة افتراق عن نموذج القومية الفرنسية القائمة أكثر على الإرداة المشتركة في العيش ضمن كيان سياسي وكذلك النموذج الألماني القائم على اللغة والأصل المشترك. والحق التاريخي يأخذ بالتاريخ إلى سطور مستقطعة، و سنوات مستقطعة. حين تبني الدولة التركية سرديتها على تابعية الموصل وكركوك للقومية التركية فإن هذا البناء يقوم على استقطاعات منتقاة من التاريخ، كأن يكون حاكم أربيل في فترة تاريخية ما من التركمان، على غرار القائد البارز مظفر الدين كوكبري (توفي عام 1232 م)، حيث تسكت الرواية التركية أنه كان والياً من ولاة الأيوبيين ولم يكن صاحب دولة مستقلة. كذلك يقومون بالخلط بين التابعية السياسية لولايتي الموصل وحلب للدولة العثمانية أواخر أيامها، وبين تلفيق تاريخ إثني تركي للولايتين. الدولة التركية تفعل ذلك بسهولة وبدون حرج، لأن التاريخ مستباح لها، و لأن استباحة التاريخ مشروعها و مشروعة لها. بعد أن يتم اختلاق التاريخ وفق هذا المنهج يجد الكردي نفسه أمام السؤال الأصعب: أين أنتم في التاريخ؟
لذلك، من غير الممكن التأسيس لتعايش حقيقي في المنطقة، الآن ومستقبلاً، و التسليم بالتعددية القومية في حيز جغرافي متداخل بين القوميات والقبائل والأديان، بدون انتزاع هذه الورقة من مصانع الإبادة السياسية المتمثلة في الدول القائمة، وعلى رأسها الدولة التركية. ليس الغرض من إعادة كتابة التاريخ إيجاد موقع للكرد بحد ذاته، إنما خلق ثغرات قوية في الروايات المؤسسة للإبادة والإلغاء والأحادية المتطرفة.
إن مقارنة أي دراسة تاريخية، سردية أو تحليلة، جرى تأليفها في عهد الجمهورية، ومقارنتها بأي نسخة من نسخ التاريخ في الدولة العثمانية، مثل تاريخ بجوي أفندي، فإن ما قد يفهمه قارئ يريد المقارنة بين العناصر الاجتماعية في الحقبتين، العثمانية والجمهورية، أنّه كان هناك شعب اسمه “الكرد” وقد اختفى من التاريخ على نحو مفاجئ و بدون تفسير، مثل اختفاء كائنات عملاقة خلال دورات التحول المناخي العنيف لكوكب الأرض. أحياناً يكون التفسير الأكاديمي الخارجي (الأوروبي تحديداً) ملتزماً بالنص الرسمي أكثر من اللازم. فمَنْ هو الأكاديمي الذي سيقتنع أن الجمهورية التركية لم تترجم أي نسخة كاملة من “سياحتنامة” أوليا جلبي، والأجزاء التي تمت ترجمتها منقّحة بحيث يظهر فيه الكرد شعباً لم يكن موجوداً في ذلك الحين؛ لا حضور له، ولا تفاعل مع الأحداث، ولا موقف مما يجري حوله؟ لقد أتاح الانتقال من الأبجدية العثمانية إلى اللاتينية، ممارسة الجمهورية أكبر عملية تصفية معرفية وتاريخية. لقد تم تركيب تاريخ جديد ملفّق، وهذا التلفيق هو الأساس البحثي لمئات الدراسات الأكاديمية في يومنا الحاضر.
لم يتوقف الأمر على الكتب فقط. هناك مواقع عديدة لأرشيف الصحافة العثمانية. أهمها أرشيف جامعة مرمرة (Özel Arşiv Koleksiyonları) وأرشيف جامعة اسطنبول (Sehir University e-arsiv)، وغيرهما. في هذا الأرشيف لم يعثر فريق “المركز الكردي للدراسات” على أي نسخة من أي صحيفة صدرت في اليومين التاليين لصدور “الميثاق الملي” بتاريخ 28 شباط 1920. ولا أي صحيفة صدرت في الأيام الأولى من إقرار وثيقة مؤتمري أرضروم وسيواس في في 23 تموز، و 11 أيلول، على التوالي. لأن الشهادات الكردية في تلك الحقبة حول الوثائق تتحدث عن كردستان بالاسم، وعن الحكم الذاتي لكردستان. كذلك ليست هناك أي صحف معروضة في هذه المصادر في التواريخ المتعلقة بالمناقشات الكردية في البرلمان الأخير العثماني والبرلمان الأول تحت مسمى “الجمعية الوطنية الكبرى” عام 1920. قد لا يكون هذا الرصد مقنعاً للعديد من القرّاء غير الكرد ممن يتبعون مناهج تنظر إلى الدولة – أي دولة – على أنها في النهاية “كيان عاقل” و “لا يشغل نفسه بإخفاء هذه الأمور”. حقيقة إن أي دولة أحادية الهوية وظيفتها الأولى هي إعادة ترتيب الحقائق و الأكاذيب. غير أنّ الخلاصة الموجهة إلى الكرد، أن “الجمهورية” قد قررت منذ تأسيسها إزالة شعب كامل، هو الشعب الكردي، بعد إزالة الأرمن من الوجود، لكن لم يسعفها الظرف بشكل دائم لتنفيذ هذه المهمة على نحو حاسم، لذلك تقوم بذلك على دفعات، وبدون أن يكون الأسلوب دموياً على الدوام. إنه نظام سياسي مصممم لخلق تلك الفكرة التي ألهمت الجيش الأميركي على تغيير سياساته في محافظة الأنبار العراقية، وهي تأثير البكتيريا الصديقة في إزاحة البكتيريا الضارة أو تقزيمها. لقد سبقت الجمهورية إلى تطبيق هذه الفكرة قبل عقود طويلة، حين وضعت آليات ممولة ومسلحة لخلق شريحة كردية تنكر نفسها بنفسها بدءاً من انقلاب عام 1960 ، ثم دعم هذه الشريحة بكل قوة، وفتح أبواب الجمهورية أمامها، كأتراك صالحين، ساخرين من “السذاجة الكردية”.
قد يُنظر إلى هذا الفعل أنه أمر بسيط للغاية ولا يستحق التوقف عنده. ماذا يعني إغفاله اسم “الكرد” في كتاب ما، إلا في حالات نادرة تم تطرق فيها إليهم، بعضها حين تكون جريمة ما حاضرة وارتكبها بعض من الكرد؟ إن هذا التجاهل منهجي، وليس غفلة. إنه بالضبط إبادة أكاديمية. توجيهات الدولة التركية تغلغلت في صفوف معظم أكاديميي تركيا، والكثير من أصدقائهم غير الترك. إن ما تعرض له الكرد على صفحات الأكاديميا الرسمية، سواء التركية أو تلك الأكاديميا التي تلتزم بتوجيهات المكتب الثقافي في الاستخبارات التركية، إبادة مكمّلة لإجراءات إلغاء الكيان الروحي للفرد والمجتمع في عموما كردستان. القاعدة بسيطة: “اكتب وكأن لا وجود للكرد”. حين تتم الكتابة وفق هذه القاعدة، فإنه يمكن للباحث الأكاديمي حتى شتم الجمهورية وانتقاد كل ما فيها، الجيش والبرلمان والاستخبارات والأحزاب. سيكون كاتباً حراً، إلى حد كبير، إذا التزم بهذا المنهج. هل هذا التصور مبالغة؟ يكفي إلقاء نظرة على ما الذي يحرك السياسة الخارجية التركية برمّتها هذه الأيام؟ لا شيء سوى الكرد، من توسيع حلف الناتو إلى ملاحقة برلمانية من أصل كردي في السويد.
اليوم حركة الترجمة من الأبجدية العثمانية إلى التركية اللاتينية ليست فقط نادرة، بل تخضع لمراجعات أمنية على مستوى رفيع، لإزالة كل ما يتعلق بحضور الكرد وكردستان. لذلك، فإن التاريخ الكردي قبل الجمهورية، غني، مليء بالأحداث، وكذلك الأخطاء السياسية، ولا تخلو من جرائم مروعة أيضاً في سياق الحروب الأهلية والتوترات الاجتماعية في مرحلة انحلال العثمانية. التاريخ الحقيقي لكردستان سجين الأبجدية العثمانية. وقد جرت محاولات محدودة مهمة، بجهود فردية، من قبل العديد من الباحثين والمترجمين الكرد، لنقل جزء من هذا الأرشيف إلى الكردية، غير أن الجزء الأكبر يبقى حبيس الأرشيف. وقد يكون متاحاً الآن للاطلاع الفردي، وقد يتمكن باحث أو عدة باحثين، من الاطلاع على بعض الوثائق وكتابة شيء ما، غير أن سنّة المعرفة في الجمهورية، أن هذه الإمكانية ستصبح مستحيلة حين يشعر مكتب الثقافة الأمني، أن الجهود أصبحت منظمة ومؤسساتية.
إنّ ضربة البداية تحدد، إلى حد كبير، وجهة بناء الشخصية السياسية. حين تكون سردية البداية تحت هيمنة التضليل والتحريف، فإنّ هذا التضليل المدبّر، في أغلبه، من جانب كيانات الدول الأحادية، وموظفيها وأكاديمييها، قد تم تصميمه للتشويش على خيارات الحاضر. إن ضربة البداية في الإبادة مثقلة بالدم والتخطيط الإجرامي، لإيصال هذا الشعب إلى أن يتخذ خيارات إما تفوق طاقته (مثل الدعوات إلى تفكيك تركيا)، ليسهل على الدولة القضاء عليه سريعاً، أو يصبح جزءاً من دولة الاحتلال، في مسعى لإبعاده عن الخيارات الأكثر إيلاماً في تفكيك الدولة الأحادية.