باتريشيا كوهين
لقد بدأت ملامح الإقتصاد التركي المتدهور تُلقي بظلالها على الحياة اليوميّة في تركيا ، طوابير طويلة أمام منافذ بيع الخبز ، فيما حلّقت أسعار الأدوية والحليب وورق التواليت. وأغلقت بعض محطات الوقود أبوابها بعد نفاد مخزونها. أمام هذا الواقع، عمّت المدن التركية موجات غضب عارمة ومظاهرات حاشدة ضد تردي الأوضاع المعيشية.
وفي بيانٍ له، قال إتحاد نقابات العمال التقدمي الشهر الماضي : “إن البطالة و إرتفاع تكاليف المعيشة و زيادة الأسعار والفواتير باتت تؤرقنا “.
لقد كان الإقتصاد التركي يُعاني حتى قبل أن يظهر وباء كورونا، وتوقفت سلسلة التوريد بشكل رئيسي مما سببت ركودٍ في اقتصادات العالم منذ ما يقرب من عامين، كانت تركيا تسعى لتفادي الركود، حيث كانت تكافح مع الديون الهائلة المترتبة عليها ، إضافة للهبوط المدوي في قيمة الليرة التركية وما نتج عنها من تأثير سلبي على الواقع، بالإضافة إلى زيادة حجم التضّخم . لكن في الأسابيع الأخيرة ، تسارعت وتيرة إنهيار العملة التركية وما رافقها من ارتفاع الأسعار وفقدان بعض المواد. إن سبب هذه الأزمة هو سياسة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في البلاد التي أقرب ما تكون إلى سياسة استبدادية.
لماذا انهارت العملة في هذا التوقيت؟
إن المشاكل الإقتصادية في تركيا لها جذور عميقة وأسباب مُتعددة ، بيد أن الأزمة الأخيرة كانت بسبب إصرار أردوغان على خفض أسعار الفائدة في مواجهة التضّخم المُتسارع _ وهو بالضبط التكتيك المُعاكس لما يصفه الاقتصاديون تقريباً على مستوى العالم .
لطالما قاوم أردوغان _ الذي حكم تركيا لمدة 18 عامًا _ إرتفاع أسعار الفائدة، لكن يبدو أن تصميمه على الإستمرار في خفض أسعار الفائدة حتى مع إرتفاع مُعدّل التضخم في البلاد إلى نسبة مرتفعة بلغت نحو 21 ٪، سيدفع بتركيا واقتصادها إلى المجهول.
عادة ما يتطلع المستثمرون وغيرهم إلى البنك المركزي للدولة لإبقاء التضخم تحت السيطرة وتحديد أسعار الفائدة. لكن السيد أردوغان هدّد محافظو البنوك المركزيّة ووزراء المالية في تركيا في حال لم ينزلوا عند رغباته و تنفيذها، سوف يتخلص منهم، وكان ذلك جليّاً عندما أقدم على طرد ثلاثة منهم بالفعل في غضون عامين.
وفي غضون ذلك، تراجعت قيمة الليرة في الأسابيع الأخيرة، ووصلت يوم الإثنين إلى مستوى قياسي بلغ 14.3 ليرة للدولار الواحد، بعد أن كانت 7 ليرة للدولار في وقت سابق من هذا العام _ وقد تسبب ذلك بإفلاس بعض الشركات و العوائل التي اقترضت أموالًا من الخارج. إن إستمرار تدهور العملة التركية بهذا المنوال سيرافقه أيضا إستمرار في ارتفاع أسعار السلع المستوردة. ناهيك عن فقدان بعض المواد في الأسواق الذي بات واقعا مألوفا يشهده الناس الذين يكافحون من أجل تأمين الغذاء والوقود. علاوة على ذلك، فقد ارتفع معدل البطالة بين الشباب ليصل إلى 25 ٪ . أمام هذه المعطيات، بدأت شعبية الرئيس بالتراجع، حيث استغلّ خصوم أردوغان الوضع المتأزم.
مع إقتراب موعد الإنتخابات التي ستجري في غضون 18 شهراً، يبدو أن السيد أردوغان مقتنع بأن إستراتيجيته ستمكّن الإقتصاد التركي من التعافي. ومع ذلك، يرى معظم الاقتصاديون إن إنهيار الإقتصاد بات وشيكاً.
متى بدأت مشاكل تركيا الاقتصادية؟
لقد نجحت إستراتيجيات أردوغان القوية المؤيدة للنمو في وقت سابق . فمنذ أن تولى السلطة في تركيا عام 2003 ، دأب أردوغان إلى تنفيذ مشاريع بنية تحتية مكلفة، وتودد إلى المستثمرين الأجانب وشجع الشركات والمستهلكين على تحمّل الديون. ومنذ ذلك الحين، انطلقت عجلة النمو في البلاد.
يقول قدري تاستان، الزميل البارز في صندوق مارشال الألماني ومقره بروكسل: “كانت تركيا تُعتبر معجزة اقتصادية” خلال العقد الأول من حكم أردوغان . لقد تم تقليل نسبة الفقر إلى النصف، وارتفعت نسبة السكان في صفوف الطبقة الوسطى، وكان المستثمرون الأجانب يتوقون إلى الاقتراض” .
ولكن حملة السيد أردوغان الدؤوبة للتوسع أصبحت غير مُستدامة. و بدلا من التراجع و تدارك الأمر ، استمرت عملية الاقتراض الهوجاء .
في أعقاب ذلك، بدأ الإقتصاد التركي الغير مستقر بالتدهور . وقد جذبت أسعار الفائدة المرتفعة المستثمرين الأجانب لقبول المخاطرة و الاستمرار في الاقتراض، لكنها ستعيق النمو . رفض أردوغان قبول هذه المقايضة، واستمرّ في دعم الاقتراض الرخيص على الرغم من ارتفاع مُعدل التضخم وانخفاض قيمة العملة.
يُصرّ أردوغان على أن أسعار الفائدة المرتفعة هي سبب التضّخم _ على الرغم من أن أسعار الفائدة المنخفضة هي التي تستنزف خزينة الدولة، وتشجع الناس على الاقتراض والإنفاق أكثر، وبالتالي إرتفاع الأسعار . وقد وصف، هنري باركي، الزميل في مجلس العلاقات الخارجية هذه التوجه بأنه: “لدى أردوغان فلسفته الاقتصادية الخاصة به”.
تأرجح الاقتصاد بين هذه الأهداف المُتضاربة حتى عام 2018 عندما تسبّبت التوترات السياسيّة المتصاعدة بين تركيا والولايات المتحدة في إنهيار قيمة الليرة .
خفّت حدة المواجهة السياسية، بيد أن المشاكل الاقتصادية الأساسية بقيت ثابتة. استمر أردوغان في الضغط على البنوك الحكومية لتقديم قروض رخيصة للأسر والشركات، واستمرت هستيريا الإقبال على الاقتراض . وعلق سيلفا ديميرالب ، الخبير الاقتصادي في جامعة كوج في اسطنبول قائلاً: ” يبدو إن الوضع يزداد سوءاً ولا يُبشّر بالخير “.
عندما رفض محافظ البنك المركزي ضغوط الرئيس لخفض سعر الفائدة البالغ 24 ٪ في عام 2019 ، قام أردوغان بعزله من منصبه، وكان ذلك بداية لسلسلة سياسة إستبدادية من قبل أردوغان لكل من لا ينصاع لأوامره. ولدعم الليرة ، بدأت البنوك التركية في بيع إحتياطياتها من العملة الصعبة (الدولار). مما تسبب بانخفاض المخزونات لدى هذه البنوك من العملة الصعبة.
أدى الركود الإقتصادي العالمي الناجم عن جائحة فيروس كورونا إلى زيادة الضغوط على تركيا وذلك نتيجة لتقلّص حجم مبيعات البضائع التركية حول العالم . كما أن قطاع السياحة لم يسلم هو الآخر من ذلك، والذي يعتبر أحد أكثر القطاعات ديناميكية في تركيا.
أردوغان وأسعار الفائدة
يرى أردوغان بأن الإبقاء على أسعار الفائدة منخفضة، ستدفع المستهلكين لأن يكونوا أكثر حرصًا على مواصلة التسوق كما أن الشركات ستكون أكثر ميلًا للاقتراض واستثمار الأموال في الاقتصاد و إيجاد فرص عمل. ويراهن أردوغان إنه في حال فقدت الليرة قيمتها مقابل الدولار، فإن صادرات تركيا ستصبح أرخص ببساطة وسيرغب المستهلكون الأجانب في شراء المزيد.
إن ما رمى إليه أردوغان صحيح إلى حدّ ما، لكن عواقبه ستكون وخيمة . فتركيا تعتمد بشكل كبير على الواردات مثل قطع غيار السيارات والأدوية، وكذلك الوقود والأسمدة والمواد الأولية الأخرى. عندما تنخفض قيمة الليرة، تزداد تكلفة شراء هذه المنتجات.
في الوقت عينه، أثار ازدراء أردوغان للنظرية الاقتصادية التقليدية مخاوف بعض المستثمرين الأجانب، الذين كانوا حريصين على إقراض الشركات التركية بمئات الملايين من الدولارات، بيد أنهم الآن باتوا يخشون إنهيار العملة.
وكلما تمّ تخفيض أسعار الفائدة، ارتفع معدل التضخم بشكل أسرع. خلال العام الماضي ، فقدت الليرة أكثر من 45 ٪ من قيمتها ، كما أن معدل التضخم الرسمي ارتفع إلى ما يزيد عن 20 ٪ ، فيما يرى العديد من المحللين أن المعدل في الواقع أعلى من ذلك بكثير.
وبالمقارنة مع دول أخرى، فإن معدل التضخم في الولايات المتحدة البالغ 6.8 ٪ حتى الآن هذا العام (الأعلى منذ أربعة عقود تقريبًا) ومعدل 4.9 ٪ في منطقة اليورو كافيان لإطلاق جرس الإنذار .
إن إرتفاع الأسعار الجنوني في تركيا زاد من بؤس الفقراء و إفقار الطبقة الوسطى . وفي هذا الصدد تقول ميهريبان أصلان ، وهي تنتظر في طابور طويل لشراء الخبز في حي سلطان غازي في اسطنبول: “لقد أصبحت حياتنا شاقة لا نقوى على تأمين لقمة العيش، زوجي يبلغ من العمر 60 عامًا ، لم يعد قادرا على العمل، لديه معاش تقاعدي صغير قدره 1800 ليرة _ أي ما يُعادل 125 دولارًا _ و لأدخر أموالا إضافية، ألجأ إلى الخياطة المنزلية”.
وسط هذه الظروف، تُفضّل الشركات تخزين البضائع على بيعها، لأنهم حسبما يعتقدون لن يكونوا قادرين على شراء غيرها وسط انهيار العملة.
وفي هذا السياق، تذمّر إسماعيل أرسلنتورك يبلغ من العمر 22 عاما ، ويعمل كمحاسب بمحل بقالة في الحي، من تضاعف سعر العدس الأخضر ، حيث قال : ” لا أعتقد أن الاقتصاد سيرجع إلى سابق عهد أو يتعافى” ، مضيفًا أنه أجبر على ترك مقاعد الدراسة بالمرحلة الثانوية لإعالة أسرته. حيث يشير بنبرة حزينة : ” لقد انتابني اليأس من هذا الوضع “
سياسة أردوغان حيال الأزمة
لم يتراجع أردوغان عن سياسته الإقتصادية ، مؤكدًا أنه لن «يتنازل أبدا» عن معارضته لارتفاع أسعار الفائدة . و في مقابلة له على التلفزيون الوطني الشهر الماضي قال : ” إن أسعار الفائدة تجعل الأغنياء أكثر ثراء في مقابل زيادة بؤس الفقراء، لقد حافظنا على بلدنا ومنعناه من الإنجرار للهاوية”.
إستند أردوغان إلى تعاليم الإسلام ضد الربا وأشار إلى رسوم الفائدة على القروض على أنها « مصدرٌ للشر» ، وألقى باللوم على التدخل الأجنبي في ارتفاع الأسعار. وعزا محللون مثل السيد باركي عن مجلس العلاقات الخارجية إن مثل هكذا تصريحات تهدف في المقام الأول إلى إستقطاب المزيد من القطاعات الدينية المحافظة في البلاد والتي تمثل جوهر دعم السيد أردوغان.
ويؤكد السيد باركي أن مشكلة تركيا الأساسية هي رئيسها المزهو بنفسه والذي لايزال في سُدة الحكم منذ فترة طويلة . حيث قال : ” إنه رجل مستبد ، يرتكب الأخطاء والحماقات، وجميع من يُحيطون به مُكممي الأفواه لا يستطيعون رفض ما يصدر منه أو الوقوف بوجهه “.
المصدر: نيويورك تايمز
ترجمة: المركز الكردي للدراسات