مارك كاتز
أصبح مألوفاً أن نقرأ أو نسمع من المعلقين والمحللين بأن الدور الأمريكي في الشرق الأوسط قد أنحسر بشكل كبير. حتى أن البعض يرى أن نفوذ الولايات المتحدة هناك في طريقه للخروج بشكل كامل. لكن هل نفوذ الولايات المتحدة في الشرق الأوسط أقل الآن مما كان عليه في الماضي ؟
لعل أبرز ما يدلّ على تراجع النفوذ الأمريكي بالمنطقة مما كان عليه في السابق هو انسحابها من أفغانستان وانهيار الحكومة التي كانت تدعمها هناك، وانتهاء العمليات القتالية الأمريكية في العراق، والتواجد الخجول لها في سوريا وعجزها عن إحداث تغيير سياسي ينهي الحرب، علاوة على علاقاتها الصعبة مع تركيا.
بيد إن الفترة التي أعقبت أحداث الحادي عشر من سبتمبر / أيلول، والتي تدخلت فيها الولايات المتحدة عسكرياً، وشكلت حكومتين جديدتين في أفغانستان والعراق، ووسعت لاحقًا في دعم التغيير الإيجابي في كلّ من ليبيا و سوريا، لقد شكّلت تلك المرحلة فترة استثنائية بالنسبة للولايات المتحدة، والتي كان دورها أقوى بكثير مما هو عليه الآن.
ما أشبه الماضي بالحاضر، فإذا ما قمنا بمقارنة نفوذ الولايات المتحدة في الشرق الأوسط الآن بما كان عليه قبل أربعين عامًا في ذروة الحرب الباردة في عام 1981، سنجده لم يتغير كثيراً. فحلفاء الأمس هم نفسهم اليوم بالنسبة للولايات المتحدة منذ عام 1981 حتى 2021 : إسرائيل ومصر والأردن والمملكة العربية السعودية وجميع دول الخليج العربية الأخرى، والمغرب. أما بالنسبة لعلاقة الولايات المتحدة مع تركيا فهي لاتزال ثابتة أيضا ولكن تشوبها بعض المنغصات والتوترات. ومثال عن ذلك ما حدث في أعقاب الغزو التركي لقبرص الشرقية عام 1974 وعلاقتها العدائية مع اليونان حليفة الولايات المتحدة أيضاً .
بطبيعة الحال، فإن مقارنة موقف أمريكا اليوم بما كان عليه في عام 1981 هو أمر اعتباطي إلى حدّ ما. فإذا قارناً اليوم بـ 1976 بدلاً من 1981، لكانت إيران ضمن قائمة حلفاء الولايات المتحدة، على عكس ما يحصل الآن . كما إذا قارنا اليوم بخمس سنوات ماضية منذ عام 1971، فلن تكون مصر في قائمة حلفاء واشنطن، بل ضمن قائمة حلفاء موسكو. وفي ضوء ذلك، فإن حقبة الحرب الباردة، والتي تتبلور في عصرنا هذا تمثل مرحلة كان فيها كسب وخسارة الحلفاء أمراً طبيعياً.
ويشير كثير من النقّاد بأنه نتيجة لتراجع النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط بدأ النفوذ الروسي بالتنامي بالمنطقة . ولكن مقارنة بالماضي، فإن عودة روسيا للشرق الأوسط ليس بالأمر المُستغرب . ففي عام 1981، كان الاتحاد السوفييتي القوة العظمى ذات النفوذ السائد في سوريا والعراق وجنوب اليمن وليبيا وأفغانستان. كما أن لديها علاقات وثيقة مع الجزائر واليمن الشمالي مقارنة بالولايات المتحدة. ففي الوقت الراهن، على النقيض من ذلك ، تتقاسم روسيا النفوذ مع إيران في سوريا ومع تركيا و لاعبين آخرين في ليبيا . كما إن نفوذها محدود فقط في أفغانستان واليمن والعراق .
وفي سياق متصل، يرى محللون بأن العلاقات المتنامية التي طورتها كل من موسكو وبكين مع حلفاء أمريكا في الشرق الأوسط، ينبغي أن يشكل مدعاة للقلق بالنسبة للولايات المتحدة. فخلال حقبة الحرب الباردة، كان الاتحاد السوفييتي يكثّف من جهوده لإضعاف أو حتى الإطاحة بالحكومات المتحالفة مع الولايات المتحدة . أما في المرحلة الجارية، ترغب كل من روسيا والصين العمل مع جميع حكومات الشرق الأوسط المتحالفة مع الولايات المتحدة، وليس إضعافها. ففي الواقع، لا يبدو أن روسيا ولا الصين تحاول إقناع حكومات الشرق الأوسط بإنهاء تحالفاتها مع الولايات المتحدة والتحالف مع أي منهما أو كليهما بدلاً من ذلك . كما إن هذه القوى العظمى المناوئة لأمريكا لا تسعى إلى وضع نفسها كضامن أمني لحلفاء أمريكا في الشرق الأوسط بدلاً من الولايات المتحدة . قد يكون اضطرار واشنطن إلى التنافس مع موسكو وبكين على مبيعات الأسلحة وصفقات النفط والاستثمارات من حلفاء أمريكا، أمراً مزعجاً، بيد أنها مشاكل أقل خطورة بكثير من مواجهة الجهود السوفيتية السابقة الرامية لإضعاف هذه الدول.
ولعلّ الموضوع الأهم هو طبيعة العلاقة فيما بين الولايات المتحدة و تركيا _ والتي تعتبر حليفا لأمريكا _ خاصة في ظل تنامي علاقتها على كافة الصُعد مع موسكو _ لا سيّما من خلال شرائها منظومة الدفاع الجوي الروسية «إس 400» وسط اعتراض شديد اللهجة من واشنطن على هذه الصفقة . ولكن على الرغم من أن تحالف تركيا مع الولايات المتحدة بدأ بالتراجع و الضعف، لا يعني ذلك أنها أصبحت حليفاً لروسيا. وهنالك عدة أسباب تحول دون إقامة تحالف فيما بينهما أبرزها : خلاف تركيا مع روسيا في سوريا وليبيا إضافة إلى أرمينيا وأذربيجان وحتى أوكرانيا . يبدو أن تركيا ليست مهتمة بأن تكون حليفة لأمريكا أو لروسيا بقدر اهتمامها بأن تكون قوة عظمى في حد ذاتها . إن سعي تركيا لأن تصبح قوة عظمى بات يشكل تحدياً لواشنطن وموسكو وحلفائهما الإقليميين .
إن المفهوم الراسخ عن الولايات المتحدة كقوة مهيمنة في الشرق الأوسط، وخاصة بعد أن بدت التدخلات العسكرية الأمريكية ناجحة في أفغانستان ثم العراق لم تدم طويلاً . وفي خضم ذلك، لا تزال الولايات المتحدة تمتلك نفس الحلفاء في الشرق الأوسط منذ نحو أربعين عامًا. وطالما بقي هذا التحالف مستمراً، فستبقى أمريكا هي القوة المهيمنة التي لها كلمتها في الشرق الأوسط.
على الرغم من هذا التحالف الوثيق، بدأ العديد من حلفاء أمريكا في الشرق الأوسط يشيرون إلى سقوط حكومة كابول في أفغانستان وصعود النفوذ الإيراني في العراق على أنه بداية لانحسار نفوذ الولايات المتحدة في الشرق الأوسط كقوة عظمى . لكن قبل أربعين عامًا ، انتابت هؤلاء الحلفاء نفس المخاوف بشأن احتماليّة انسحاب أمريكا من الهند الصينية في عام 1973 و “سماحها” بسقوط نظام الشاه في عام 1979، حيث بدأ يُساورهم القلق حيال التزام واشنطن تجاه حلفائها الآخرين. لكن أمريكا لم تغادر الشرق الأوسط في ذلك الوقت، ولن تغادره الآن أيضاً .
المصدر: ناشونال إنترست
ترجمة: المركز الكردي للدراسات