التكنولوجيا و تحول ميزان القوى

جيمس أندرو لويس

كان القرن التاسع عشر يتمحور حول السعي لتحقيق توازن القوى بين الدول العظمى المتنافسة، و المُراد من هذا التوازن هو ضمان تساوي القوة ويتم ذلك عبر إقامة التحالفات و التوسعات العسكرية، وقد أدى ذلك إلى الاستقرار و السلام. كان الهدف من ذلك هو عدم هيمنة دولة على أخرى، وفي ظل تبني سياسة جديدة بدأ توازن القوى بالانهيار بشكل تدريجي، لكن هذه السياسة تستطيع أن توفّر إطاراً للمقارنة بين القوى النسبية للدول على غرار المفهوم السوفييتي القديم “ارتباط القوى”.

يمكن أن تتخذ هذه المقارنة شكل عملية حسابيّة بسيطة، على سبيل المثال مقارنة بعض المقاييس مثل عدد الصواريخ أو عدد براءات الاختراع، لكن عادة ما تكون هذه الإحصائيات غير دقيقة فيما يتعلق بالابتكار أو تُقلّل من قيمة المزايا النوعية، و ينطبق ذلك بشكل خاص على التقنيات الناشئة والتي من المرجح أن تُصبح مصدراً للقوة الاقتصادية و العسكرية، إلا أن بعض فروع التكنولوجيا مثل الهندسة الكميّة والهندسة الحيويّة مازالت قيد التطوير ولا توجد لها تطبيقات فعلية حتى اليوم. إلى جانب التكنولوجيا هناك عوامل أخرى _ مثل قدرة الدولة على دمج التقنيات الناشئة وتعديل الممارسات والاستراتيجيات التجارية الحالية _ تجعل تقييم العلاقة بين التكنولوجيا الناشئة و القوة الوطنية مُعقدة و حساسة و ضبابيّة.

يمكن تعريف القوة على أنها القدرة على إجبار الآخرين أو إقناعهم على اتباع مسار عمل مناسب والذين ما كانوا ليختاروه لولا هذا الأسلوب. تكمن عناصر قوة الأمة في قوتها الاقتصادية وقدراتها العسكرية وتأثيرها السياسي حيث تؤثر التكنولوجيا الحالية والناشئة على جميع هذه العناصر. إن هذا الترابط و التشعب _ مثلا الدول التكنولوجية المتطورة أكثر قوة من الدول التكنولوجية الضعيفة _ يبدو منطقي و بديهي ولكن هذا الترابط يواجه عدة تحديات، فليس بالضرورة امتلاك الدول للتكنولوجيا المتطورة يعني أنها قوية. كما أن هناك بعض الحالات استطاعت فيها الدول ممارسة نفوذها على الساحة الدولية بشكل غير متناسب مع الإجراءات الملموسة لقوتها. وعلى النقيض من ذلك تجد الدول التي تمتلك تكنولوجيا متقدمة إن قوتها قليلة مقارنة بتطورها.

إن اتجاه الدول نحو التغيير التكنولوجي مثل الابتكار و الاعتماد على التكنولوجيا يُعدّ مفتاحاً للقوة الوطنية، لكن يجب إدراك أن التكنولوجيا المتطورة لا تقدّم القوة مباشرة، ويوجد العديد من العوامل إلى جانب التكنولوجيا المتطورة التي تؤثّر على القوة والتأثير الوطنيين. وقد أفادت إحدى الدراسات إن فنلندا من أكثر الدول التكنولوجية تقدماً، الأمر الذي يجب أن ينعش ثروة و مكانة الفنلنديين، لكن ليس بالضرورة أن يؤدي هذا التقدم إلى زيادة قوة و نفوذ فنلندا. حيث يمكن للثقافة السياسية والسياسات والتنظيم أن تلعب دوراً هاما فيما يتعلق بالنطاق الجغرافي و الكثافة السكانية. وقد تكون القيادة _ سواء أكانت ماهرة أو ضعيفة _ هي التي تحدد القوة والتي غالباً ما تفضلها الديمقراطيات في أوقات السلم، في وقت يمكن فيه لأي قيادة فاشلة والتي تتبع استراتيجيات قديمة أن تدحض أي تفوُّق يمكن أن توفّرها التكنولوجيا.

إن الابتكار و اعتماد التكنولوجيا الحديثة هما أساس النمو الذي يُنمي القوة الوطنية. يمكن أن تُفضي الاستثمارات في البحث والتطوير إلى الابتكار وتحقيق عائدات اقتصادية حقيقية، لكن في المقابل لا يعتبر الإنفاق على البحث والتطوير معياراً مثالياً. فمثلاً  هناك دول تستثمر بشكل كبير في البحث والتطوير دون أن تحقق فائدة مباشرة لاقتصادها أو قوتها العسكرية.

تتعلق أسباب ذلك بطبيعة الابتكار ومتطلبات ثقافة ريادة الأعمال التي يمكن أن تستفيد من البحث في حال كان البحث والتطوير سيصب في مصلحتها. كما أن تعزيز القوة الوطنية يتطلب توفير بيئة تشجع الابتكار في كل من التكنولوجيا والاستراتيجية. وكلا الأمرين يُمثل تحدياً نتيجة للاتجاهات السياسية التي تعرقل اعتماد التكنولوجيا. إن هذه العوامل السياسية تعني أن الدول تختلف من حيث قدرتها على استغلال التقنيات الحديثة و تعزيز الابتكار. مع مرور الزمن، قد يكون هذا التباين أفضل دليل على التغييرات في علاقات القوة. ربما قد تكون القدرة على الابتكار واكتساب واستخدام المعرفة أكثر أهمية من أي تقنية أخرى، وبناءً على ذلك فإن الدول القوية اليوم والتي لم تعد قادرة على زيادة استخدام التكنولوجيا المتقدمة أو الناشئة ستصبح أضعف مقارنة بتلك الدول التي تستمر في الاعتماد على هذه التكنولوجيا. إن السعي العالمي نحو كسب القوة يُفسّر سبب الاقبال الواسع على اعتماد التكنولوجيا.

إن “توازن القوى” لا ينطبق على المنافسة اليوم حيث تسعى الصين إلى بسط نفوذها و كسب القوة، أما الولايات المتحدة فهي تسعى للحفاظ على الوضع الراهن، يحاول كل من الطرفين التفوق على حساب الآخر ضاربين مفهوم “توازن القوى” عرض الحائط الذي كان يُنظر إليه سابقاً على أنه عامل استقرار إبّان حقبة الحرب الباردة.

تفتقر القوى العظمى الأخرى مثل الاتحاد الأوروبي أو الهند _ إلى استراتيجيات متماسكة أو فهم واضح لشروط ومتطلبات المنافسة. عرّفت الصين القيادة التكنولوجية على أنها مفتاح القوة الوطنية واستمرار سلطة الحزب دون منازع، ساعيةً من خلال بناء قاعدتها التكنولوجية إلى تطوير قدرات وطنية مستقلة بحيث تصبح مكتفية ذاتياً وعدم لجوئها لمصادر أجنبية لتأمين ما تحتاجه.

بالنسبة للولايات المتحدة فإنها تعتمد على نهج يرتبط مع السوق و الشراكات التجارية والحكومية مع الحلفاء الأساسيين، وهذا ما يجعل المنافسة بين النماذج المختلفة لإنشاء واستخدام التكنولوجيا في المنافسة الثنائية عاملاً محورياً بين الولايات المتحدة والصين وفي إعادة التوازن العام للقوة العالمية.

في الحقيقة إن امتلاك الأمة للقيادة التكنولوجية لا يقل أهمية بالنسبة لمكانة و تأثير الدولة. بعد إعلان الرئيس الأميركي لمفهوم الدبلوماسية العامة المفتوحة عام ١٩١٩ أصبحت اليوم تلعب دوراً رئيسياً في إدارة العلاقات الدولية لكن هذه المهمة باتت معقدة نتيجة لدور التقنيات الحديثة في التحكم بالرأي العام و تقويض وسائل الإعلام التقليدية، كما قد تعمل بعض هذه التقنيات على إضعاف تأثير الأمة. أنشأت التقنيات الرقمية الكثير من القنوات البديلة لتبادل المعلومات و التعبير عن الرأي والتي من شأنها الحدّ من قدرة الحكومات في التحكم بالرأي العام فضلاً عن خوضها معركة للسيطرة على الرأي العام العالمي.

قبل نحو عقدين من الزمن كانت هناك توقعات بانضمام المزيد من الدول النامية مثل تركيا والبرازيل وجنوب إفريقيا و دول قليلة أخرى إلى ركب الدول التكنولوجية، لكن وعلى عكس التوقعات حدث ذلك بشكل بطيء. إن القدرة على صنع تقنيات حديثة لم تكن بالقدر الذي كانت عليه ببداية العولمة في التسعينيات.

لقد بدأت التكنلوجيا بالانتقال من القطاع العام نحو الخاص حيث لم تعد الحكومات وشركات الدفاع هي المصادر الأساسية للابتكار. منذ نهاية حقبة الحرب الباردة انبثقت التكنولوجيات المتطورة من قطاع التكنولوجيا التجارية. قد يكون تأثير التكنولوجيا طويل الأمد في تشكيل المنافسة العالمية دور في انتشار القوة بين الجهات الفاعلة الحكومية وغير الحكومية. إن الدول التي تحسن استغلال الموارد الخاصة والتجارية فضلاً عن تطوير التكنولوجية التجارية ستحقق أداءً أفضل بشكل نسبي في مجالي التجارة والقوة العسكرية.

إن الاعتماد على الابتكار التجاري من شأنه التأثير على ملامح المنافسة الثنائية، خلافاً لما كان سائداً خلال فترة الحرب الباردة إن العلاقات اليوم متشعبة نتيجة لتشابك الأعمال التجارية و العلوم مع بعضها البعض. وقد أضحى البحث و الابتكار نهجاً دولياً أكثر منه وطني. إن سبب تشابك و متانة هذه العلاقات يعود إلى حجم السوق الصينية و ما تحتويه من مواهب، بالإضافة إلى حقيقة أن التعاون في الأبحاث من شأنه أن يصب في مصلحة الجميع. سيستغرق تقليص هذه العلاقات و التشابكات وقت من الزمن و ستتربع السلطة الوطنية بشكل غير مناسب على رأس هذه الاتجاهات التكاملية.

أخيراً، إن هذا الوضع غير مستقر، كما أن السعي نحو التقدم التكنولوجي يجري على قدم و ساق وبشكل تراكمي و سيحدد تطور الدول و اعتمادها على التكنولوجيا حجم قوتها. وفي الوقت الذي بدأت المجتمعات تدرك أهمية التكنولوجيا الناشئة و الابتكار و تتبناها سيؤدي ذلك حتماً إلى تغيير ميزان القوى بين الدول. ومن ناحية أخرى، إن انتشار التكنولوجيا و تسارع وتيرة الابتكار من شأنه نشر الفوضى و الاضطراب في العالم بعد فترة من الهدوء و السلام.

 المصدر:مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية 

ترجمة: المركز الكردي للدراسات

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد