بدر الحمري
1. إنّ معارك التنوير الروحي للمسلمين أكبر من أن تكون تحليلية نفسية فقط، كما اعتقد ذلك ذات مرة داريوش شايغان، أو قطيعة معرفية مع التراث كما بين عبد الله العروي، أو وصل الماضي بالحاضر ولكن بعيون ناقدة كما بين ذلك محمد عابد الجابري، أو بإلغاء كل ذلك والعودة إلى الماضي، وأنه لا صلاح إلاّ بما سلف. هذه كلها أطاريح رغم وجاهتها وتمثيلها لشريحة واسعة من المثقفين المسلمين إلاّ أنها لا تمثل من جهة ثانية الأفق الحضاري الذي يمكنُ أن يمنحنا تياراً هوائياً منعشاً نقيس به أنفسنا والآخر على قدر المساواة؛ فغالباً ما يتم فهم القطيعة بشيء من العليائية على الماضي، والعكس صحيح عند النزعة الماضوية، إذ غالباً ما تحقّر من الحاضر، أما التوفيقية فرغم كونها مهادنة كما تبدو في قراءتها الأولى للتراث والحداثة مثلا، إلاّ انها تتكسر عند كثير من الأسئلة التي تهمّ العولمة، والتقنية الرقمية، وقضايا الدماغ وعلوم الأعصاب والعلوم الإنسانية المنفتحة عليهما، والبيولوجيا في صلتها بالدين .. وقس على ذلك قضايا أخرى تطرح بالضرورة أسئلة ناقدة للتراث، بل حتى مفهوم الإنسان نفسه يتغير بتقدم تلك العلوم، فلا يصير الإنسان الذي تتكلم عنه الفلسفة والعلوم الإنسانية أو التجريبية اليوم هو نفسه إنسان القرن الماضي .. فما بالك أن يكون إنسان القرن السادس الميلادي مثلا.
ما يُرى الآن، على الأقل ونحن نكتب هذه الكلمات، أن معركتنا الروحية الحضارية تتلخص في التاريخية المعرفية وتمس بدرجة أولى الأسس البيداغوجية لمجتمعاتنا والرهان الذي نروم تحقيقه في أطفالنا وشبابنا، أو قل إنها معركة تاريخية تربوية بامتياز؛ تاريخية بمعنى أنها تمتدُ ليس فقط إلى الماضي بل إلى الأجيال القادمة .. بعدَنا؛ إنّها معركة فلسفية تسائل باستمرار الماضي لأنه مصدرنا الوحيد من جهة، ومن جهة أخرى حتى نجيب عن السؤال المقلق: لماذا تخلّفنا؟ أو سؤال آخر أشد قسوة في قلقه منه: من نحن؟ ويعدُّ التاريخ أيضاً رؤيتنا الرصينة إلى مستقبلنا من خلال الإجابة عن السؤال: ماذا نريد؟ والمفارقة أنّ هؤلاء القادمون، أبناؤنا أو أحفادنا، سيسائلوننا، لا محالـة، كما نسائل اليوم أجدادنا: هل كنا في مستوى المسؤولية الحضارية التي فرضتها السياقات المعاصرة تحت إكراهات الحروب والفقر والمرض والتغيرات المناخية والقسوة والاستبداد والكراهية والتطرف والحرية .. ؟ هل كانت لنا يدّ فيما صنعناهُ وما نصنعه اليوم أم ماذا؟ ..
2. في الندوة الدولية التي أقيمت في الرباط في موضوع ‘ابن رشد ومدرسته في الغرب الإسلامي’ سنة 1978، طرح محمد عزيز الحبابي سؤالا ناقدا للوضع الذي آلت إليه جامعاتنا وقد أسست أغلبها ومرت عليها عشرات السنين ،حيث قال: « ماذا فعلت؟ إنها تجتر الأفكار الماضية وتأخذها من هؤلاء وتقرّها ». في الواقع إنّ هذا السؤال محرج حتى اليوم، بل يمكنُ أن نضيف إليه أسئلة أخرى ونحن في 2022 وما يشهده العالم من اكتساح لجائحة كوفيد-19: ما موقع كلياتنا في الطب والصيدلة من خارطة الأمم التي تبحث عن العلاج؟ إنه سؤال بسيط، لكن بالنظر إلى آلاف الأطنان من الأوراق التي سودت في سبيل تقديم أطاريح في الطب والصيدلة كافية بأن ترهقنا علمياً، أو تسبب لنا بعض الدوار الحضاري عن مصيرها وإمكاناتها العلمية من أجل صناعة نهضة خاصة بنا أو حتى المشاركة في حضارة الأمم المعاصرة التي تبنى أمام أعيننا .. ونحن .. لربما نشاهد من بعيد .. إن لم نكن نشاهدُ ذلك من قريب بسبب سرعة انتشار المعلومة أو الخبر .. أليست كلياتنا في الطب والصيدلة مستهلِكة ؟ يقول محمد عزيز الحبابي في الندوة نفسها « نحن نعيش دائماً كالجمل الذي لا يرى سوى ورائه. هل قمنا بالنقد الذاتي ؟ لا ! قصور في التوجيه أو في التهذيب. إنّ الفكر الموضوعي العلمي لا يوجّه … إننا جميعاً في الهم شرق وغرب … فهناك تضخم كبير كمي وكيفي في جامعاتنا ومعاهد التعليم العالي. لماذا ؟ لأننا نكتفي بالعبارات الفارغة ».
سيقول قائل هناك بصيص أمل، هنا أو هناك ، لكنه بالمقارنة مع قرون من التخلف وعشرات السنين من تكرار محاولات الفشل .. يكادُ هذا البصيص لا يُلتفتُ إليه. لكن – ولربما لحسن حظنا – أننا متفائلون أكثر من التفاؤل نفسه ! لكن هذا التفاؤل لا يجب أن ينسينا معركنا التنويرية اليوم.
3. هذه المعارك التنويرية يمكنُ تشبيهها بعمل الجنيالوجي فريدريك نيتشه وهو يدمر بمطرقته كل الأوهام الزائفة التي علقت بثقافتنا الإسلامية ومفاهيمها، مثلا أن نعيد النظر في : الكافر/ المؤمن، الأمة / الإسلام، الله / الإنسان، الإيمان / الزندقة، الخلافة / الدولة، الشورى/ الديمقراطية ، الشريعة / القانون، الدولة / الخلافة ..إلخ. ولا شكّ أنّ أي عمل تنويري بدأ بُعيد قرنين تقريباً، أي ما بات يعرفُ اليوم بالنهضة الأولى التي حاول فيها أهلها الخروج من مأزق التخلف والانخراط في مشروع الحضارة الإنسانية الحديثة. واليوم وإن كانت هناك أصوات فلسفية تتنادى بنهضة ثانية ( ناصيف نصار مثلا ) فإني أرى الإشكال ليس في الترقيم – نهضة أولى أو نهضة ثانية أو حتى ثالثة .. لا يهم – بل في الآليات والوسائل والطرق التي من خلالها نسلك إلى أفق التقدم الحضاري.
4. بات من اللازم اليوم أن نعيد النظر في صناعة جيل متحرر روحياً من أية ديكتاتورية تاريخية، جيل متحرر تاريخياً من تاريخ الفشل في محاولات تصالحنا مع مصادر أنفسنا، وإلاّ فهل يمكنُ للتفكير المتطرف المبثور من أية قيمة إنسانية كداعش (مثلا ) أن يصبح ذات يوم صانع أجيال متنورة ومتصالحة مع أنفسها والعالم، ومن ثمة هل يمكنُ أن نطلب منه تحرير القول في السلام الدائم والعيش المشترك والتسامح وهو فكر يريد الهرب حتى من العدالة الدولية، بل يعشق التخفي من وراء النصوص والضحايا والسُّذج والرُّعاع والسُّقاط من الناس، هؤلاء الذين يصطادهم بالمجان في طريقه إلى تحقيق حلم الخليفة الأخير .. تسلطاً؛ فالخطاب الذي ينطلق منه – هذا المتطرف – على الأقل له صلة بالمادية والاحباط؛ الأولى من جهة رغبته في الحصول على السلطة، والثانية نتيجة للأولى بالضرورة، فما دامت رغبته من السلطة لن تتحقق، يسيطرُ الاحباط على كيانه النفسي والفكري، فيمرره عبر رَسم حلٍّ وحيد للوصل إلى السلطة وهو التسلط الذي نشهدُ له تلوينات في التقتيل والتصليب والتفنن في الإعدامات واغتصاب النساء والأطفال باسم مقولات دينية متطرفة.
5. بعد أكثر من قرن، ومنذ حملة نابوليون بونابرت لمصر، وما تردد بعد ذلك على مسامع رواد « النهضة » الأوائل، وفي مصر خاصة، تبدو اليوم صناعة جيل مُتحرر من هواجس أسلافه التاريخية يعني أن نتموقع نحن داخل منطق الصيرورة، والذي يفرض علينا القطيعة المركبة لا الاستمرارية الساذجة؛ وأقصدُ هنا بالقطيعة المركبة الخروج من كل أشكال التفكير التقليدانية في حياتنا اليومية، ذلك التفكير الذي لا يفكِّر – مع الأسف – خارج الصندوق أو خارج الأبيض والأسود من جهة، ومن جهة ثانية القطيعة مع تبعية للآخر تجعلنا لا ننخرط في « نادي الحضارة الإنسانية » صحيح أنّ كل ما هو كلاسيكي له بلاغة أصيلة فينا، لكن ذلك لا يصنعُ حضارة تجابه كوفيد-19 مثلا !
كيف نحسم مع تراكمات الذات التاريخية؟ ..
هذا سؤال من بين الأسئلة الحارقة اليوم، والمسمومة في الآن نفسه، التي يجب أن تتردد بالقوة والفعل في صالوناتنا السياسية والفكرية بصفة عامة، وإلاّ فإنّ مصيرنا سيكون دائماً مهدد بتيارات تحسب نفسها أنها تصلح ما شتتته أو خربته وما زرعته من نباتات سامة، ولكنها لا تقوم بأي شيء سوى تشتيت المشتت، وهذا فن تتقنه داعش بشكل جيد مثلا. وهي الذات المذبوحة فينا، المتراقصة على مسرح التاريخ، وهي كل ذات لا تقبلُ التصالح مع قيم الديمقراطية والحرية والإنصاف وحرية المرأة وحقوق الطفل والعيش المشترك، فلماذا كل تلك الإهانات الحضارية التي تنتصر لأدبيات جِهادية لا موقع لها في السياق المعاصر، تحاولُ أن تؤسس لميتافيزيقا خاسرة كل شيء، وتفرخ نصوصاً تكرر علينا ألمنا من ضياع فرص الانخراط في التقدم الحضاري، وبالتالي تزيد في تعميق الإهانة وتكرر علينا سقوطنا المدويّ، مع العلم أنه « ليس ثمة إهانة رمزية مثل مواصلة اقناع شعوب بأكملها بأن أفقها الروحي بخير، وأنّ الأساس الأخلاقي الذي بنيت عليه عالم حياتها لا يزال سليماً معافى منذ قرون عديدة » (فتحي المسكيني، الإيمان الحر، ص: 194).
إنّ كل مسافة محصورة بين المؤمن والمتطرف ( الداعشي مثلا ) مخيفة حقاً، لكن المرعب أكثر وأكثر هي المسافة الممتدة من الداعشي إلى .. العالم ! فكل همِّ المتطرف أن يفرخ البشاعة والموت ويصدرهما – عبر وسائله – إلى العالم بعد أن تكون نفسهُ قد تعفنت فيها كل أشكال الحقد والكراهية.