د.آزاد احمد علي
بعد مرور أربع سنوات على الغزوة المغولية – الجهادية الجديدة على منطقة جبل الكورد – عفرين المسالمة، لابد للأطراف ذات العلاقة وخاصة المتضررة إعادة النظر بمقدماتها ونتائجها. وكذلك على الجهات والأدوات المنفذة لعملية الغزو أن تدرك أنها لم تستفيد من هذه الغزوة، فقد اقتربت من حافة الإفلاس السياسي بسبب هذا الموقف الأرعن، وعلى أولئك المتعاونين تحت مسمى (المعارضة السورية) أن يدركوا أن استخدامهم كأداة تنفيذ لاحتلال عفرين كانت بداية لاندحارهم السياسي. وسيرتكبون المزيد من القبائح فيما لو افترضوا أن ممارسة السياسة بصيغتها (العسكرية) المعارضة لا تتطلب الحفاظ على مستوى عال من الأخلاق، فالسياسات التي لا تحافظ على محتوى إنساني محكوم عليها بالفشل والسقوط.
معركة عفرين فتحت من جديد الباب على هذه الحقيقة، كونها شكلت محطة مهمة في مسار الحرب السورية، فهي ليست مجرد اجتياح عسكري تركي، وإنما تعبير عن سلوكية وأهداف المعارضتين المسلحة والسياسية السورية، ممثلاً بالائتلاف وبعض فصائل الجيش الحر. ولقد دشنوا مرحلة سقوطهم السياسي بأنفسهم عندما أداروا وجهة المعارضة نحو القوى الكوردية، وذلك بناء على طلب الحكومة التركية، فقد أبدى الائتلاف تأييده الصريح والموثق للحرب على مجتمع جبل الكورد، وذلك في بيان يوم 21/1/2018 الذي ورد فيه: ” يُعرب الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية عن دعمه ومساندته للحملة التي يساهم فيها “الجيش الوطني السوري”، الذي يضم فصائل الثورة السورية بإشراف الحكومة السورية المؤقتة، لتحرير عدد من مدن وبلدات الشمال السوري من سيطرة القوى الإرهابية، بالتعاون والتنسيق مع الدولة التركية، وبإسناد جوي منها. لقد سبق للائتلاف الوطني أن طالب المنظمات الإرهابية، ومنها تنظيم العمال الكردستاني PKK بسحب عناصرها من سورية، والجلاء عن المدن والبلدات التي تحتلها وقامت بتهجير أهلها….”.
ثم تبع هذا البيان الصريح في تبعيته للمحتل التركي، خطوة أخرى فاقعة التماهي مع المشروع التوسعي التركي على سوريا عبر زيارة رئيس الائتلاف وأعضائها لقرية قسطل جندو في مشهد استعراضي استفزازي يفتقر إلى الحد الأدنى من الحس الوطني فضلاً عن الكياسة والأدب، وترجمة لجبنهم وهزيمتهم أمام سلطة دمشق.
هذا وكان قد سبق الانعطافة الخطيرة هذه موقف في غاية الدلالة تمثل في تخويل الائتلاف وفد (الحكومة التركية) لتمثيله في مؤتمر سوتشي، ما يعني إزالة الحدود الدبلوماسية والتنظيمية بين حكومة أردوغان وائتلاف المعارضة السورية، حيث باتا بموجب هذا التخويل طرفا واحدا.
انسجاماً مع تصاعد إرهاب الدولة التركية ضد المجتمعات الكوردية داخل حدود تركيا وخارجها، قررت حكومة أردوغان ذات النزوع القومي الإسلاموي المتطرف القيام بغزوات واسعة بدلاً من الغارات والاجتياحات المحدودة، فتم أولاً سرقة شعارات ورموز السلام، كثقافة تركية راسخة، فتم تسمية الحرب على جبل الكورد بعملية (غصن الزيتون).
كما أشرنا مراراً أن تعاون أواسط (المعارضة السورية) والمشاركة في هذه العملية شكلت منعطفاً خطيراً في مسار الحركة الوطنية السورية، وتجاوزا لكل الحرمات. مع ذلك ودون الإسهاب في توضيح أسباب الغزو ونتائجه التي باتت وبالاً على كل الأطراف، عدا حفنة من اللصوص والمهربين. نجد في المقابل وبصيغة ما وعلى الرغم من الخسائر والتضحيات الجسيمة والعزيزة أن الغزو التركي على عفرين قد أبرز للسطح مسائل سياسية جوهرية، يمكن ذكر بعضها:
1- على قوانا السياسية أن تدرك اكثر من أي وقت مضى أن هناك حاجة ماسة لترتيب الأولويات، فمن غير الممكن لأي خطة سياسية أن تنجح دون معرفة الأولوية القصوى، بمعنى وضع سلم دقيق للأهم فالأكثر أهمية، وهنا بات واضحا للسياسي الكردي أو واضع الخطط الإستراتيجية أنه لابد من التدقيق في أهداف الحركة السياسية الكردية السورية، ترتيب الخطوات بدقة، تصنيف هذه الأولويات، بما فيه معرفة الأخطار وتشخيص الأعداء. لقد بات من الضرورات الملحة تصنيف الحكومة التركية كعدو أول للشعب الكردي، دون الاجتهاد في وضعه في المرتبة الثانية. مع ما يستتبع ذلك من إجراءات ومواقف تتطلب كسر عنجهيته والدفاع المشروع عن الأرض والسكان بكافة السبل الممكنة والمتاحة.
2- بات أكراد سورية بنخبهم وقواهم المدنية اليوم أقدر على معرفة حلفاؤهم الاسترتيجيون من أي وقت مضى. فالغالبية باتت تدرك أن الشعب السوري نفسه هو الحليف الأول والرئيسي للكورد، بصرف النظر عن أخطاء وجرائم بعض أطراف (المعارضة).
3- منذ سنوات والمعارضة السورية تنتقد، بل تهاجم وتحارب نظام الحكم في دمشق على أساس أنه قد لجأ لجهات خارجية في محاربته للمعارضة المسلحة، وها قد تبين أن المعارضة السياسية وقعت في نفس الخطأ وبدرجة أسوأ عندما سلمت كل أوراقها للأجنبي، واستباحت أراض سورية، وهاجمت السكان المدنيين العزل لصالح أجندات ومعارك جهة أجنبية ذات علاقة إشكالية تاريخياً مع العرب، وهي دولة وحكومة تركيا.
4- إن وضوح سياسات حكومة أردوغان المدعوم من التيار القومي التركي المتطرف المعادي لأي مكسب قومي أو مدني للكورد خارج كوردستان تركيا، إضافة إلى حملتها العسكرية الظالمة ضد منطقة عفرين والاستمرار في انتهاكاتها تضع كل شخص أو جهة كوردية سورية تتعامل أو تتلقى أي شكل من أشكال الدعم من الحكومة التركية في موقع شاذ على المستوين الوطني السوري والقومي الكوردي، يصعب تبريره أو قبوله بأي شكل من الأشكال في البيت الكوردي.
5- عفرين أكبر مدينة في غربي كوردستان، وكانت أكبر مركز اقتصادي في شمال غرب سوريا، وكانت أكبر حاضنة للعرب النازحين من الجوار. لقد أكد الغزو التركي على طليعية وريادية مدينة عفرين، التي رسخت انتصارها وطليعيتها بالمقاومة البطولية. ومن الصعب أن تطوى صفحة هذه المقاومة، وقد تأكد للجميع قابلية الاستمرار في المقاومة بأشكال سلمية ودبلوماسية.
6- البنية الروحية والوحدة القومية للشعب الكوردي تترسخ بعد كل هجمة من الحكومات الكولونيالية التي تقتسم كوردستان. كما يتم عملية اصطفاء الكوادر والنخبة التي ترجح قضيتها القومية في بعدها الإنساني على مصالحها الحزبية والشخصية الضيقة. فقد وحدت معركة عفرين الكورد باستثناءات عصبوية قليلة.
7- تم إعادة فرز للمتعاطفين وكذلك الحلفاء الحقيقيين للقضية الكوردية في الوسط العربي، حتى شكلت معركة عفرين امتحاناً جديداً للوطنية السورية، فالمعادلة باتت بسيطة، من يقف مع عفرين وأهلها أو مع تركيا وأتباعها. وبالتالي المقارنة تلخصت بين من مازال يمتلك حساً وطنياً سورياً أو من باع حتى مشاعره للتركي.
8- انكشاف ضحالة المنظومة الأخلاقية والقيمية لتنظيمات الإسلام السياسي، ليست الجهادية فحسب، بل حتى عدد من الدعوية منها، حيث تتعاون مع عدوانية الحكم التركي الاردوغاني، تتحالف مع الظالم والمعتدي، تشرعن قتل أطفال المسلمين بكل بساطة. هذا وقد سبق أن تكرر هذا الموقف مع حملة حكومة أردوغان على منظمة (خدمت) بحجة أنهم من أنصار فتح الله كولن، الذين هم من أكثرالمنظمات قرباً للإسلام السلمي منه إلى الجهادي العنفي.
9- مجاميع المنشقين الذين تربوا في حضن سلطة الاستبداد لا يمكن لهم أن يتحولوا بين عشية وضحاها إلى ديمقراطيين، ولا حتى وطنيين صادقين.
10- مشروع أردوغان السياسي الطموح سيطال البنية الديمغرافية لسورية المستقبل، بما يترتب عليها من مخرجات سياسية وتوازنات في القوى. فالحرب ستكون طويلة، تركيا تخطط لسنوات وعقود قادمة، فهي تنفذ مشروع استراتيجي وليست عملية عسكرية وقائية محدودة كما تزعم. مع ذلك، يبدو أن أردوغان وأتباعه قد توهموا بأن تجربة (درع الفرات) قد نجحت من حيث إعادة ترتيب ديمغرافية منطقة شمال حلب، من جرابلس على الفرات وحتى اعزاز غرباً على تخوم عفرين.
11- بعد مرور أربعة سنوات على احتلال عفرين، أفلست (المعارضة الائتلافية السورية)، وفقدت قيمتها حتى في نظر الحكومة التركية، وظلت الجماهير الكوردية وقواها المدافعة عن الحق والوجود في موقع أكثر تقدما وثباتاً.
12- إن أبناء عفرين وكل المجتمعات الكوردية ستستمر في معركتها السياسية والقانونية حتى استعادة كامل تراب جبل الكورد ومحاسبة الغزاة، الذين سيدفعون ثمن إجرامهم لأضعاف مكاسبهم وسرقاتهم. اخيراً الدرس الذي ينبغي أن نتعلم منه هو أن معركة عفرين معركة حق في وجه الباطل، فمعارك العدل والحق مستمرة ولن تنتهي، وأن النصر لا يتحقق بالمقاومة البطولية وإعادة الاعتبار للبندقية، وبرفع راية الكرامة القومية فحسب، بل المكاسب السيادية تترسخ بممارسة الكثير من السياسة وخوض القليل من الحروب. لذلك ينبغي أن تستمر كل الشخصيات والمنظمات السياسية والمدنية في توثيق الانتهاكات وتجميع المعلومات وتصنيف ملفات المعتدين والقتلة، فيوم العدل والحساب ليس ببعيد.