عفرين بين مخالب الإبادة وغياب العدالة

فرهاد حمي

قبل أربع سنوات، وبعد أن استكمل الاحتلال التركي حملته على مدينة عفرين، كتب المفكر البارز والراحل، ديفيد غربير، في حينه مقالاً في الغارديان البريطانية، أوضح فيها أن “المتطرفون الدينيون المحيطون بالحكومة التركية الحالية يدركون جيداً أن روج آفا لا تشكّل تهديداً عسكرياً لهم، لكن خشيتهم تكمن في أن يقدم هذا النموذج رؤية بديلة لما يمكن أن تكون عليه الحياة في المنطقة”. هذه الرؤية حسب غريبر تتمثّل بالديمقراطية المحليّة، والتحرّر البيئي، وتمكين المرأة جذرياً، ومن ثم تسأل لماذا تخلّى قادة العالم الغربي عن هذه القيم الكونية؟

تاريخيّاً، أخذت سياسة الإبادة الثقافية والجسدية في كردستان تركيا على يد جمعية تركيا الفتاة من يافطة “التمدّن والمهمّة الحضارية” غطاءً لمشاريعها الاستعمارية الداخلية، واليوم، وتحديداً من بوابة عفرين تقتفي هذه السياسية ذات الجذر العنصري المدمّر، لكن مع فارق إيديولوجي ودعائي طفيف هذه المرّة. فاجترار النقاء الطوراني الأسطوري ما قبل الإسلامي كان يدغدغ مخيّلة كلّ من مصطفى كمال أتاتورك وعصمت إينونو وفوزي جاقماق في عصر بناء القوميات المتطرفة. في حين، نرى البربرية المستمرة اليوم في عفرين، تحقن الجرعة العنصرية بشتّى صنوف الرجعية المتطرفة، دينياً ومذهبياً وقومياً. المشعوذون الثلاثة هذه المرّة، هم كلّ من الرئيس التركي أردوغان وشريكه في السلطة زعيم حزب الحركة القومية المتطرف دولت باهجلي ورئيس حزب الوطن دوغو برنجيك.

هذه العنصرية التي نفّذت الإبادة أولاً بحق الشعوب المسيحية، والكرد لاحقاً، كانت تتغذى من الحداثة المتطرّفة في بداية القرن العشرين، وتسوّغ حملتها الدعائية في الوقت الراهن، من لدن مفاهيم شاذة ومستوردة من فلسفة ما بعد الحداثة من خلال انبعاث الأساطير القومية والدينية والمذهبية، وهي بذلك تقدم تبريرات فجة ومدمّرة للقيم الإنسانية المشتركة. هذ العقيدة على وجه الخاص، هي من تثير لعاب حكّام اليمين المتطرف في العالم حالياً.

حكومة اليمين المتطرف الحاكمة في أنقرة مع التشكيلات الإرهابية وفرق الموت كـ “الذئاب الرمادية” المتسيّدة لعفرين حالياً، ليسوا بحاجة بتاتاً إلى التبريرات العقلانية لجرائمهم اليومية، بل ما يُلهب غرائزهم المنفلتة هو قانون القوة والعنف العاري. وهنا أولاً، ينبغي النظر إلى تفكيك المجتمع العفريني والتغيير الديمغرافي والتهجير الجماعي والتطهير العرقي ونهب البنية المادية وتدمير البيئة، تحت خانة الإبادة، أو على الأقل بوصفها الإبادة الثقافية والعرقية حسب ما ورد في إعلان الأمم المتحدة لحقوق الشعوب الأصلية عام 2007.  ثانياً، تشكّل عفرين نموذجاً مستكملاً لحملة التوسع والصهر لنموذج “الدولة الأمة التركية” (Turkish national state) ضد الكرد منذ عام 1916، وتوسّعت نطاقها هذه المرة خارج حدودها القومية المرسومة. ثالثاً، وجوب إدراج احتلال عفرين واستعمارها ضمن سياق التناحر الجيوساسي المتفجّر في الوضع السوري. رابعاً، ينبغي ربط احتلال عفرين مع سري كانيه وتل أبيض وإعادة هندسة بنيتهم السكّانية ضمن سياسة الاتحاد الاوروبي حيال اللاجئين. هذه العناصر الأربعة المذكورة آنفاً لا يمكن تنفيذها فعلياً إلاّ بمعيّة فرق الموت والتشكيلات الإرهابية العاملة تحت رقابة دولة عنصرية مثل تركيا وبالتغطية المستورة والعلنية من القوى الدولية.

جذور الإبادة الثقافية والعرقية

كانت الوصفة السحرية حسب نخب “تركيا الفتاة”، مؤسسيّ تركيا المعاصرة، من أجل التخلّص من الإهانة التاريخية عقب انهيار الخلافة العثمانية، تتجسد في تبنّي “المهمة الحضارية القومية” بغية مواكبة نسق القوميات الغربية المتطرّفة، ولأن جغرافية الأناضول وكردستان من خلال التنوع الثقافي والديني، كانت تقف سدّاً منيعاً أمام أيديولوجيّتهم، فإن إعادة تشكيل ” الأمة التركية” كانت تستدعي تسخير القوة والعنف من أجل تطهير “التركياتية” من كل أشكال التنوّع والاختلاف. ولدى استحضار كلمة “التطهير” التي تزخر بها أدبيات هذه النخب، تاريخياً وحاضراً، فإن مشاهد الإبادة والتطهير العرقي والتغيير الديمغرافي تسود الموقف بالضرورة.

رصد أوميت أوزغور أنغور، وهو باحث في جامعة اوتريخت الهولندية، بطريقة ملفتة من خلال كتابه الشهير “تركيا الفتاة والهندسة الاجتماعية” جذور هذا النظام العنصري، الذي تأثّر بشتّى أنواع الفلسفات المتطرّفة حينها، مثله مثل النظام الستاليني والنازي والفاشي الإيطالي، حين اعتبر النظام نفسه حسب نفس المرجع “إنه يدير هندسة البستنة، حيث أدخل النزعة التركياتية في حديقة المجتمع من خلال تنظيم تنوّع النباتات وإزالة غير المرغوبة منها، والتي بموجبها يجري إعادة تنظيم المكان والسكّان كممر ضروريّ صوب الحضارة“. هكذا استهلّت حملة إبادة الأرمن والشعوب المسيحية الأخرى أولاً، ومن ثمّ بدأت حملة الترحيل القسري للسكان الكرد( الإبادة الثقافية والجسدية) منذ عام 1916. لذا، لا يجوز موضوعياً فصل احتلال عفرين وسري كانيه وتل أبيض عن هذا السياق التاريخي، بل ينبغي اعتباره سلسلة واحدة وموحّدة.

مارست الدولة التركية سياسة التهجير القسري تاريخياً ضد الكرد من أجل الصهر والإذابة القومية داخل حدودها، وبذلك صُنّفت هذه الانتهاكات في لائحة الجرائم الجنائية من جهة الطرد والترحيل القسري، ولدى نسخ هذه السياسة خارج حدودها ضد الفئات العرقية الماثلة، ومن ثم ضم تلك الأراضي إلى حدودها بغرض التجانس العرقي والديني لإقليم معينّ، بالتزامن مع الشعور بتنقية الأمة، مثل حالة عفرين اليوم، فإن تصنيف هذه الممارسات، اصطلاحياً وقانونيّاً، تدخل في خانة التطهير العرقي.

يرجع غالبية المؤرخين والباحثين الجادين، العديد من المذابح في التاريخ التركي الحديث، من الإبادة الجماعية ضد الأرمن إلى مذابح الكرد في الوقت الحاضر، بشكل مباشر إلى بنية القومية التركية، بوصفها قوة مدمّرة تفرض الاستيعاب القسري لشتى الثقافات والأعراق والأقلّيات المختلفة، تحت عنوان إنشاء “أمة واحدة، لغة واحدة، علم واحد“. ومع استعمار عفرين حالياً وتهجير السكان المحليين مع الأقليات العلوية والإيزيدية، والّذين في غالبيتهم الساحقة رفضوا الانصياع لسلطة الاستعمار التركي، يمكن إضافة أيضاً “دين واحد، ومذهب واحد“. فهاتين اللاحقتين حالياً، ما تثيران شهية الكتائب الجهادية السنيّة المتطرفة والعاملة مع أنقرة من أجل فرض البربرية في عفرين.

أسطورة الأمن القومي

من المعلوم، أنّ الخطاب التركي الرسمي ضدّ الكرد في تركيا وسوريا متّكئ على فرضية الأمن القومي في ظل قانون الطوارئ الذي يعصف بالبلاد. فمنذ “الانقلاب الفاشل” عام 2016  والذي وصفه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حينها بأنّه (هدية من الله)، تستثمر أنقرة مفهوم “الأمن القومي” من أجل استدامة حالة الطوارئ بغرض سحق كل المعارضين والمنافسين السياسيين. وتحت هذه الذريعة شنّت حكومة اليمين المتطرف في أنقرة الحرب على عفرين وبمباركة القوى الدولية. وهنا يجدر أن نسأل: ما الذي يشكّل الخطر  على الأمن القومي التركي طالما لم تطلق رصاصة واحدة صوب الحدود التركية من جهة عفرين؟ في الواقع، هو بالضبط ذلك التنوّع الثقافي الذي يرفض النزعة الاحادية التركية، وتقاوم هذه البنية الإيديولوجية الشاذة، وعفرين من هذا المنظور تحديداً، تشكّل الخطر على الأمن القومي.

هذه الإشكالية فسّرها المنظّر القانوني والسياسي الألماني، كارل شميت، حينما شدّد على إمكانية تجاوز الحكومات ذات السيادة المطلقة سيادة القانون وانتهاكها وحتّى إلغائها باسم المصلحة العامة أو الأمن القومي، وهي الجهة الوحيدة التي لها سلطة تحديد حالة الاستثناء التي بموجبها يتم تعطيل مبدأ سيادة القانون لأمد غير محدد.

 لكن ما يميّز اليمين التركي، لاسيما بعدما وصل إلى طريق مسدود بحكم مراكمة التناقضات الداخلية في السياسة التركية خلال السنوات الماضية، بأنّه أكثر مباشرة في الإفصاح عن نواياه الاستئصالية تجاه “الآخر”. ومع اكتمال سياسة الاحتلال التركي في عفرين، ومن ثم الدخول في مرحلة التهجير القسري والتطهير العرقي، أضحت سلطة العنف مع مؤسساتها الإدارية الناشئة بمثابة أوصياء على الموت والحياة حيال السكان المحلّيين أو كما يعرّف العالم السياسي الأمريكي، أشيل مبيمبي، مفهوم سلطة الحياة والموت(necropolitics) بأنه عبارة عن السلطة السياسية والاجتماعية التي يحكم أصحابها على بعض الناس بالحياة وعلى الآخر بالموت.

يعتبر وقوع عفرين تحت براثن الاحتلال التركي، بمثابة خطوة أوّلية في تطبيق الميثاق المليّ خارج حدود سيادة الدولة التركية كما تروّج الدعاية التركية على الدوام، ومنذ هيمنة سلطة الاحتلال التركي وسيطرتها على جغرافية عفرين، بدأت تسلك منهجية “السياسة السكّانية والترحيل القسري” عبر تحطيم هوية السكّان المحليّين، وتوظيف آلية الترحيل القسري، وتوطين المجموعات العربية السورية السنّية والأقليات التركمانية من العراق و حتى بعض المجموعات من الإيغور تحت غطاء إعادة إسكان اللاجئين والنازحين.

عملياً، وبغرض تنفيذ هذه السياسة، تستخدم الحكومة التركية، عاملين أساسيين وفق توثيق الجهات الدولية والمحلية لنطاق الانتهاكات الممارسة يومياً طوال السنوات الأربع الماضية:

أولاً: تجنيد مجموعات ليست تركية، غالبيتهم ينحدرون من المليشيات العربية السنيَة المتطرفة، البعض منهم من بقايا داعش، وثمة جماعات مرتبطة عضوياً مع القاعدة، إضافة إلى الجنسيات الأجنبية المتطرّفة القادمة من وسط آسيا. جذور هذا التكتيك يعود تاريخه إلى حقبة انهيار الإمبراطورية العثمانية وبداية تشكل الدولة التركية الحديثة على قاعدة تكوين دولة قومية وفق الهندسة الاجتماعية، وأردوغان ليس شاذاً عن هذه القاعدة.

ثانياً: تطابقاً مع العامل الأول يجري بالتوازي تنفيذ تغيير هوية السكان الكرد المحليين، متجسّداً في إزالة مؤسسات اللغة الكردية، وتحويلها إلى تعليم اللغة التركية عوضاً عنها، فضلاً عن تدمير المخزون الثقافي المحلي لصالح الثقافة التركية الرسمية من خلال تحطيم الآثار، وتغيير الرموز الكردية، وتفجير المقابر، ودفن الذاكرة المحلية، وعمليات الاغتصاب في السجون، والاعتقالات التعسفية، والفدية، والقتل العشوائي، ونهب الممتلكات والبيوت والمزارع، وتدمير البيئة، وحرق الاشجار وسرقة المحاصيل، عبر سياسة الأرض المحروقة ..وإلخ.

التناحر الجيوسياسي

جرائم الحرب وخرق القانون الدولي والإنساني حسب التقارير الأممية من قبل اليمين التركي، جلّها، لا يمكن أن تدوم إلاّ عندما تسحق الحسابات الجيوسياسية الدولية كل أشكال الحياة، وعفرين كانت ضحية هذه المقاربة في المقام الأول على خلفية المذبحة السورية عموماً. فعندما تتحرّك أحجار الشطرنج في اللعبة الجيوسياسية الدولية وفق منطق القوّة، تتراجع بالضرورة المثالية الأخلاقية والقانونية كما يقول هنري كيسنجر في كتابه “النظام العالمي”.

اليوم، تنتقد الدول الغربية، الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة، على نحو هستيري، هجوم بوتين على سيادة أوكرانيا، في حين بوتين مثل أردوغان يشنّ الحرب وفق مزاعم حماية الأمن القومي الروسي. ثمة عبثية مفرطة هنا لدى استحضار مثال عفرين. فالغرب كان يؤازر حجة أردوغان في الدفاع عن الأمن القومي، بينما روسيا لم تنبس ببنت شفة اسطوانتها المعتادة تلك حول السيادة السورية.

أنطونيو نيغري، العالم الاجتماعي الشهير، كان حاذقاً في كتابه” الإمبراطورية” عندما أعلن منذ عقود نهاية المنظومة الأخلاقية والقانونية التي تتخذ من الدولة القومية الكلاسيكية إطاراً لها، وذلك بعدما انجرف النظام الدولي في مرحلة الفوضى المتشعّبة منذ تفكيك الاتحاد السوفياتي. فالنظام العالمي يندفع نحو القوّة والعنف ومصالح رأس المال بمعزل عن الحماية القانونية والأخلاقية التي يفترض أن تصون حقوق المضّطهدين والضعفاء.

لقد ادّعت الولايات المتحدة بالفعل أنها تدعم حق الدولة التركية في حماية نفسها من “العناصر الإرهابية التي قد تشن هجمات ضد المواطنين الأتراك والأراضي التركية من سوريا”. إلى هذه اللحظة لا تزال تركيا شريكاً استراتيجياً للولايات المتحدة في حلف الناتو، ولا تريد واشنطن خسارة تركيا خاصة بعد اندلاع الحرب الأوكرانية. فالولايات المتّحدة تعتبر ببساطة عفرين مكاناً لا يمثل مشكلة لها، نظراً أنها لا تقع ضمن أراضي مرسومة للتحالف الدولي.

من جانبها، كانت روسيا تهدف من خلال السماح لتركيا بغزو عفرين عبر فتح المجال الجوي لها، إلى وضع الولايات المتحدة في مأزق، وخاصة عندما تلّقت قوات سوريا الديمقراطية دعماً من تحالف تقوده الولايات المتحدة، ومن ثم اكتسبت القدرة على السيطرة على موارد المياه والنفط الحيوية التي كانت تحت سيطرة داعش في الرقة ودير الزور. دفعت هذه المعطيات حينها، حجم التوتر بين القوّتين العالميتين إلى مستوى جديد، تجلّت عواقبها في التنافس بين قوات سوريا الديمقراطية -المدعومة من تحالف تقوده الولايات المتحدة- والحكومة السورية المدعومة من روسيا وإيران. ولإضعاف النفوذ الذي تتمتع به الولايات المتحدة في سوريا، دخلت روسيا حينها في صفقة الانفراج مع تركيا من خلال المجموعات التبشيرية والداعية للمحور الأوراسي بالضد من الأطلسي.  مثّل الجانب التركي، زعيم حزب الوطن المتطرف، دوغو برنجيك، في حين، شدّد المفكر  المتطرف الروسي، الكسندر دوغين، بوجوب تعميق هذا التحالف وتقويض التأثير الأطلسي على المشهد السياسي التركي.

في هذه المرحلة، تلاقت مصالح كلاً من روسيا وتركيا. أنقرة كانت ترغب في تفكيك المشروع الديمقراطي الذي يقوده الكرد في شمال شرق سوريا، بينما كانت تسعى روسيا إلى تقليص نفوذ الولايات المتحدة في سوريا من خلال محاولة إزالة قوات سوريا الديمقراطية كحليف على الأرض، وذلك عبر تقويض عفرين التي كانت محاصرة من الجهات الأربعة، ومن ثم تشجيع أنقرة لغزو المناطق الكردية على طول الشريط الحدودي.

كان الكسندر دوغين يمهّد لمثل هذا السيناريو، فقد كتب مقالة دعائية فجة حينها، شن فيها هجوماً على الكرد تحت المزاعم التالية: الكرد يرفضون الحوار مع النظام في دمشق، ولديهم نزعة عدائية تجاه تركيا، كما أنهم يُحكمون قبضتهم على المناطق العربية، ويملكون أجندة سياسية جديدة وخفيّة، ويتحرّكون تحت المشورة الأمريكية- الإسرائيلية بصورة مطلقة”. دوغين، كان يرغب أن يختزل رؤيته التلفيقية، بأن نموذج عفرين هو الحل الروسي الوحيد الأوحد، سيّما أن دمشق وموسكو مع طهران وأنقرة رفضوا أي مقاربة لامركزية في شرق الفرات وإلى هذه اللحظة.

مع ذلك، ثمّة خيط مشترك بين المحورين حيال عفرين، فبعد أن اتّضحت سياسات ترامب خلال السنوات الماضية، بات واضحاً أن الغطاء الدولي لاحتلال عفرين، كان بقيادة “اليمين المتطرف الدولي” (دونالد ترامب وبوتين وبوريس جونسون ونتنياهو والحكومات المحافظة في أوروبا)، ولا يجب استبعاد أن إدارة ترامب كانت راضية منتهى الرضا عن تصفية ميراث باراك أوباما في منطقة الشرق الأوسط، وكانت متوافقة مع موسكو بخصوص الاحتلال التركي لعفرين.

الاتحاد الأوروبي

سارعت الحكومات المحافظة والليبرالية في الحكم لدى الاتحاد الاوروبي، وتحديداً عبر المفوضية الاوروبية إلى تبنّي استراتيجية جديدة تحت يافطة “تحصين أوروبا” من بوابة تركيا، وذلك انسجاماً مع مزاعم اليمين المتطرّف حيال أزمة الهجرة الجماعية من الشرق الأوسط عموماً، وسوريا على وجه الخصوص، وبحكم المصالح الأمنية والاقتصادية المشتركة بين تركيا والاتحاد الاوروبي تاريخياً، فإن الأخيرة غضت الطرف عن خرق القانون الدولي إبّان احتلال عفرين. هذا الانحياز الأوروبي الصارخ لتركيا، رفع الغطاء مجدّداً عن أزمة الاتحاد الأوروبي البنيوية، سيّما من جهة تفضيل المصالح الأمنية والاقتصادية والسلطوية للنخب الحاكمة في بروكسل على حساب تقويض العدالة الكونية والمنظومة الحقوقية الأوروبية على الدوام.

ففي حزيران/يونيو من العام الفائت، اتخذت المفوضية الأوروبية “المؤسسة التنفيذية” قراراً  رسمياً يدعم الحكومة التركية بمبلغ 3 مليارات يورو إضافية بغية  مراقبة الحدود وبناء الجدار”، وذلك كجزء من جهود ردع اللاجئين والمهاجرين عن القدوم إلى أوروبا. بطبيعية الحال، تستثمر حكومة أردوغان هذه الخطة بغية تفريغ المناطق ذات الأغلبية الكردية من قاطنيها، وهي وتشمل عفرين وتل أبيض ورأس العين (سري كانيه)، ولا يخفي الأتراك نواياهم بتوسيع نطاق المشروع إلى باقي المناطق الحدودية في شمال شرق سوريا، خاصة في ظل استمرار الضربات الجوية التركية بالطائرات المسيّرة ضد المناطق الكردية في كل من سوريا والعراق.

قبل أيام، كتب الباحث النمساوي، توماس شميدينجر، مقالة على موقع المركز الكردي للدراسات جاء فيها بأن  استراتيجية تحصين أوروبا تستدعي إنشاء مناطق يمكن فيها التخلّص من اللاجئين غير المرغوب بهم. ويمكن أن تصبح عفرين الواقعة في شمال غرب سوريا جزءً من هذه المناطق المستهدفة، حيث تتم إدارتها من قبل سلطة بربرية مستبدّة وتخضع مباشرة للسيطرة التركية. على هذا النحو، يبدو أن صوت الكرد المضطهدين في عفرين قد استبُعد من إطار الحماية القانونية الدولية لردع هذه الجرائم اليومية المنتهكة بحقهم لغاية الآن، وبذلك تبرهن مقولة جورج أغامبين صدقيتها مرة أخرى، فعفرين نموذج صارخ لـ” الإنسان المستباح“.

 الخلاصة

تلقّفت جمعية تركيا الفتاة سياسة الصهر والتهجير الجماعي والتطهير العرقي والإبادة الجسدية والثقافية يوم ما من لدن الأفكار الغربية المتطرفة، وللمفارقة، فإنها بقيت محصّنة إلى هذا اليوم من المحاسبة القانونية والأخلاقية. اليوم يكرر التاريخ نفسه من خلال عفرين، فسياسة التطهير العرقي والتغيير الديمغرافي الممارس بحق الكرد لا تزال تنتهل مشاربها من رحم المصالح الجيوسياسية، الأوروبية والأمريكية والروسية، التي تغطي على جرائم الدول القومية المتطرّفة في المنطقة، فضلاً عن أنّ عدالة القضية الكردية لا تزال رهينة حسابات النظام الدولي الذي يشرّع ويغطّي على حملات الإبادة على الدوام. ومن أجل ذلك تحديداً، ينبغي أن يكون الدفاع عن عفرين محلّياً وإقليماً ودولياً، مستنداً بالضرورة على القيم الكونية، من حق الدفاع عن النفس وصولاً إلى التحرر من رجس الاحتلال، ومحاسبة مجرمي الحرب، ومن ثم النضال من أجل التحرر والحرية في وجه البربرية الإرهابية وطغاة العصر، وهي ذات المطالب العادلة والمشروعة للقضية الكردية وكل القضايا العادلة في العالم.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد