بدر الحمري
هل تتحول شاشات حواسبنا وهواتفنا وتلْفزاتنا إلى أيديولوجيات تمرر أفكارها إلينا وتدمّرُ كل شيء فينا؟
لا عجب أنّ الشاشة هي كِتاب أغلب قرّاء الزمن المعاصر، إذ تحول فعل القراءة من الورقي إلى الرقمي، والدليل على ذلك أننا نقرأ كثيراً من خلال شاشاتنا، أو لنقل أغلبنا يفعل ذلك لساعات طوال كلّ يوم، لكن هل هي قراءة ماتعة، مفيدة، بنّاءة لحضارة ما، موسعة لأفق الإنسان المعاصر وعدالته الاجتماعية وتعايشه الحقيق ومشروع سلامه الممكن في المنطقة والعالم!
تكادُ تكون الشاشة اليوم منافسة لواقع المكتبات، بل تحاول – هذه الشاشة – أن تكون هي الواقع الحقيقي، أما الواقع كما فهمناهُ تاريخياً لا يصبح عندها إلاّ اللاحقيقة، أو في أبسط تعبير عنها: إنها الحقيقة التي اختبأت في بئر – أو لعلها « وقعت » فيهِ – بعدما سَرِق الكذِبُ منها لباسها وأصبحت عارية أمام الناس.
يقول المفكِّرٌ المرموق عبد السلام بنعبد العالي إنّ شاشة اليوم « صورة عن الواقع، إن لم تكن هي الواقع ذاته في مباشرته وحيويته وحياته In Live، مع ما يتمخض عن ذلك من تحول لمفهوم الحدث نفسه حيث تصبحُ الأحداث الجسام وقائع متنوعة تتكرر وتجتر، مع ما يتولد من تهوين للأهوان، مما يجعل الفرد عاجزاً أمامها عن أن يحس الاحساسات التي كان ينبغي أن يحسها، ولا يستشعر المشاعر التي كان يلزم أن يستشعرها، ولا أن يرد ردود الأفعال التي كان يتوقع أن يرد بها »، وإن كنا نتفق مع بتر الشاشة لمشاعرنا، حيث تصبح ناقصة، فيمكنُ أن نذهب بعيداً بهذا التوصيف الدقيق ونقول إنها في أوقات كثيرة تكون أحاسيس مشوهة ومخلوطة وتسقط في الهُراء؛ أي أحاسيس فارغة وفاسدة لا نظام فيها، تميلُ إلى السخف والتفاهة من شدة تركيزها على الحدث وإعادة صياغتها بتسلُّط داعشي فاحش.
إنّ ثنائية الواقع- الشاشة في الحياة المعاصرة جعل من مهمة الفلسفة أمراً مستحيلا بالنظر إلى مهمتها الواقعة تحت تأثير العصر الحديث كما دشنه إيمانويل كانط عندما وصف القرن الثامن عشر بأنه قرن النقد. فمع منافسة الشاشة للعقل الناقد هل من ميزة تبقى له عن باقي الصور بدلالاتها وعلاماتها والأيديولوجيات التي تخفيها وراءها؟
قد يقول قائل إنّه لا صعب يقف أمام الفلسفة، غير أننا حتى الآن قد حَمَلنا موضوع الفلسفة -الشاشة على محمل من الهزل وليس الجِد، وإلاّ فإننا يمكن أن نقول بأن ما يتخفى خلف الشاشة هو الأيديولوجيا، فتصبح بناء على ذلك مهمة الفلسفة في تصادم مُباشر مع الأيديولوجيا المتخفية وراء الشاشة، والتي تطل بأعناقها لتفسد علينا صفاء رؤيتنا إلى الأحداث، لكنها تحاول في كلّ مرة أن تنقلها إليك وتقربها منك بل وتوضحها لك وأنت في مكانك، تطلع أو تنزل بسبابتك عليها، من دون مطالعة في مكتبة أو نزول إلى الواقع الحيّ. وإذا علمنا أنّ الشاشة هي ‘بث حيّ‘ صار خطابها الضمني: ‘ مُتْ مكانكَ’!
هناك، في الخطابات اليومية العابرة للقارات والخارجة من وراء الشاشة، فراغات داخلها، تكشف عن أرشيفات نفسية، وأيديولوجيات مترسبة، وطبقات من المغالطات العنيفة كافية بأن تجعل من الأوهام والتخييلات والضِّلال صُورة حقيقة مموهة، تتغيا اقناع المتلقين والاحتيال عليهم أو قل كافية بأن تقمع المخاطبين والنصب على عقولهم. ومن أجل تفحص هذه الفراغات داخل الخطابات المغالطة علينا أن نقوم بعمليات مركبة دائماً وكلما جلسنا إلى شاشاتنا، أن نحصرها ونحد من امتداداتها داخل الخطاب اليومية التي نتفوّهُ بها، وإلاّ فما معنى أن يخاطبك شخص ما:’ هل سمعت ما قالته الفضائية الفلانية عن كَذا؟’ أو ‘لقد قرأتُ قبل قليل في وسائل التواصل الاجتماعي أنّ كَذا سيتوقف عن كذا’ وكثيراً من اللّغو نرى أنه خارج من الشاشات .. إلاّ قليلا. « واحدة من أكبر السِّمات في ثقافتنا هي أنّ هناك كثير من الهُراء bullshit ».
أيديولوجيا الشاشة تكرس الجاهز واللحظي وتفتِّحُ المجال أمام السخافة، فلا تحدُّ نفسها جغرافياً، بل تفكك الاستدلال العقلاني. من ثمة لا يمكنُ أن نصيب تفاهماً بين طرفين ‘الذات المفكّرة’ و’الشاشة الحيّة’ أو أن نصنع إقناعاً بينهما، ستكون خطابات الشاشة مموهة بينهما شبيهة بما شبّه به دريدا أرشيف اللاشعور من كونه أرشيف مموه، مضعضع، متحول، مُغَيَّب، أي في موازنة شبه تامة معه ستكون هذه الخطابات في تفاعلاتها المركبة ومعانيها مُضمرةٌ، وستفهم على أنها أفكار مموهة وأسماء مضعضعة ومعاني متحوّلة، ووجهات في الخطاب مغيبة، وبالتالي فإننا نخلص إلى نتيجة أولية مفادها أن النص أو الخطاب بعيد كل البعد عن التماسك والانسجام، أو بطريقة أبعد بقليل من هذا المعنى الحالم: لا يوجدُ نصّ/ خطاب متماسك في الشاشة، كل ما هنالك أساليب بلاغة عتيقة أو آليات تستعملُ بها اللغة ليبدو فكر صاحبها متيناً .. لكنه لا يكون كذلك إذا اقتحمنا عالم اللغة وقمنا بتفتيته، يقول روبيرت براندوم « إنّ فلاسفة اللغة اليوم في العالم الأنجو- أمريكي يبحثون خصوصاً في الأساليب التي نستعملها لبيان مدى وجاهة أفكارنا، إنهم يحاولون من جهة فهم التنوع الحاصل في أشكال التفسير من قبيل حجج المعرفة الشرطية، ومن جهة ثانية يحاولون فهم الكيفية التي بها تسم العبارات المعيارية وتنوع الضرورات القوة المعيارية للأفكار التي ننتجها أو نتقبلها، إنّ المعياري ينقل فهمنا للسلطة والمسؤولية والالتزام والاستحقاق ». ونضيف إلى ما سبق إنّ الاستدلالات المغالطة التي تحفل بها الشاشة بوصفها خطابات موجهة هي نوع بَشِع من العنف الممارس على المشاهد / المتلقي، لذلك فإن كل تغاظ عنها إنما يزكيها ويفسح لها المجال للتفريخ أو التوالد إلى ما لا نهاية، فتصبح بذلك استدلالات مُضلِّلة رخوة تميل إلى ما مال إليه الجمهور أو تميلُ مع رغبات المخاطب / في الشاشة، هذا الجمهور الذي صنعته هيَ بنفسها!