نواف خليل
لا أدعي حين اقول: حاورت عشرات الشخصيات، في السياسة، والأدب، والفكر، ولا أخفي أنني في حواري مع الصديق الروائي نبيل الملحم، ترددت ألف مرّة قبل إجراء هذا الحوار، وإذا ماكان لزوماً عليّ أن أوضح لم ترددت، فذلك لسبب هو الأوضح، إن كمّ الحرية الذي يتمتع به هذا الرجل، تدفعك للسؤال: كيف بوسعه أن يحمل كل حريته تلك؟ فمع رواياته، كما مع كلامه.. ستكون مرغماً على تامل ما يقول.. وفي الحالين، هذا الرجل يكسر فيك ما تعتقد أنه لا يكسر من تراكمات المعنى واستخلاصات الحياة.
* معظم الكتّاب، الفنانين، هربوا من سوريا الحرب، أنت منهم أليس كذلك؟
– لا، أنا لم أهرب من سوريا، ولا من الحرب، أنا غادرت في رحلة مؤقتة، وعمّا قريب أنا عائد إلى سوريا.
* ما الذي يدفعك للعودة؟
– التحدّي.
* تحدّي ماذا؟
– السوري في الداخل يعيش تحدّيات لا حصر لها، من الصعب تحديدها، أو تعدادها، إن مجرد البقاء على قيد الحياة تحدّ، مابالك بتحديات الموقف وأنت تتجول بين محاربين لست في أيّ من خنادقهم؟ ما بالك بتحديات الذاكرة؟ دمشق بالنسبة لي هي خزّان الذاكرة، مع كل تفصيلة منها لي ذاكرة.أيّ نوع من الذاكرة؟مدينة دلّلتني، أنا رجل دلّلته المدينة، ما من مدينة يمكنها أن تمنح رجلاً كما منحتني هذه المدينة، لقد كانت ملعبي، بدءاً من تأملات بواباتها القديمة وصولا لمقاهيها والتشرد في أزقتها.. ليس من مدينة منحتني كما دمشق سوى القاهرة.. مدينتان، في القاهرة بداية التشكّل، بداية الدهشة إن شئت.. بداية السؤال الصعب، وفي دمشق استرسال الأسئلة مع الكثير الكثير من خيبات الإجابة.
* ألا تخشى من أن تتعرض لمشاكل ومضايقات؟
– لا يزال ملايين السوريين في بلدهم، لست أفضل حالاً منهم، هناك قد أتعرض لمضايقات، ولكن لن أتعرض للإلغاء، هنا أنا ملغى، من الصعب عليّ حتى أن أكون رقم شرف، هنا مطحنة الوحدة، العزلة، الأمان الكاذب وترهل الخيال، هنا مضافة رائعة لمن قرر العجز واستكان للقبول.. قبول الأمان.. الأمان عمل مريح، ولكن التحدّي هو الروعة بعينها.. ثمة ما يموت فينا هنا.. ولذلك لابد من العودة، وأقسى وأقذر دعوة وجهت للسوريين هو التحريض على ترك البلد، وكان تحريضاً مزدوجاً، السلطة التي ترتاح للخلاص من أعباء سكّانها، والمعارضات السافلة التي تتاجر بمصائرهم وتعلّقهم في خزائنها، مع ما تتسع تلك الخزائن لسمسرات.لاحظ أنك على الدوام تهاجم المعارضة أكثر مما تهاجم السلطة.صحيح.. السلطة بالنسبة لي هي إلغاء الماضي.. لقد ألغت خمسين سنة من عمر البلاد وأحالتها إلى سجن، ولكنها لم تستطع أن تلغي خيال المستقبل، لم تستطع أن تجتث الأمل من الناس.. المعارضات السافلة اجتثت الأمل.. فحملت سفالة الماضي وأقفلت بوابات المستقبل، لذلك فهي السفالة مضاعفة.وكأنك تحكي دون أيّة حسابات.
* هل هي جرأة؟
لا.. ليست جرأة، أنا قوي إلى الدرجة التي لا تسمح لي بأن أكون سوى أنا متحرر من الحسابات.
* ما مصدر قوتك؟
– اليأس.. هنالك اثنان قويان لا يمكنك أن تلوي ذراعهما.. القوّة المُطلقة التي لا حدود لها، ومثالها الله.. واليأس المطلق الذي لاحدود له.. اليائس إلى هذه الدرجة يشبه الله في قوته وإن لم يشبهه في وعده.. ليس لديه ما يخاف عليه.. بالمناسبة الإسلاميون المتطرفون أدركوا هذه الصيغة فكان جنودهم من اليائسين وكانت الأحزمة الناسفة.
* أنت روائي.. يلزمك بيئة آمنة وهادئة للكتابة، وها أنت تتنقل من برلين، إلى فيينا إلى مدريد، وحيث تذهب ستجدها.
– من لحظة وصولي حتى اللحظة، لم أنجز سطراً عليه القيمة.. هنا الكلام مجّاني، والكلام المجّاني سافل ككل مجّاني في هذه الحياة.. هناك، في دمشق، للكلمة قوّة أخرى، لنقل ثمناً آخر.. أنا شخصياً لايحلو لي أن أقرأ كتاباً مهدى إلي من كاتبه، أقرأ الكتاب الذي أشتريه أنا.. الذي أشعر بكلفته.. أطمح لحياة مكلفة.. الحياة هنا بلا تكاليف.. سخيفة وهزيلة وليست ممتعة.. القبور آمنة إن شئت.
* لكن هناك كتاب مبدعون قديماً وحديثاً ظهروا في المهجر وحققوا الكثير الكثير من الذي كان محالاً عليهم في بلادهم، والأمثلة كثيرة تعرفها وتعرف اصحابها اكثر من الجميع؟
– كل عمري أسافر.. وبعمر مبكر كنت أسافر.. أعرف هذا الكوكب شبراً شبراً، ولكن هجر البلد في مثل هذا الظرف.. أعني هجرها وهي تغرق، أراه بالنسبة لي شكل من الانحطاط.. طبعاً لا أعمم الصيغة، فلكل ظرفه النفسي والموضوعي.. ثمة من له عذر، ولكن انا شخصياً لا أجد عذراً لنفسي، ولذلك أشعر بأنني أعيش المؤقت هنا.. الرواية ليست لحظة إشعاع عابر لتمتبها كما القصيدة في مترو.. الرواية فعل إقامة.. فعل مكان، إذا ماغادرت مكانها لا تُكتب.. أحكي عني وليس عن أي روائي آخر.. حيدر حيدر كتب وليمة لأعشاب البحر وهو يتنقل ما بين الجزائر وقبرص، لم يضيره المكان.
* مارأيك بحيدر حيدر؟
– لا أحبه أبداً، ولا أحب أعماله الروائية.. لا أحب لغته.. لا أصدّقه وأقرّ بأنه كإنسان رائع.
* لنعد إلى الهجرة.. مادام الأمر كذلك، لماذا غادرت؟
– ربما لأسباب سخيفة لا يجدر بي التوقف عندها.
* سياسية؟
– لا.. شخصية جداً وسخيفة جداً ولا قيمة للتوقف عندها. منذ فترة شاهدت فيديو عن حصان في ملعب مصارعة ثيران.. غرس الثور قرونه في بطن الحصان فأخرج أمعاء لحصان.. مع ذلك بقي الحصان يركض ويركض ويركض حتى وقع ميتاً.. يحلو لي أن اكون ذلك الحصان. كثير من الكتاب، الصحفيين، يقولون سنعود حالما تتوقف الحرب. إذن لن يعودوا، هذه الحرب مصنوعة كي لا تتوقف، هذا النوع من الحروب يتكاثر بالانشطار كما وحيدات الخلية، كما البالون، ما أن تضغطه من جانب حتى ينتفخ من الجانب الآخر، والحرب بهذا المعنى ليست مجرد لعبة سلاح، نحن أمام مستقبل مفتوح على لاعبين قد لانعثر على تسمية لهم، الواضح من الصورة أنهم سيكونون الزعران، قطّاع الطريق، أيّ كان كان شكل التسويات المقبلة، لن تكون إلاّ في صالح هؤلاء، هؤلاء سيكونون حكّام المستقبل.. سدنة النظام اليوم من هؤلاء، وسدنة المعارضات من هؤلاء، وهؤلاء سيكونون حرّاس هيكل سوريا المستقبل وحتى وقت طويل، بل وطويل جداً، لا أظن أننا سنكون من المعمّرين الذين سيصلون إليه.إنها صورة متشائمة جداً. بدّلها إذا كان لديك بديل عنها، هذا هو الحبَلْ، لن يشي بغير تلك الولادة.
* إذا كانت الصورة على هذا النحو من التشاؤم، ما الذي يجعلك تشتغل بكل هذه الطاقة.. كتاب شهري عن مركز البوصلة، وسبع روايات في أقل من سبع سنين؟
– منذ فترة شاهدت فيديو عن حصان في ملعب مصارعة ثيران.. غرس الثور قرونه في بطن الحصان فأخرج أمعاء الحصان.. مع ذلك بقي الحصان يركض ويركض ويركض حتى وقع ميتاً.. يحلو لي أن أكون ذلك الحصان.. بالمناسبة في هذه اللحظة أوشك أن أرى الثيران التي ستغرس قرونها في جسدي.
* من تقصد؟
– أقصد الصيغة.. في سوريا النظام يلقي بالموت على آمنين بإمكانياته الهائلة، يقابل ذلك معارضة تلقي الموت على المدينة ولكن بإمكانياتها الهزيلة، بالنتيجة أنت أما ثيران لن أهتف لأيّ منهما.. المعركة ليست معركتك مع أنك ستكون واحداً من ضحاياها.. هذا ليس حال الكتّاب أو العاملين في انتاج الفن أو الفكر فحسب.. لا .. هذا حال جميع السوريين الذين يحملون بطاطينهم على أكتافهم وينامون في العراء.. لا أظن أن ثمة واحد من ضحايا ما يحدث قد اختار ما يحدث.. كلهم مثلي، وكلهم أحصنة تركض حتى الهلاك بعد صراعها مع الثيران.
* أنت لم تنتم إلى المعارضة؟
– بالتاكيد لا.. ولم أتردد لحظة في خياري هذا، لا أظن أن معارضة من هذا الموديل يمكن أن تلحق الشرف بأيّ من المنتمين إليها.لا يمكن للنبيذ الرائع أن يخزّن في دنان قذرة.. لا يمكن لهكذا معارضات أن تحكل داخلها ناس شرفاء، وحين يكتشفون أنهم شرفاء يخرجون منها، تماماً كما حال النظام.. في الحالتين، هنالك حطب احتراق لكل منهما، حطب الاحتراق، لا يجوز أن يخضع لمعايير أخلاقية.. هو مجدر حطب احتراق وكفى.
* في كل آرائك، بما فيها تلك التي تكتبها على الفيس بوك، تميل للأحكام المطلقة.. إلى التعميم وهذا مأخذ عليك.. هل ترى موقفك مصيباً؟
– نعم أجده مصيباً، لا يمكن للنبيذ الرائع أن يخزّن في دنان قذرة.. لا يمكن لهكذا معارضات أن تحمل في أحشائها ناس شرفاء، وحين يكتشفون أنهم شرفاء يخرجون منها، تماماً كما حال النظام.. بالأمس شاهدت فيديو لشاب إسلامي، مراسل حربي اسمه هادي العبد الله، سحرني هذا الشاب.. دمه على كفه وزهده في عينيه.. مثل هذا الشاب الذي ينتمي إلى مشروع سياسي على التضاد مني، يسحرني، حتى أجد نفسي مدفوعاً للقول: “التقينا في نقطة ما.. نعم التقينا.. كلانا يعرف أن ثنائية سلطة/معارضة، باتت قطط مقابر تاكل في جثث الناس”. نعم هنالك شرفاء ومن كلا الطرفين ولكنهم ليسوا سوى حطب احتراق لكل منهما، حطب الاحتراق، لا يجوز أن يخضع لمعايير أخلاقية.. هو مجرد حطب احتراق وكفى.هذا ما آلت إليه المعارضات، ولكن هل كان هذا حالها من الأساس؟المعارضات الجدية.. فرسان هذه المعارضات، تآكلوا مرتين.. مرة في سجون النظام، وثانية في المعارضات الوارثة للنظام.. معارضات النفط، والسفارات، والبزنس، وعندما وصلت سوريا إلى الحراك الشعبي العظيم 2011 كان هؤلاء يمتلكون مفاتيح الإعلام، المال السياسي، منافذ السلاح.. هؤلاء القوادون من امتلك قرار المعارضات، وأظن أنني أعرفهم جيداً.. هؤلاء حالوا دون ولادة معارضات يمكن أن تنتمي إلى المستقبل، وفي الوقت نفسه ورثوا كل مخازي النظام، حين ابتدأت الوقائع السورية، ثمة لقاء حصل في بيتي، سأسرد لك ما حصل.. حكوا وحكوا وحكوا، بلغتهم التي تكررت خلال السنوات السبع، ثم طلب واحد مني أن أحكي.. امتنعت بداية عن إبداء أي رأي، وتحت وطأة الالحاح، أجبت بأن أيّ ثورة في التاريخ تستلزم بالإضافة إلى الرؤيا.. المنهج، تستلزم قيادات.. قيادات تشكّل قوّة مَثَلْ، ومن الأمثلة التي حضرتني مثالين:الأول، هو القيادي الذي لا تراه بنت إلاّ وتشتهي أن يكون أبيها، ومثاله مانديلا، غاندي وأوج آلان، والثاني قيادي لا تراه بنت إلاّ وتشتهيه عاشقاً، مثاله تشي غيفارا.كثيراً ماتركّز على البطل.. هل الشعوب تحتاج إلى أبطال؟نعم تحتاج، الفرد يعجّل أو يوجّل في حركة التاريخ.. في لحظة ما، لابد منه، من قوّة المثل، وحين تصاغ هويات الأمم، بالوسع الاستغناء عن الأبطال.عمر الأمة الكردية بعمر الجبال، متى كان للهوية الكردية مالها الآن؟ أظن أنها ما قبل أوجلان هي غير ما بعده، هنا سرّ الحكاية.
* في كلامك عن الأبطال الآباء، ذكرت مانديلا، غاندي، عبد الله أوجلان.. ما الذي يجمع الثلاثة؟
– لن أحكي لا في المنهج، ولا في السياسة، سأحكي بأمر آخر، ثلاثتهم يستثيرون فيك الخيال الروائي/ وهذا الخيال الذي يستثيرونه في الروائي هو كذلك يستثيرونه في شعوبهم، ومن هنا تتولد شخصية البطل الذي يعني قوّة المثل، وسأسألك: أنت كردي، وعمر الأمة الكردية بعمر الجبال، متى كان للهوية الكردية مالها الآن؟ أظن أنها ما قبل أوجلان هي غير ما بعده، هنا سرّ الحكاية.
* هلا تحدثت لنا أكثر عما دار بينكم وهل بقيت مع أوجلان أيام عدة كما تظهر الصور، فمرة في تدمر ومرة تتناولون الطعام في مكان آخر؟
– في لحظة ما، تجاوزت علاقتي بأوجلان علاقة صحفي بزعيم سياسي، هو مثّل بالنسبة لي روح المغامر، الواثق، بل الزعيم بكل ما للزعامة من توهج، وجدّد لي السؤال.. السؤال الذي يتجاوز السياسي إلى الوجودي، وأنا كسرت عزلته.. كان بحاجة لتداعيات إنسان عرف الحب.. الطفولة.. الأم، كان بحاجة لأن يكسر القائد ليتداعى كما طفل، وسأذكر لك قصة صغيرة، حين زارني في قريتي، اكتشف في ناسها ما يشبه ناس قريته.. البيئة.. لغة الناس.. ربما بساطتهم.. ما الذي حصل؟ ببساطة تحوّل إلى طفل يلهو، ترك مضيفيه، وجلس وراء نول لصناعة السجّاد، كان يلاعب ألوان الصوف والمغزل كما لو عازف صولو في أوركسترا.
* أنت التقيت اوجلان وكان لك كتاب معه.. ما نقطة الارتكاز التي اعتمدتها في هذا الكتاب؟
– السيرة الشخصية، ولكن لو تسنّى لي اللقاء به اليوم، لفتحت باباً آخر.. باب الرؤى وفلسفة أوجلان، أظن أنّ السجن منح هذا الرجل طاقة هائلة على التأمل ربما نجد جوهرها في مراجعات التجربة وفي مانفيستو الحضارة والديمقراطية “عصر الآلهة غير المقنّعة والملوك العراة”.
* كيف تتابع أوجلان الآن بعد ما يقارب العقدين من وجوده في الأسر؟
– أوجلان ليس سيرة يمكن أن تفتح وتغلق، أوجلان رائد من روّاد حركة التحرّر العالمي، ويوميات سجنه، ونتاجاته الفلسفية، وما آلت إليه تجربته وأفكاره تصلنا، مرة عن طريق كتبه، ومرة من رفاقه، وكذلك عبر صلاتي بمحاميه وهم أصدقاء، فوق ذلك أنا أبحث وأتابع وأتواصل.. لست وحدي من الكتّاب العرب من يفعل ذلك، منذ فترة ليست ببعيدة جرى اتصال بيني وبين هيثم المنّاع، كان هيثم يبحث في سيرة أوجلان لينتج كتاباً يشمل روّاداً من حركات التحرر العالمي ويخص بكتابه اثنان، مانديلا وأوج آلان.. كانت أسئلة هيثم التي وجهها لي، تشي برجل يبحث بروح لا الباحث فحسب، لا.. اكثر من ذلك، وجدته مسكون بالسؤال، غرت منه، وأنا أعلم أن هيثم من اكثر الشخصيات الحقوقية توازناً ودّقة في بحثه.. أودّ القول، أنني لست وحدي من انشغل بشخصية عبد الله أوج آلان.تحكي عن هيثم المناع.. لقد واجه هذا الرجل هجوماً قاسياً من المعارضات السورية!. طبيعي أن يهاجم هيثم من قبل هؤلاء.. هنالك استعصاء في فهم هؤلاء لأساسيات العمل الكفاحي.. أنا أرى، واظن ان هيثم يوافقني، أن من واجب المناضل النزيه، أن يوصّف صح، ويرغب كما يريد.. رغباتك ملكك، ولكن التوصيف ملك الوقائع والحياة.. بطبيعة الحال البيئة الغوغائية التي نمى فيها هؤلاء، لا تسمح لهم باستقبال هيثم بالترحيب.. عندي ألف ملاحظة على هيثم، ولكن من المعيب على أيّ منا أن يتنكر لكفاءة هيثم ونزاهة هيثم، وهذه شهادة نالها من معظم الشخصيات الموثوقة في مجال العمل بحقوق الانسان وأظن ان مانديلا كان واحداً من هؤلاء.. مرة ثانية، أنا لست من جمهور هيثم، ولا من جمهور أيّ كان.. لا .. بل لا أنتمي إلى أي جمهور، لن أكون سوى المفرد، بكل غلاظة المفرد، وكل نرجسية المفرد، وكل آلام ومعاناة المفرد، ولكن من حقي أن أوصف الحقائق كما هي الحقائق لا كما تمليه عليّ الرغبات.
* أنت تعلم أن كلامك هذا عن أوجلان سيفتح عليك نار جحيم المعارضات التي تعتبره انصالياً وإرهابيا و .. الخ من النعوتات؟
– طز.. وما الذي يغيّر في الأمر.. لو كان أوجلان إسلامياً.. لو كان من سدنة السلطان، لو كان عثمانياً لقبّلوا حذاءه.. أنا لا أتلقى لا أوامر ولا مواقف من السلطنة العثمانية وجماعة الإخوان، ثم من قال أن أوجلان انفصالي؟ من قال أن مشروع سوريا الديمقراطية يمكن أن يكون انفصالياً.. لن أناقش هذا الموضوع هنا، ولكنني أعلم وأثق أن سوريا وفق مشروع أوجلان ستكون سوريا للجميع.. تعال نبسّط الأمر قليلاً.. عندما نقول الجمهورية العربية السورية فهي ثلاث كلمات، ولكنها مختصرة على العرب فحسب، ما يعني استثناء كل القوميات والاثنيات السورية الأخرى وإلغاء سوريتهم، ولكن حين نقول الجمهورية السورية، نقول كلمتين، ولكنهما كلمتان تحتويان جميع سكّان البلاد.. هنالك ثرثرة لغوية بثلاث كلمات، ولكنها ثرثرة تخرج جزء من سكان البلاد من البلاد، وهنا كلمتين تحتضنان الجميع.. هل ثمة أسهل من تفهّم مثل هذا الكلام؟
* بما أنك تتابع سيرة أوجلان، وتعتبره شخصية تستثير الخيال الروائي، لم لا تكتبه كنص روائي؟
– لا أميل إلى هذا النوع من الأعمال الروائية، لا أرغب في الكتابة عن أبطال صنعوا أنفسهم، أحبّ أبطالي الذين هم من صناعتي.. من خيالي أنا.. أرغب في أن أسجّل كتاباً بمثابة تسجيل للتطورات اللاحقة على شخصية أوجلان، ومن موقع الصحفي لا الروائي. اثنان.. الطيب تيزيني وعبد العزيز الخيّر.. هؤلاء أبطالي في سوريا.
* اليوم أطلقت حكماً قاطعاً من أن لا جدوى من النظام ولا المعارضة.. إذن الى أين المآل؟
– شوف، في الطبيعة يحدث الطوفان، يدمّر ويخرب ويعبث، ثم يرتّب نفسه.. أنا أراهن على انتاج قوى جديدة من هذا الطوفان السوري، هذه القوى ستقيم قطيعة مع قوى الأمس، لسبب جوهري أن قوى الأمس بفسادها وضحالتها وانحطاطها الأخلاقي، وسوء إدارتها للصراع، لا تسمح بأن يراكم الناس على ما بنت هذه القوى.. إن ترميم فسادها أصعب بما لايقاس من إشادة بناء جديد.. إذا كان بمقدور الناس أن ينتجوا قواهم التي تمثلهم.. تمثل آلامهم وآمالهم وتطلعاتهم فقد ينجون من الهلاك، وإن لا، فليس علينا سوى ترديد ما يقوله الجزائريون.. الله غالب.
* هل هناك شخصيات معارضة في بلاد الشرق تلفت إنتباهك.. تجذبك.. او ربما قلت عنهم في سريرتك لو أجاد الزمن علينا بمن هم على شاكلتهم؟ من الأموات أم الأحياء؟
– لا.. من الأحياء. ليتك سألتني عن الأموات.. ولكن ما أودّ أن أقوله، أن الرهان على الأحياء هو رهان على الاحتمال، فمن هو اليوم وجدان وطني، قد يتحوّل في الغد إلى ما لا تحب.. ولكن لو اخترت نموذجي الوطني فأنا أختار اثنان: الطيب تيزيني، هذا العاقل، الذي لم يُهِن نزاهته يوماً، والذي رأى أعمق وأدّق من أي سوري آخر، وسأحيلك إلى حوار لي معه منشور عام 2000، أتعرف ما الذي قاله في ذلك التاريخ؟ قال جملة مازلت أسمعها بصوته: “فوق سقف الاندماج بالنظام، وتحت سقف التصادم مع النظام”، وكان يعني بالتصادم الاحتكام إلى السلاح.. الآن وأنا أقرأ ما قاله عام 2000 أعرف صوابية رؤيته، وسأضيف أن الرؤية الصائبة لا تعتمد على الحسابات الصائبة فحسب، بل تعتمد الضمير الصائب أيضاً، وها هو الطيب اليوم بين سندان السلطة ومطرقة المعارضة وقد أحالته المعارضة السافلة إلى هامش الحياة السياسية في البلاد.. هذا عن الشخصية الأولى.. الشخصية الثانية التي أرى فيها قوّة المثل عبد العزيز الخيّر.. عبد العزيز المناضل.. عبد العزيز الطبيب.. عبد العزيز السجين.. عبد العزيز المفكّر.. عبد العزيز الزاهد وعبد العزيز المغيّب، والذي ارتاح لغيابه طرفي الصراع.. ما من جائزة نالتها السلطة تساوي غياب عبدالعزيز.. ما من جائزة نالتها المعارضة تساوي غياب عبد العزيز.
* أنت هجرت الصحافة.. لماذا؟
– لا.. أنا لم أهجر الصحافة، ولكنني لن أكتب صحافة ذلك أنني لن أقبل بأن أخضع لأيّة اشتراطات، والصحف ستملي عليك اشتراطاتها.. اشتراطاتها في المواقف والرؤى، وحتى في اللغة.. لا أريد لنفسي أن أعوي مع أحد.. أرغب في العواء بمفردي وبصوتي.
* أنت لعبت دوراً مهماً في الصحافة..
– لا.. هذه كذبة، ما من أحد لعب دوراً مهماً في الصحافة.. الصحافة لا تمنحك سوى أن تكون مادة سائلة.. الصحافة خدمة زبون أو متعهد.. لست ممن يبحثون عن زبون، ولست ممن يقبلون جناح المتعهد أو ظله.
* أين أنت في الرواية الآن؟
– أنتظر صدور “انجيل زهرة”.
* ماذا تقول فيها؟
– فيها لعبة الوقت.. الوقت بما يعني ذلك الصراع القاتل ما بين زمنين.. الزمن الموضوعي ووحدة قياسه الرزنامة وساعة بيغ بن، ووقتك أنت، ذلك الرجل الذي يتلاشى تحت وطأة الأسئلة.. باختصار، انجيل زهرة، هي ذلك الحصان الذي قتله الثور.
* من هو الثور الذي تعنيه؟
– الثور هنا هو الوقت.. عن جد هو الوقت.
* بماذا تختلف عن رواياتك السابقة؟
– بطاقة الحريّة التي لا تحدّ فيها، كتبتها متحرّراً حتى من جاذبية الأرض، كنت أعزف وأنا أكتبها، نعم كنت أعزف ولا اكتب.. كنت هايدن إن شئت.. موتزارت.. فاغنر، وكنت متهتكاً إن شئت، وكنت زاهداً بكل ماللزهد من روعة.. وكنت عاهراً أيضاً.. هذه الرواية صنعتني مجدداً، اكتشفت فيها ما لم يكن بحسباني أن أكتشفه.متى ستصدر؟ لا اعرف على وجه الدقة.. هذه مسألة يحدّدها الناشر.. هي اختصاصه لا اختصاصي.طبعاً، وكالعادة في رواياتك.. المرأة أساس فيها.
* أكيد.. أي امرأة؟
– المرأة التي أزرعها لتحصدني.
* هل هي حقيقة؟
لا.. ما من امرأة حقيقة في رواية.. الرواية الحقيقية تجعلها حقيقة.. لا تصدّق أن ثمة أوفيليا ما قبل شكسبير.