نواف خليل
جاءت هجمات الحادي عشر من سبتمر عام 2001 م، بعد عقد من انهيار الاتحاد السوفياتي والمنظومة المرتبطة به، واعلان العالم الغربي انتصاره في الحرب الباردة التي دامت عشرات السنوات.
تلك الهجمات هزت العالم نتيجة قوتها ووحشيتها، وأدت إلى تعاطف شعبي ورسمي دولي غير مسبوق مع الاميركيين، وتضامن لا مثيل له مع الرئيس الامريكي جورج بوش الابن، الذي سيتحدث لاحقا بالتفصيل في مذكراته المعنونة ب “قرارات مصيرية”عن اللحظات العصيبة التي عاشها كرئيس للولايات المتحدة، وعن الاستعدادات الكبيرة التي تم الاعداد لها، سواء على الصعيد الداخلي أوالخارجي، وصولا لتلك اللحظة التي أمر بها بالتدخل العسكري في افغانستان، والاطاحة بنظام حركة (طالبان)، التي آوت منظمة “القاعدة”، ورفضت التخلي عنها، رغم اعلان هذه المنظمة تبني الهجمات الارهابية.
كان ذلك ايذاناً بعمل مراجعة امريكية لطريقة التعاطي مع جماعات الإسلام السياسي بمختلف أطيافها وتوجهاتها، وخاصة بعد الدعم الأميركي غير المسبوق للجماعات الجهادية الافغانية، من التي استقبل الرئيس الامريكي رونالد ريغن قادتها في البيت الابيض في 1985 م، وشاهد العالم كله اللقاء على الهواء مباشرة، وسمع ريغن وهو يقول عن ضيوفه الإسلاميين الأفغان: “انهم المعادل الأخلاقي للآباء المؤسسين لأميركا”!. وكان ريغان قد خصص في وقت سابق من عام 1982 م المكوك الفضائي كولومبيا لمن أسماهم “مقاتلي الحرية في أفغانستان”، منوها أنه إذا كان كولومبيا “يمثل أرقى طموحات الإنسان في مجال العلم والتكنولوجيا، فإن نضال الشعب الأفغاني يمثل أعلى تطلعات الإنسان للحرية “!.
لكن افغانستان لم تتحول للحرية وبناء المدنية، بل تحولت إلى منصة للهجوم على رموز القوة والحضارة الامريكية، وتحول من اطلق عليهم ريغان اسم “مقاتلي الحرية” الى “جماعات ارهابية”، و”حكومة مارقة تؤوي الارهابيين”، ولهذا كان التدخل والاطاحة بحكومة طالبان وفق العقيدة الجديدة التي يتحدث عنها جورج بوش الابن، والذي يقول انهم سيستهدفون الدول التي تقدم الدعم للارهاب، وليس فقط الارهابيين أنفسهم، في اشارة الى استهداف ادارة بيل كلينتون لتنظيم “القاعدة” في افغانستان، وإعادة النظر في طريقة التعاطي مع مختلف الجماعات الاسلامية حول العالم.
جاء الإعلان عن تأسيس حزب العدالة والتنمية التركي في 14 آب 2001 م، قبل أقل من شهر من هجمات 11 من سبتمر 2001 م. هذه الصدفة المحضة كانت فرصة كبيرة جداً كي يستثمرها قادة الحزب الجديد، وخاصة كل من رجب طيب أردوغان وعبد الله غول، لتقديم انفسهم للعالم كنموذج جديد للإسلام السياسي، والذي اطلقوا عليه صفة “المرن”، وبالتالي كمساهمين في الحرب على الارهاب بطرق غير عسكرية، في ظل الحملة الأميركية ضد الجماعات الجهادية، والبحث الأميركي الحثيث عن اساليب وطرق اعلامية وسياسية وتربوية ودينية، عبر القوة العسكرية، لمواجهة حركات الإسلام السياسي والتأثير في حاضناتها الاجتماعية بين ملايين المسلمين.
كان التوجه لتقديم الدعم لمن سيطلق عليهم استراتيجيون أميركيين لاحقا ب”الاسلاميين المعتدليين”، وخاصة بول وولفويتز نائب وزير الدفاع آنذاك، والذي يقول عنه جنكيز تشاندار في كتابه (قطار الرافدين السريع): انه “من أكثر شخصيات الادارة الامريكية قرباً من تركيا، وأكثرهم احتراماً لها. فهو يقدر تركيا اكثر من الجميع، ومقبول في أواساط الادارة الامريكية”. وولفويتز الذي كان له دوره في إسقاط حكومة ماركوس في الفلبين، وتحول هذا البلد للديمقراطية في عهد رونالد ريغن عام 1981 م، مما فتح امامه المجال لتعيينه سفيرا في إندونيسيا. وهناك بدأت تتشكل قناعة بول وولفويتز القوية حول إمكانية تعايش الاسلام السياسي مع الديمقراطية.
يصف وولفويتز عبد الرحمن وحيد، الرئيس الإندونيسي الإسلامي، بأنه “إنسان رائع. ما أردت قوله هو أنه قائد أكبر تنظيم إسلامي ومثال للتسامح . كيف لا تعجبون بإنسان كهذا”؟.
ويضيف تشاندار ان وولفويتز حدّثه باندفاع طفولي لساعات عديدة عن عبد الرحمن وحيد في تأكيد على فكرته وقناعته التي لا تشوبها شائبة حول امكانية تطبيق الديمقراطية من خلال هكذا شخصيات.
من جانب آخر، كان وولفوينز يرى بأن تركيا قدّمت له مثالاً أهمّ من إندونيسا، فهي “إضافة لكونها دولة إسلامية وديمقراطية علمانية، تقع فوق الفالق الزلزالي السياسي، وليست بعيدة عنه مثل إندونيسيا. فالشرق الاوسط على حدودها”.
فتح بول وولفويتز أبواب البيت الابيض أمام أردوغان، حين استقبل من قبل جورج دبليو بوش، رغم أن ذلك خصوصية لا يتمتع بها سوى قادة انكلترا واسرائيل، وذلك على الرغم من أن أردوغان كان محظوراً من ممارسة السياسة. كما أستقبل من قبل الرئيس الفرنسي جاك شيراك، ورؤساء حكومات أوروبية. كل ذلك وهو لا يزال رئيسا لحزب العدالة والتنمية، وليس له أي صفة رسمية في الدولة أو الحكومة. في وقت كان المدعي العام صبيح قناد أوغلو يلاحقه، وهو تحت تهديد الاعتقال والسجن.
وهذا ما يظهر مدى التعويل الكبير من وولفويتز على أردوغان وحزبه، والذي أراد له أن يصبح نموذجا للتعايش مع الديمقراطية، وبذلك ستكون لتركيا الريادة والقدرة على تقديم النموذج الذي سيحدّ من قدرة الجماعات الجهادية ويطعن في شرعيتها، من خلال تقديم نموذج لنظام حكم يمزج بين حكم علماني وحكومة اسلامية. وهي الرغبة/الرسالة التي سرعان ما تلقفها أردوغان وجماعته، لتوطيد ودعم وشرعنة نموذجهم للحكم. وبدا الترويج للنموذج التركي في “الإسلام المعتدل”، من خلال الاتباع في العالم العربي والاسلامي، عبر أذرع وشبكات جماعات الإخوان المسلمين، وتعدى ذلك لاحقاً إلى عموم العالم العربي. حتى قسم من المثقفين العلمانيين، وهناك من أعرفهم، كان مصدقاً لأردوغان ومقدّراً موقفنا ككرد منه (أقصد الإنخراط معه في مباحثات سلام لحلّ القضية الكردية) بوصف ذلك أمراً حميداً ومنح فرصة لأردوغان “الصادق في مساعيه الرامية في التوجه الديمقراطي وترسيخ دولة القانون، والحد من قوّة وسطوة العسكر”!.بدات تركيا الأردوغانية باستخدام “القوة الناعمة”، من خلال الترويج ل”النموذج”، من خلال المسلسلات المدبلجة والسياحة والتبشير في وسائل الاعلام التركية والعربية والدولية.
بقي التعويل على تركيا الأردوغانية، والتي كانت تزداد حضوراً في العالم العربي والإسلامي، حتى بدأ “الربيع العربي”، والذي اطاح بحكومات تونس ومصر وليبيا.
مصر التي كانت أولى محطة لأردوغان في دول “الربيع العربي”. ففي أيلول العام 2011 استقبلت القاهرة أردوغان شعبياً ورسمياً كرئيس وزراء تركيا، حيث نصح المصريين بالعمل على بناء دولة علمانية على النموذج التركي، لكنه في حقيقة الامر، كان يطلب من جماعة الاخوان المسلمين في مصر، التروّي وعدم التسرع في أسلمة/أخونة اجهزة الدولة، واتخاذ نموذجه في قضم مؤسسات الدولة والسيطرة عليها بشكل هادئ من خلال “القوة الناعمة” وأيضاً السيطرة على الإعلام والاقتصاد.
لقد توهّم أردوغان وأقنع الدول الغربية وأمريكا بإمكانية صعود جماعات الإسلام السياسي لاستلام دفّة القيادة والتغيير في العالم العربي والاسلامي على غرار “النموذج التركي”، لكنه سرعان ما كشف عن نواياه وحلمه بإعادة احياء الخلافة العثمانية بنسخة اردوغانية، وهو الذي صرّح في اجتماع جماهيري في تموز من العام 2012 م في مدينة اسكي شهير قائلا: “إن حزب العدالة والتنمية يحمِل في جُـذوره العميقة، إرث روح السَّلاجِـقة والعثمانيين”.
لكن الرياح لم تجري بما تشتهي سفن أردوغان، حيث سقط حكم الإخوان المسلمين في مصر في الثالث من يوليو 2013 م، واعتبر ذلك بداية الضربة القوية للنموذج الأردوغاني. الضربة التي لا يريد أردوغان أن يقبل نتائجها. فهو يستضيف جميع التيارات المعادية للحكومة المصرية، ومعه إمارة قطر. حيث يعمل الطرفان، بكل ما يملكناه من إمكانيات مادية ضخمة وامبراطورية إعلامية، على إعادة عجلة التاريخ للوراء، وإسقاط الدولة المصرية، واسترجاع حكم الإخوان.
لقد سقط مشروع التعويل على أردوغان وحزبه، و”النموذج” الذي كان منتظرا، ليس في الخارج فقط بل الى حد معقول في الداخل أيضا. فأردوغان يستمر في خوض حرب الابادة السياسية والعسكرية ضد الكرد، من خلال اعتقال البرلمانيين ورؤساء البلديات وتعيين “وكلاء” من الحزب الحاكم ليديروا البلديات المنتخبة ديمقراطياً، واستمرار عزل القائد الكردي أوجلان، والاصرار على إبقاء القيادي صلاح الدين دمرتاش في السجن، والذي كان أحد المشاركين في عملية السلام، والتي أطاح بها أردوغان بعد اللقاء الذي تم في قصر (دولمه بخجه) والذي جمع بين قياديين من حزب الشعوب الديمقراطي ويالجين آكدوغان نائب رئيس الوزراء التركي آنذاك في تموز من عام 2015 م. لقد رفض أردوغان السلام وحل القضية الكردية، واضعاً مخطط الحروب والفوضى نصب عينيه، كوسيلة للبقاء في السلطة، وحماية نفسه وعائلته من الدعاوي المقامة والتحقيقات المستمرة ضدهم بتهم الفساد والتربح ودعم الجهاديين.
أردوغان نجح لاكثر من عقد في خداع ملايين الأتراك، وقسم من الكرد في الداخل والخارج، حيث عوّل عليه البعض مثل بول وولفوينز، لكنّه في النهاية لم ولن يخرج عن جلده وتوجهه السياسي المتمثل في قيادة جماعات الإسلام السياسي، وحتى الجهادي، في سبيل تحقيق طموحه في تحويل تركيا من “دولة علمانية أتاتوركية” إلى “دولة إسلامية أردوغانية”، ولهذا يواصل التدخل المستشرس داخلياً وخارجياً، ويسارع الخطى لتحقيق أحلامه التوسعية، قبل الاحتفال بمئوية الجمهورية التركية، أي الانتهاء من الكمالية والاحتفاء بالأردوغانية القادمة، مخيّباً بذلك آمال العالم الغربي، وكلّ من وثق به لعقد من الزمن. هذا العقد الذي كلّف المنطقة كثيراً، وكان متوحّشاً ودمويّاً، دفعت فيه الشعوب أثماناً باهظة، وفي المقدمة الشعب الكردي، الذي لم تنل منه عقود من الاتاتوركية والإبادات والإنكار، ولن تنل منه ومن توقه للحرّية، الأردوغانية، بنسختيها القوموية والاسلاموية الأكثر إجراماً ودموية.
كنت ولا زلت وسأبقى معوّلاً على الحوار والمفاوضات، فتركيا التي توعدت الكرد بأنها ستقضي على تلك “المجموعة الصغيرة” من الثوار، التي أعلنت الكفاح المسلح في 15 من آب 1984م، من خلال استخدام القوة وفي مدة أقصاها 72 ساعة فقط، ها هي تخوض معاركها السياسية والعسكرية بعد 36 عاماً من تلك الانطلاقة، التي لم تكن محصورة فقط في العمل العسكري، بل شملت كافة المجالات السياسية والعسكرية والثقافية، وبات الحديث عن الكردي الذي لا يخشى طغيان وجبروت القوة العنيفة لدولة بكل هذا الميراث الدموي. وبات الكرد، وفي كل ولايات شمال كردستان مسيطرين، ينتخبون ممثليهم، ولهم نوّاب في البرلمان، ويديرون شؤونهم الحياتية من خلال البلديات، رغم كل الاعتقالات، وسياسة تعيين الوكلاء على بلدياتهم، بعد مصادرتها من رؤسائها ومسؤوليها المنتخبين.
واخيراً: لو أن هناك عقلاء في الدولة التركية وضمن حزب العدالة والتنمية، لاختاروا المفاوضات لإنهاء قرن من الحروب والمظالم التي ترتكب بحق الشعب الكردي، ولاختاروا أن تكون كردستان عمقاً استراتيجياً، وأعادوا ترتيب الأوراق من الداخل، كي تكون “صفر مشاكل” في الداخل، كمقدمة ل”صفر مشاكل” في الخارج، وإلّا فإنّ المعادلة ستكون قريبة من الصفر في الداخل والخارج على حدّ سواء.