الخطر الكبير الكامن في “مدنيي” داعش!

نواف خليل*

يتابع العالم يوميا المعركة التي تخوضها قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من تحالف دولي واسع بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ضد المعقل الأخير لتنظيم “داعش” الإرهابي. وثمة تغطية إعلامية واسعة للمعركة، تقوم بها وسائل إعلام كردية وعربية وعالمية، وجميعها موجودة في خضم سباق مهني محموم للحصول على الخبر الأفضل، وإيضاح حقيقة وجوهر “الشخصية الداعشية” سواء كانت هذه الشخصية رجلا أو امرأة، أو طفلا صغيرا مليئا بالكراهية والرغبة في الانتقام والقتل!

ما لم يلتفت إليه العالم، أو ما غاب عن التحليلات في الشأن الداعشي، هو ظهور بعض مما كان يجري في العالم السفلي لـ”داعش”، والقوة الهائلة المطعمة بالأمر الديني والإيديولوجية القتالية في غسل الدماغ ومسح الكينونة السابقة، وصنع “الكادر الداعشي” المخلص المستعد للموت في أي لحظة من أجل دولة الخلافة المزعومة.

من يتابع اللقاءات التي تجريها وسائل الإعلام الكردية والعربية من الأطفال والنساء الدواعش، سوف يصطدم بما صنعه “داعش” في بشر قتل أهلهم وخرّب مناطقهم، وحولوهم أنفسهم إلى سبايا وعبيد. رأينا اللقاء مع الأطفال الإيزيديين الأحد عشر، من الذين حررتهم قوات سوريا الديمقراطية. هؤلاء نسوا دينهم وقوميتهم، وصاروا يمجدون التنظيم الذي قتل أهلهم ودمر قراهم. هؤلاء تم تحويلهم إلى متعصبين موالين لمقاتلي “داعش”، كارهين لكل البشر، فأحدهم قال لمدير قناة (كردستان 24): “سأحبك فقط إذا كنت مؤمنا جيدا”. وشاهدنا لقاءات أخرى منها مع امرأة تحدثت لفضائية (الآن)، قالت بثقة ويقين ردا على سؤال عن سبب خروجهن من بلدة الباغوز: “إنهن خرجن بناء على أوامر أمير المؤمنين أبوبكر البغدادي الحسيني القرشي حفظه الله، كي يعود أزواجهن إلى القتال ويتمكنوا من إحكام شرع الله”!.

بعدها، شاهدنا عددا آخرا من اللقاءات التي أجرتها وسائل الإعلام مع نساء من “داعش”، حيث أظهرن رباطة جأش وإصرار على الانتماء علنا للتنظيم، بعكس الرجال الذين استسلموا وأنكروا أي ارتباط بالتنظيم كالمشاركة في الاعمال القتالية.

ثم كرّت المسبحة، وشاهدنا لقاءات أخرى مع أولئك النسوة، وهن يتحدثن بقناعة وإيمان تام عن عودة الخلافة الداعشية، رغم كل ما كن عليه من ضعف ووهن وجوع، وهو ما يظهر ما وصلن اليه نتيجة المنهجية التي اتبعها “داعش” لسنوات طويلة فيما تسمى بالعملية التعليمية والإعلامية من خلال الدورات التعليمية والقتالية في المراكز والمساجد والمدارس والمعاهد الدينية المنتشرة في كافة مناطق سيطرة التنظيم والتي كان يبلغ عدد سكانها 8 ملايين موزعين في رقعة جغرافية ناهزت مساحة بريطانيا.

لقد قمتٌ بزيارات عديدة الى المنطقة الشمالية الشرقية في سوريا، وذهبت إلى السجون التي تم حجز الدواعش فيها، وهم كانوا مئات المسلحين وذلك قبل الحملة الأخيرة. هؤلاء مسجونون ومراقبون بشكل دقيق وصارم، لكن الخطر الأكبر يكمن في المخيمات، حيث ألوف النساء الداعشيات، واطفالهن الصغار الذين يكبرون مع نفس الأفكار المتطرفة ونفس ثقافة الموت والكراهية. لقد شاهدت تلك المخيمات، وكيف تفرض فيها النساء الجهاديات سطوتهن على جميع النسوة، ولهذا فمن نافل القول إن الأطفال الصغار سيستمرون في تلقي التربية الداعشية من أمهاتهم، وسيكبرون وهم يحلمون بحكم العالم عبر قتل البشر وتخريب مناطقهم.

الخطر الاعظم لا يأتي فقط من النسوة المشبعات بالفكر الذي لا يعرف حدودا للتطرف وتسويغ قتل البشر، إنما يأتي من بقاء الأطفال الصغار معهن. يجب التفكير مليا في هذا المسألة وتحرير الأطفال الأبرياء من تلقين ثقافة “داعش”. هذا الأمر يتطلب مساعدة عاجلة من المجتمع الدولي.

في الدول الأوروبية، تتدخل الجهات المسؤولة إذا ما أقدم أحد أفراد العائلة، وغالبا الأب أو الأم، في التعدي على حقوق أطفالهم، وهو ما يمكن تطبيقه في مناطق فيدرالية شمال سوريا، من خلال محاكمة النساء اللواتي ينتمين إلى “داعش” بسبب المخاطر التي عرّضوا أطفالهن إليها، ومنها مخاطر القتل في المعارك وتشويه نفسياتهم من خلال تلقين الكراهية والإرهاب وتحريضهم على الآخرين. نحتاج إلى محاكمات، وبرامج علمية مختصة لمساعدة الأطفال الصغار وتأهيلهم. ويمكن للقوى الدولية التي تشكل التحالف الدولي تقديم المساعدة الضرورية، لافتقار الإدارة إلى القدرات البشرية والمادية للقيام بذلك.

لقد شاهدتٌ، كما شاهد آخرون، الصور ومقاطع الفيديو التي التقطها الأصدقاء في جبهة الباغوز، حينما يبدأ طفل صغير برفع الآذان، ليبدأ عدد من الاطفال بالتوجه للجلوس خلف المؤذن والاستعداد للصلاة. بعض الاطفال الذين شاهدناهم ربما لا يتجاوز أعمارهم الثلاثة أعوام.

قدر المرصد السوري لحقوق الانسان عدد الذين خرجوا من الباغوز حتى الآن بـ”أكثر من 57 ألف من المدنيين، وعوائل التنظيم وعناصره، الذين خرجوا من جيب التنظيم، ومن المزارع ووصلوا لمناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية والتحالف الدولي، من ضمنهم أكثر من 6 آلاف من عناصر التنظيم”.

إن المخاطر المحدقة بالمنطقة والعالم بعد النصر المرتقب على “داعش” والتخلص من وجوده في أرض محددة، تتعاظم مع تدفق الأعداد الكبيرة من المسلحين الدواعش المستسلمين، ورفض بلدانهم استقبالهم وتهربها من مسؤولياتها إزاء مواطنيها، وكذلك عدم رد وتفاعل هذه البلدان مع مقترح قدمته الإدارة الذاتية، بإقامة محكمة دولية على غرار محكمة نورنبورغ، لمحاكمة كل المنتمين لـ”داعش” على ما ارتكبوه من جرائم ضد البشرية، ومن ثم نقلهم لبلدانهم لقضاء الاحكام الصادرة بحقهم.

إن التأخر في إيجاد حلول عاجلة لنساء وأطفال “داعش”، سيزيد من خطورة الأوضاع، ولهذا ثمة حاجة ماسة لخلق مؤسسات مختصة في علم النفس والاجتماع، وإرسال مختصين في الدين الإسلامي لإعادة تأهيل الصغار، وعدم إبقاء هؤلاء في حالتهم الحالية ينهلون من التطرف والكراهية، ممجدين الإرهاب والجرائم المهولة ضد البشرية. نحتاج إلى خطة تربية وتأهيل تساهم في محو “داعش” وإرثه من أذهان هؤلاء الأطفال والنساء، وتمنع مواصلة هؤلاء الحياة هكذا على النهج والتربية المتطرفة، وبالتالي مجيء يوم ينجحوا فيه في تكوين أشكال جديدة من التنظيمات الإرهابية، التي ربما تكون أشد خطورة وفتكا من “داعش” نفسها.

—-

*نواف خليل: مدير المركز الكردي للدراسات بمدينة “بوخوم” الألمانية.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد