هل انسحاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من الاتفاق النووي مع إيران يعني انهيار الاتفاق تماما؟ أو بالأحرى.. هل يكون انسحاب “ترامب” مقدمة لإعلان دول أوروبا المشاركة في الاتفاق انسحابها هي الأخرى نزولا على رغبة الرئيس الأمريكي؟ كانت تلك هي الأسئلة التي جالت في أذهان الكثير من المحللين والمراقبين لشؤون الشرق الأوسط بعد لحظات من إعلان “ترامب” انسحابه من الاتفاق النووي الذي يعتبره “الأسوأ” في التاريخ، رغم أن دول أوروبا والأمم المتحدة حذرتاه أولا من هذا الأمر وطلبا بديلا يمكن اللجوء إليه إذا كان يرغب فعلا في الانسحاب من الاتفاق، لكن على أي حال.. حدث ما حدث ولم يعد هناك مجال للرجعة، فالرئيس الأمريكي الذي يأتي للمرة الأولى من خارج دوائر صنع القرار السياسي وأثار جدلا كبيرا منذ تولى السلطة، نفذ ما عزم عليه وتعهد به منذ اللحظة الأولى، وهو ما يفتح الباب أمام تساؤلات لا تحصى حول السيناريوهات المتوقعة لما بعد الانسحاب الأمريكي.
– انقسام أمريكي أوروبي:
السيناريو الأول الذي يطرح نفسه بقوة هو أن يحدث انقسام بين الولايات المتحدة وأوروبا، فالدول الأوروبية لا تريد أن تضيع 21 شهرا من المفاوضات خلال عامي 2013 و2014 من أجل التوصل إلى اتفاق مع إيران هباءً. الفكرة الرئيسية هنا، بحسب ما تشير صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية، هي أن إيران لن تخوض المعركة مباشرة في مواجهة الولايات المتحدة وتعلن نقض الاتفاق والخروج في حرب ضد المصالح الأوروبية والأمريكية، فهي في هذه الحالة ستلجأ إلى لعب دور المستضعف في الأزمة، أي أنها ستلجأ إلى الدول الأخرى التي وقعت على الاتفاق النووي، وإلى روسيا والصين اللتان تساندانها بالفعل، وحينها ستطلب اتفاقا تعويضيا يعوضها عن العقوبات الأمريكية الجديدة في مقابل الإبقاء على الاتفاق مع الدول الأوروبية فقط. وهنا سيجد الاتحاد الأوروبي نفسه في مواجهة أكبر معضلة في تاريخه، حيث إن المفوضة الأوروبية فيدريكا موغيريني مؤيدة قوية للاتفاق النووي، ولكنها ستكون بلا أي سلطة ولا صلاحيات إذا كان لقادة بريطانيا وفرنسا وألمانيا رأي آخر في شأن الاتفاق النووي، أو إذا لم تتوصل الدول الثلاث إلى اتفاق مشترك فيما بينما. بمعنى أوضح، هل يمكن لقادة ألمانيا وبريطانيا وفرنسا اتخاذ قرار مستقل يتخدى قرار الولايات المتحدة؟ وهل في وسع الدول الثلاث الدخول في مفاوضات لإبرام اتفاق جديد مع الإيرانيين دون موافقة الأمريكان، أم أنهم سيقعون أسرى لقرارات “ترامب” وإدارته؟
هذه اللحظة، بحسب “هآرتس”، ستكون حاسمة للدول الأوروبية الرئيسية، فالسؤال الآن.. هل سيعارض هؤلاء القادة سياساتهم التي تبنوها بأنفسهم على مدار السنوات الماضية؟ أم أنهم سيذهبون ببلادهم إلى صدع رهيب في العلاقات مع الولايات المتحدة؟ وهناك مسألة ثالثة يجب حسمها، إذا قررت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الالتزام بالاتفاق النووي، حينها ستجد رئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماي نفسها في مواجهة أزمة أخرى، فأي علاقات أقل أهمية ستضحي بها؟ هل تتخلى عن علاقاتها مع فرنسا وألمانيا.. أم تتخلى عن علاقاتها مع الولايات المتحدة؟
هنا في هذا السيناريو أيضا، لا تتعلق الأزمة بالتداعيات السياسية فقط، فهناك مسألة أخرى لا بد من وضعها في الاعتبار، هي أن أي صدع في العلاقات الأمريكية الأوروبية من شأنه أن يؤثر على حلف شمال الأطلسي (ناتو) واستقراره، وهو ما يعني بالتالي أنه سيكون من مصلحة إيران أن تعلن تمسكها بالاتفاق النووي رغم انسحاب “واشنطن”، حتى تجد الولايات المتحدة وأوروبا أنفسها في مواجهة معضلة لها تداعيات سلبية مهما كانت الاختيارات، وهو ما سيصب في النهاية لصالح إيران وروسيا والصين.
– إيران تستأنف تخصيب اليورانيوم رمزيا:
الآن باتت إيران في انتظار الرد الأوروبي ومدى استجابته لضغوط “ترامب” للانسحاب من الاتفاق النووي، فهذا الرد سيكون حاسما إلى جانب مدى قوة العقوبات الجديدة المفروضة على إيران، في تقدير رد فعل نظام “آية الله” في “طهران”، فمثلا يمكن أن تقرر إيران أن تعود إلى تهديداتها بالانسحاب من الاتفاق النووي لكنها لا تنسحب منه رسميا حتى لا تفقد مليارات الدولارات التي حصلت عليها مع تخفيف العقوبات، وربما بإمكانها أيضا أن تنسحب تماما من الاتفاق، لكنها على أي حال لن تغامر في البداية وستلجأ أولا إلى المراوغة والبحث عن حلول وسط. وهناك وسائل أخرى في يد إيران للضغط، بحسب ما يشير إليه المحلل والصحافي الإسرائيلي آنشيل بيرر، حيث يقول إنه بإمكان إيران أن تعود لتخصيب اليوارنيوم بنفس المستويات التي كانت تقوم بها في السابق قبل إبرام الاتفاق النووي، أو أنها ربما تعمل على إعادة تشغيل المفاعلات التي تم تخفيض نشاطها بفعل الاتفاق، وهذا لا يعني أن إيران تعلن انسحابها من الاتفاق النووي، حيث ستلجأ “طهران” إلى حجة أن الولايات المتحدة هي من نقض الاتفاق أولا، وستؤكد أن تخصيب اليورانيوم لا يتم بالمستويات التي تنتهي بصناعة الأسلحة النووية، وأنها لا تزال ملتزمة بالاتفاق النووي وباتفاقية نزع السلاح النووي والاستخدام السلمي للطاقة النووية.
هذا السيناريو لا يعني بالضرورة أن يوشك الوضع على الانفجار كما كان في السابق قبل إتمام الاتفاق النووي، فبكل سهولة يمكن أن تكون هذه ورقة مقايضة في أيدي الإيرانيين ضد أوروبا لإجبارهم على الالتزام بالاتفاق النووي، بل إنها قد تصل إلى حد أنها تجعل الجميع يتوقف ليفكر قليلا في مآلات وتداعيات ما قام به “ترامب”، وسيكون أمام الجميع فرصة للتراجع عن حافة الهاوية التي وصلت إليها التيارات المتشددة في كل من إيران والإدارة الأمريكية.
في نفس الوقت، هناك عنصر آخر حاسم في هذا السيناريو، وهو الحرس الثوري الإيراني وفيلق القدس الذي يعمل في سوريا ولبنان، فوفقا لمزاعم أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، تعمل “طهران” منذ أسابيع على توجيه ضربة انتقامية ضد أهداف إسرائيلية بعد الغارات الإسرائيلية التي استهدفت قواعد إيرانية في سوريا على مدار الأسابيع الماضية. وعلى الرغم من أن هناك حرب في الظل تجري بين إيران وإسرائيل على أرض سوريا، وبينما هذه الحرب تبدو صراع منفصل، فإن الواقع يؤكد أن أي تغيير على جبهة الاتفاق النووي الإيراني سيغزي الصراع بين كل الأطراف. وإذا حدث فعلا وشنت “طهران” هجوما انتقاميا على إسرائيل، فإنه من المستحيل التنبؤ بكيفية رد إدارة “ترامب” ومدى العقوبات التي يمكن أن تفرضها، وكذلك من الصعب التنبؤ برد فعل الأوروبيين.
– الجميع على حافة الهاوية:
حين تم توقيع الاتفاق النووي، كان التأكيد دوما على أن هذا الاتفاق تم توقيعه تجنبا لاندلاع حرب على الرغم من أن الاتفاق غير مرضٍ، وهو ما أعلن عنه الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، لكن الحقيقة هي أن أحدا لم يكن يصدق أبدا أن “أوباما” سيجند قواته العسكرية للروج في حرب ضد إيران، وفي الجانب المقابل ورغم تأكيدات “طهران” على حقوقها في استخدام الطاقة النووية، فإنها كانت على استعداد للتنازل عن جزء من هذا الحق في مقابل رفع العقوبات. الآن، وبعد عام على انتخاب “ترامب”، تغيرت نظرة طرفي المعادلة كثيرا، والسؤال الآن هو إلى أي حد بات الطرفان على استعداد للمزايدة بشكل أكبر؟ بمعنى آخر، سيكون العالم أمام سباق من ردات الفعل المتواصلة دون أي حدود أو قيود، وحينها ستجد إيران وكوريا الشمالية أنفسهما قادرتين على تطوير السلاح النووي دون أي عوائق، وهذا يعني أن العالم سيكون على شفا حرب جديد لا مفر منها، وستكون هناك دول عدة ضحية لهذه الحرب، أبرزها المملكة العربية السعودية وسوريا ولبنان وإسرائيل.
إن هذا السيناريو، بحسب ما تشير إليه صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية، لا يزال بعيدا إلى حد ما، ولكنه رغم ذلك خيار مطروح متوقف على مدى استجابة “طهران” والجانب الأوروبي للقرار الامريكي.
– حرب العصابات والوكلاء:
في عام 2014، حين سقطت أغلب محافظات العراق في أيدي تنظيم “داعش” الإرهابي، كانت إيران أول من أسرع بتجهيز وتسليح ودعم الحكومة العراقية ودربت الآلاف من المقاتلين الشيعة تحت اسم “قوات الحشد الشعبي” التي باتت من أهم القوى السياسية والعسكرية في العراق، وهذا يعني أنه بإمكان إيران استخدام قوات الحشد الشعبي التي تسعى بالأساس إلى إجبار اللايات المتحدة على مغادرة الأراضي العراقية، لتنفيذ هجمات ضد القوات الأمريكية المتمركزة في العراق. وهذا السيناريو له العديد من الجوانب التي يمكن اللجوء إليها دون أن تكون إيران متورطة بشكل مباشر، فمثلا يمكن أن تكون قذيفة هاون أو صاروخ أو قنبلة على أحد جانبي الطريق، وبالتالي لن يكون هذا مرتبطا بالحشد الشعبي ولا بإيران، وستكون “طهران” قادرة على التبرؤ من هذه الهجمات ما دام لا يوجد أي دليل على ارتباطها بها.
وبحسب وكالة أنباء “رويترز”، فإن سوريا هي الأخرى ملعب يمكن أن تلجأ إليه إيران للرد على القرارات الأمريكية، ولدى إيران ميليشيات شيعية في سوريا قوامها يزيد على 80 ألف مقاتل، يمكن اللجوء إليهم في هذه الحالة، حيث يمكن من خلالهم استهداف إسرائيل للمرة الأولى منذ بداية النزاع في سوريا، كما أنه بإمكان إيران وميليشياتها التابعة في سوريا استهداف ما يزيد على 2000 مقاتل أمريكي موجودين في شمال وشرق سوريا لدعم القوات الكردية.
كذلك يمكن لـ”طهران” اللجوء إلى ميليشياتها في لبنان وفي اليمن للضغط على أوروبا والولايات المتحدة، من خلال حروب عصابات عبر وكلائها في منطقة الشرق الأوسط، وبما أنها حرب عصابات ووكلاء، فلن يكون هناك دليل واحد يمكن اتهام إيران بأنها وراء هذه الهجمات في أي دولة.
إن السيناريوهات المطروحة أمام الجميع لا تبشر بالخير وتهدد بتحول العالم وتغيره في إطار تغييرات تعصف بمنطقة الشرق الأوسط بأكملها على مدار السنوات السبع الماضية، وهو ما يتطلب من الجميع الالتزام بالهدوء والتوقف قليلا للتفكير في مآلات وتداعيات تحركاتهم، فهل تكون القوى الكبرى على قدر المسؤولية؟ أم أن حمى “ترامب” والتصرفات المرتبكة والقرارات السريعة انتشرت في أنحاء العالم؟
ترجمة: المركز الكردي للدراسات