في الاقتصاد والسياسة.. هزيمة “إسطنبول” تنهي حلم “أردوغان”

عبدالعزيز الشرفي*

انتهى الأمر ولم يعد هناك مجالا للنقاش، فكل المحاولات التي أجراها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للاحتفاظ بـ”إسطنبول” باءت بالفشل، بل وتسبب في مزيد من تراجع الشعبية بالنسبة إليه ولحزبه، وبعد أن كان الفارق 13 ألف صوت فقط، تجاوز الفارق في انتخابات الإعادة على منصب رئيس بلدية “إسطنبول” 750 ألف صوت. هكذا، بات وجه تركيا كما عرفها العالم على مدار السنوات القليلة الماضية بكل تخباطاتها وتأرجحاتها بين التحالفات هنا وهناك، على وشك التغير، بشهادة المحللين ووسائل الإعلام والصحف العالمية.

لم تكد تخلو صحيفة واحدة على مستوى العالم من عبارات تشير إلى الهزيمة المزلة التي تعرض لها “أردوغان”، بعد أن حول الانتخابات على مقعد البلدية إلى استفتاء على شخصه، بل وأدخل الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي طرفا فيها وكأن مرشح المعارضة أكرم إمام أوغلو يعمل لصالح الرئيس المصري. في صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية، كان العنوان هو أن الهزيمة المزلة التي تعرض لها مرشح “أردوغان” رئيس وزرائه السابق بن علي يلدريم، ما هي إلا “رسالة توبيخ” أرسلها الشعب التركي إلى رئيسه تترجم حالة الغضب المتزايدة تجاه الكارثة الاقتصادية التي تمر بها تركيا تحت حكمه.

في استشراف المستقبل، حتى دوائر الحكم وصنع القرار الاقتصادي لم يعد لديها ثقة في الرئيس الحالي، بل إنها تتطلع إلى إمكانية تولي حزب آخر زمام الأمور، خصوصا في ظل اعتماد “أردوغان” على استيراد السلع والاقتراض بالعملات الأجنبية، ما أدى لمزيد من الأعباء على الاقتصاد التركي الذي يعاني بالأساس، وبالتالي انتقال تلك الأعباء إلى كاهل المواطن.

تعد “إسطنبول” أكبر مدن تركيا وقلبها الاقتصادي، وتمثل 31٪ من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2017، وهي محرك مهم لشبكات الرعاية الحكومية غير الرسمية. وتقول صحيفة “جارديان” البريطانية إن حالة عدم اليقين بشأن مصير “إسطنبول”، التي تعد مركز المال والأعمال في تركيا، والتأخيرات المحتملة في الإصلاحات الاقتصادية، قد أبقت الأسواق المالية على حافة الهاوية. وبالتالي، فإن فقدانها سيكون له عظيم الأثر على سياسات الرئيس التركي، حتى وإن لم يبدُ هذا الأثر على المدى القصير وتأخر ظهوره.

“نيويورك تايمز” شبهت “أردوغان” بالرياضيين الذين أفرطوا في الاعتماد على المنشطات، كما اعتاد هو الاعتماد على القروض، من أجل تحقيق أرقام قياسية، لكن هذه الأرقام جاءت بالسلب على كاهل الشركات التركية التي باتت مثقلة بالديون لدرجة أثارت المخاوف من عجزها عن سداد الديون المستحقة،ـ بالإضافة إلى تهريب المستثمرين أموالهم خارج البلاد، ما أفقد الليرة التركية أكثر من 40% من قيمتها أمام الدولار الأمريكي وارتفاع معدلات التضخم لتستقر عند معدل سنوي يبلغ 19%، مثقلة كاهل المواطنين والشركات على حد سواء.أما خبير الأسواق الناشئة في معهد “أوكسفورد إيكنومكس”، فقال: “تشهد تركيا نسبا مرتفعة جدا من التضخم، تتزامن مع تدني الأجور، أفقدت المواطنين ثقتهم في العملة المحلية، ومن ثم التفكير في إدخار أموالهم عوضا على إنفاقها، وهو ما يعني أنالاقتصاد التركي بات حبيس خيارين، إما خفض الفائدة بغية جذب الاستثمارات، وهو ما قد يسبب تراجعا إضافيا في قيمة العملة المحلية ومن ثم مواجهة مزيد من الارتفاع في معدلات التضخم، أو الإبقاء على المعدلات المرتفعة كما هي والمخاطرة بجعل الاقتراض أكثر تكلفة على الشركات والمستهلكين وتراجع في مبيعات السيارات والنشاط الاقتصادي بشكل عام”.

على المستوى السياسي، تعد تلك النتيجة  التي انتهت إليها انتخابات الإعادة على منصب رئيس بلدية إسطنبول، بمثابة هزيمة مزلة تنتزع من “أردوغان” السيطرة على أكبر مدينة في تركيا، وتنهي هيمنة حزبه التي دامت 25 عامًا هناك، ويقول المعارضون إن مثل هذه الخسارة تقضي على هيبة الرئيس التي لا تقهر، ما يدل على قرب انتهاء سيطرته على السلطة بعد 16 عامًا من الحكمالمتواصل”.

تلك الهزيمة، على المستوى السياسي، تتزامن مع الأزمة التي تمر بها علاقة الرئيس التركي مع الولايات المتحدة على خلفية قضايا متعددة آخرها صفقة شراء منظومة الدفاع الجوي الروسية S400التي تصر “أنقرة” على إتمامها رغم اعتراض “واشنطن” وحلفاء “الناتو”. هذه النقطة تحديدا تشير إليها صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية أيضا، حيث تؤكد أن نتيجة الانتخابات “ضربة قوية” على وجه الرئيس التركي، والسبب الرئيسي في ذلك ليس لأنها تنتزع البلدية التي سيطر عليها لأعوام طويلة فقط، بل لأن إصراره على إعادة الانتخابات بحجج واهية تسبب في تراجع شعبيته وأدى إلى كسر هالة الزعيم الذي لا يُقهر.

تلك النتيجة التي انتهت إليها الانتخابات، تفتح بالتأكيد فصلا جديدا في السياسة التركية، حيث باتت المعارضة الآن تسيطر على أكبر 3 مدن في البلاد، وهو ما ينذر بحدوث تصدعات داخل حزب “العدالة والتنمية” الحاكم، خصوصا في ظل رفض رئيس الوزراء التركي السابق وزير الخارجية الأسبق أحمد داود أوغلو صاحب سياسة “صفر مشاكل” النزعة الاستبدادية التي تحول إليها “أردوغان” والتي دفعت بالخلافات بينه وبين الرئيس التركي إلى الواجهة، ما أدى في النهاية إلى مغادرته منصبه، ومن بعدها توالت الانتقادات التي وجهها “داود أوغلو” إلى سياسة الرئيس الاستبدادية.

إذا صدقت تنبؤات بعض المحللين بشأن حدوث تصدعات في الحزب الحاكم، فإن ذلك قد ينتج عنه تعديل وزاري وتعديلات في السياسة الخارجية، وربما ينتهي إلى إجراء انتخابات عامة مبكرة قبل عام 2023. صحيفة “تليجراف” البريطانية تقول إن هذه النتائج بمثابة “إحراج كبير” للرئيس التركي، سينتهي بالتأكيد إلى إضعاف “أردوغان” تدريجيا بأن يضعف قبضته الحديدية على السلطة.

ما هو على المحك الآن ليس مستقبل هيمنة حزب العدالة والتنمية فقط، وإنما أيضا مستقبل التحالف مع حزب الحركة القومية (MHP)، وقد يكون أحد الاستنتاجات التي سيتوصل إليها “أردوغان” هو أن هذا التحالف أصبح مقيدا لـ”أردوغان”، فعلى سبيل المثال، تعد القومية المفرطة التي تؤثر على إدارة السياسة الخارجية التركية، بمثابة نتيجة ثانوية لهذه الترتيبات السياسية، وكذلك النهج المتشدد تجاه المسألة الكردية على الصعيدين المحلي والسوري. والأهم من ذلك، أن القيادة السياسية قد تضطر للتساؤل عن فائدة المركزية الشديدة للسلطة التي استهلها الانتقال إلى نظام رئاسي قبل عام، وهو سيجعل الأتراك يتساءلون بالتبعية عما إذا كان النظام الرئاسي يعمل بالشكل الذي سبق الإعلان عنه.

خلال التحضيرات للانتخابات، ألقى “أردوغان” كلمته الشهيرة: “من يفوز بإسطنبول يفوز بتركيا”، وهو ما يدفعنا إلى التساؤل عما إذا كانت هذه الهزيمة ستكون بمثابة بداية لـ”تركيا جديدة”بعد سيطرة حزب العدالة والتنمية على “إسطنبول” لمدة 25 عاما؟تساؤلات عدة تفرض نفسها الآن على الساحة السياسية، وبالتأكيد هي مفروضة أمام “أردوغان”، واستجابته لتلك التساؤلات والتطورات المتلاحقة داخليا وخارجيا أمامه، ستحدد ما إذا كانت الحركة السياسية التي بدأها منذ وصل إلى السلطة من أجل الهيمنة على مفاصل تركيا بالكامل، فهل سينجح في المناورة وتغيير جلده كعادته للنجاة، أم أن جعبته السياسية باتت خاوية ولم يعد فيها ما يمكن أن ينقذه؟

——

*عبدالعزيز الشرفي: كاتب صحفي مصري، يعمل رئيسا لقسم الشؤون الخارجية والدبلوماسية بجريدة “الوطن” المصرية. زار “روج آفا” قبيل أيام من إعلان تحرير “الرقة” من تنظيم “داعش” الإرهابي، وأجرى عددا من اللقاءات مع مسؤولي “روج آفا” لتحليل الأوضاع في سوريا ومستقبل الأزمة السورية. 

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد