فريدريك دوزيت
ترجمة: د. صلاح نيوف
أعلنت مجلة “هيرودوت” اللون، ومنذ عام 1997، في مقال بعنوان ” الأنترنيت يحوّل العالم لجغرافية سياسية”:” إن الإنترنيت، وبدلا من أن يؤجل الصراعات الجيوسياسية، يبدو أنه على العكس من ذلك ضاعفها وجعلها أكثر تعقيدا” [دوزيت، 1997]. وعلى العكس من الأصوات المتفائلة التي أعلنت لا أكثر ولا أقل عن نهاية الجغرافية، كنا قد أشرنا بشكل مسبق إلى التحديات الجيوسياسية للتوسع الذي لا يقاوم لنظم المعلومات والاتصال عبر العالم: “إن شبكة الإنترنيت هي نفسها رهان وتحد للعديد من الصراعات الجيوسياسية التي أدت إلى استراتيجيات من الهيمنة من قبل أمم على مختلف المصالح المتعارضة التي تبحث للسيطرة على محتوى هذه الشبكة، وظيفتها وسيرها ونموها الاقتصادي. هذه الشبكة هي سلاح استراتيجي بشكل كبير بالنسبة لأمن الأمم […] وهي بشكل خاص أداة قوية في التنافس على السلطة بين المجموعات، الأقليات، القوى السياسية، الدينية، الاقتصادية، على المستوى المحلي كما على المستوى العالمي”.
إذا كان الشك مازال مسموحا بذلك، فإن ما كشف عنه إدوارد سنودن حول برامج المراقبة الضخمة “لوكالة الأمن القومي” في الولايات المتحدة بيّن إلى أية نقطة كم الجغرافية هي بحالة جيدة وأن الجيوسياسة تحتفظ بموقعها من أجل فهم الصراعات في العالم الحديث. من جهة أخرى، هذه هي الحجة أو البرهان الذي قدمه ” جيمس لويس”، الباحث في [مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية][1]، حيث يبيّن أن تأثير هذا الكشف على المفاوضات العالمية يختلف وفق البلدان ولكن، وبشكل عام، ورغم الثورة الرقمية، فإن المصالح والأهداف الاستراتيجية للدول تبقى غير متغيرة حتى هذه اللحظة.
تكشف خرائط المراقبة التي قدمها “لويس بيتينود”[2] عن معنى الحدود السياسية، حتى في الوقت الذي تعبر فيه التكنولوجيا هذه الحدود. مع ذلك، في بدايات سنوات التسعينات، حمل النمو الهائل للاتصالات المتحررة من مخاوف المكان والزمان وعدا بديمقراطية وسلمية للعالم من خلال انتشار الأفكار والقيم الديمقراطية. لقد شكّل ظهور فضاء إلكتروني ناتج عن الاتصالات المتبادلة للشبكات مجيء أو قدوم ” قرية كونية”، وذلك على صورة الحلم الذي صاغه ” مارشال ماكلوهن” قبل هذا المجيء بثلاثين عاما [ماكلوهن 1964]. لقد أثار توسع شبكات الاتصال وبشكل دائم مثالية وطوباوية عالم أفضل [موسو، 2003، ماتيلارت، 2009]، لكن الإنترنيت أحدث تحديات أكثر مما أحدث وعودا.
إن النمو الاستثنائي للأنترنيت ثورن [من ثورة] أشكال ونماذج الحياة، أحدث انقلابا في اقتصادنا، ضاعف وسائل تواصلنا وفتح أفقا نحن قد بدأنا في مجرد اكتشافها. أيضا، سبّب هذا النمو بتوترات إقليمية واضحة، مع تخصيب للصرعات بين فاعلين متعددين فيما يتعلق بالسيطرة على هذا النمو وتنظيمه. تتبلور التوترات حول صعود تهديدات جديدة مرتبطة بجرائم الأنترنيت أو باستخدام شبكات معلوماتية ضمن نطاق الصراعات السياسية، ومعارك عسكرية، في حروب اقتصادية، استخباراتية أو في سياسة الهيمنة الدبلوماسية والثقافية. في زمن [Big Data]، أي مجموعة من البيانات ذات الحجم الهائل، و [Open Data]، أي وضع البيانات بين أيدي العامة، هناك تضاعف للحوارات والنقاشات حول تحديات ورهان احترام الحياة الخاصة، حماية حرية التعبير وحريات فردية أخرى. إن قضية سنودن تلامس كل هذه التحديات في نفس الوقت، لأنه في الفضاء الإلكتروني، كما نراه، هي مسائل لا يمكن فصلها.
خلال زمن طويل، ظلت هذه المسائل بين أيدي جماعة صغيرة من الخبراء في الثقافة العلمية والتقنية. لكنها تدخل اليوم بقوة محطمة إلى داخل الفضاء العام، لأنه ومع التطور الهائل للأنترنيت (حوالي ثلاث مليارات مستخدم) وحضوره الكلي في حياتنا اليومية، فإن الكثير من هذه القرارات التقنية أصبحت سياسية واستراتيجية. عدد من الفاعلين (أفراد، مجموعات…) عرفوا الاستفادة والمصلحة من نمو شبكات مع تفاعل وإبداع مذهل أحيانا، في أسوأ الحالات وفي أحسنها. الحكومات، العسكريون، الشركات، المواطنون، هم جميعهم يحتاجون، من الآن فصاعدا، فهماً أفضل لهذه التحديات وذلك من أجل السهر على مصالحهم وتطوير استراتيجيات متماسكة بهدف متابعة واللحاق بالفرص الجديدة وإدارة المخاطر المرتبطة بها.
في الواقع هذا هو حال الدول الآن، حيث أن سلطاتها السيادية في حالة تحدٍ من قبل فاعلين متعددين في الفضاء الإلكتروني، إن كان ذلك من قبل مجرمين، هاكرز، ناشطين، شركات خاصة كبرى، منشقين، أو فاعلين ليسوا من داخل الدولة وينتمون لدول أخرى. هذه التحديات أمام السلطة والقوة هي خارج الأقاليم التقليدية للجيوسياسة، ومع ذلك، فإن الجيوسياسة هي أداة ضرورية لتحليلها.
الجيوسياسة إلى غزو الفضاء الإلكتروني
كيف يمكن للجيوسياسة أن تسمح بفهم صراعات الفضاء الإلكتروني؟ إن التحدي المنهجي مهم أكثر مما هو محفز. تدرس الجيوسياسة /الجيوبوليتك النزاعات على السلطة والتأثير والهيمنة على إقليم معين، وذلك على مستويات متعددة من التحليل. تهتم بديناميكيات صراع ما على إقليم محدد، وبالتصورات المتناقضة واستراتيجيات الفاعلين من أجل السيطرة والهيمنة عليه، والدفاع عن مصالحها داخل هذا الإقليم. إذن، الإقليم هو في قلب التحليل، وهذا ما يطرح مشكلة واضحة أمام الفضاء الإلكتروني. فهل الفضاء الإلكتروني هو شكل جديد من الإقليم؟ وإذا كان الجواب بنعم، ماذا ستكون حدود هذا الإقليم؟ وماذا ستكون حدوده السيادية؟
—–