على مدار تاريخ البشرية، كانت المصلحة الشخصية هي المحرك الأول والأخير لدول العالم، فلا تكاد دولة تساعد جارتها إلا وكان لها مصلحة خفية وراء تلك المساعدات، فظلت المصالح والأهواء تتقلب بين الحين والآخر ولكنها دائما ما كانت في إطار سلمي، إلى أن اندلعت أحداث الثورة السورية التي سرعان ما تحولت إلى حرب انعكست بظلالها على الشرق الأوسط وتهدد بتغيير جغرافية “سايكس بيكو” بسبب تشابك المصالح وتعقدات التحالفات هناك. وبعيدا عن القوى الإقليمية والعالمية المؤثرة، ظهر على مسرح الثورة السورية لاعبين جدد، لعل أبرزهم كانت “الدوحة” التي أنفقت مليارات الدولارات على الجماعات المسلحة فقط في سبيل الإطاحة بالرئيس السوري بشار الأسد، وحصد أكبر قدر ممكن من النفوذ.
في الثامن من أغسطس عام 2012، نشرت صحيفة “جارديان” البريطانية مقالا للباحث بمعهد “أوبن ديموكراسي” مايكل ستيفنز، أشار فيه للمرة الأولى إلى الدعم الذي تقدمه قطر والسعودية وتركيا إلى الجماعات المسلحة، وأكد أن الدافع وراء دعم السعودية وتركيا للجماعات المسلحة أمر مفهوم ومعروف، ولكن الدافع وراء قطر التي تعد دولة صغيرة لها أهداف استراتيجية أكبر منها، هو الأمر الغريب، خصوصا أن سوريا ليس لها أي علاقة بالأهداف الاستراتيجية لـ”الدوحة”، والتي تتمثل في الإبقاء على مضيق “هورموز” مفتوحا طوال الوقت حتى تتمكن من تصدير الغاز المسال، إذا ما الهدف الذي تسعى وراءه قطر؟ “ستفينز” أجاب سريعا، وقال إنه على ما يبدو فإن سياسات “الدوحة” تسير وراء رغبات ونزعات أميرها آنذاك حمد بن خليفة ورئيس وزرائه حمد بن جاسم، وكل تلك رغبات ونزعات شخصية، حيث إن الاثنين يعتبران أن “الدوحة” لديها القدرة على إعادة تشكيل الدول العربية ويمكنها لعب دور كبير في هذا الأمر بعد الثورات التي اجتاحت المنطقة، وبهذا فإنه أينما وحيثما كان بإمكان “الدوحة” أن تفعل هذا، فإنها لن تدخر جهدا في بسط نفوذها من خلال المال السياسي، أي من خلال الدعم لأي طرف يمكنه أن يكون مواليا لها في منطقة ما.
في السابع عشر من مايو عام 2013، نشرت صحيفة “فاينانشيال تايمز” البريطانية تحقيقا استقصائيا أثبت بما لا يدع مجالا للشك أن قطر كانت من بين أكبر الداعمين للجماعات المسلحة في سوريا بحجة دعم المعارضة السورية في مواجهة النظام “الفاشي”. وقد كانت البداية من جولة في العاصمة القطرية “الدوحة” التي رفرف علم المعارضة السورية آنذاك على مقر السفارة السورية في “الدوحة” رغم أن النظام المعترف به دوليا هو نظام “الأسد” وليس المعارضة. الصحيفة البريطانية تؤكد أن مصادر لها أشارت إلى أن قطر دفعت في هذا العام ما يقرب من مليار دولار على جماعات المعارضة المسلحة، بينما أنفقت 3 مليارات دولار تقريبا خلال أول عامين للثورة السورية، أملا في السيطرة على أكبر قدر ممكن من الجماعات ليكون لها نفوذ عليها بعد سقوط “الأسد”، لدرجة أن أحد كبار ضباط قوات المعارضة المسلحة، قال آنذاك للصحيفة: “قطر تمتلك الكثير من المال وتشتري كل شيء بالمال.. كل شيء”.
وتشير الصحيفة إلى أنه رغم كون إثبات أن بعض الجماعات المسلحة حصلت على الدعم الحصري من قطر، حيث إن بعض الجماعات مثل “أحفاد الرسول” و”لواء الثورة” مثلا حصلتا على دعما من المملكة العربية السعودية أيضا، فإن الواقع يؤكد أن الخلاف الأساسي بين “الدوحة” و”الرياض” كان على دعم “الإخوان المسلمين”، لأن السعودية لم تكن لتقبل أبدا أن يصعد الإخوان إلى رأس الحكم في سوريا أيضا، بعد أن كان نجمهم ساطع في مصر قبل أن يبدأ المواطنون في الثورة عليهم من جديد، لكن “الدوحة” كانت تعمل بمبدأ “إن كان التسونامي في طريقه إليك.. فعليك أن تركب الموجة لا أن تواجهها”، بحسب ما نقل مسؤول أمريكي عن أحد المسؤولين القطريين.
أما معهد “ستوكهولم” لدراسات وأبحاث السلام، فقد قال في عام 2013 إن “الدوحة” كانت الأعلى على الإطلاق في دعم الجماعات المسلحة على مدار 3 أعوام من الثورة، وقد قدر عدد شحنات الأسلحة التي أرسلتها قطر إلى الجماعات المسلحة في الفترة ما بين أبريل 2012 ومارس 2013، بحوالي 70 شحنة دخلت عبر الأجواء التركية في رحلات جوية.
لا يخفى على متابع بالتأكيد أن الولايات المتحدة نفسها تورطت في دعم جماعات تحولت إلى الإرهاب فيما بعد، ولأن الجائزة الأكبر يحصل عليها من يتحالف مع الولايات المتحدة، فإن “الدوحة” سعت بجدية إلى أن تحصل على أكبر قدر ممكن من الرضا الأمريكي على سياساتها، فقررت دعم “واشنطن” في سياسة تدريب مقاتلي المعارضة المسلحة في مواجهة نظام “الأسد”، وبالفعل دربت ما يقرب من 1200 مقاتل من المعارضة السورية في العام الواحد على مدار دورات تدريبية مدتها 3 أسابيع.
على الصعيد الإعلامي، لم تأل “الدوحة” جهدا في دعم الجماعات الإرهابية من خلال قناة “الجزيرة” ذراعها الإعلامية، وقد كان ذلك بطرق ووسائل عدة، لعل أبرزها استضافة “الجولاني” زعيم “جبهة النصرة” الإرهابية في سوريا مرتين، بل إنه في السابع والعشرين من مايو عام 2015، قدم فيصل القاسم حلقة من برنامجه “الاتجاه المعاكس” تحت عنوان “هل حقق تنظيم الدولة شعاره.. باقية وتتمدد؟”، وقد كانت تلك الحلقة مخصصة بشتى الطرق لدعم الإرهاب، ويكفي للمشاهد أن يستمع فقط إلى مقدمة “القاسم” التي قال فيها نصا: “أليس من حق الدولة الإسلامية التي باتت تسيطر على أجزاء واسعة من سوريا أن ترفض تسميتها بتنظيم الدولة؟ ألم تصبح دولة مترامية الأطراف؟ أليس سر انتصاراتها أنها تعمل من أجل قضية وعقيدة بينما يعمل خصومها مرتزقة؟ ماذا فعلت الدولة الإسلامية أكثر مما فعله برابرة العراق الطائفيون والنظام الطائفي في سوريا؟ أليس إجرام داعش مجرد “لعب عيال” مقارنة بجرائم النظام الفاشي في دمشق؟”.
هذه ليست المرة الوحيدة التي تدعم فيها “الجزيرة” الإرهاب، ففي حلقة أخرى لـ”القاسم” تحت عنوان “أصل الإرهاب في سوريا.. النظام أو تنظيم الدولة؟”، أصر فيها “القاسم” على مقاطعة الضيف الموالي للنظام السوري مرات عديدة، ورفض أن يسمح له بالحديث، وظل يقاطعه قائلا إن “الجيش السوري والمخابرات السورية هما من فتح باب الإرهاب، وإن داعش لم تدخل دمشق ولا تسيطر على كل سوريا، وإن 70% من المقاتلين الأجانب في صفوف داعش وصلوا إلى سوريا في الأساس لدعم ونصرة الإسلام والمسلمين السُنة”. وفي إحدى حلقات “الاتجاه المعاكس”، أصر “القاسم” على أن “أنقرة” تحتضن ما أسماه بـ”أنبل حركات المعارضة”، وهو حينها كان يقصد قادة “جبهة النصرة” الذين كانوا يتلقون العلاج داخل الأراضي التركية من إصاباتهم خلال المعارك.
إن خير الأدلة على لدعم الإعلامي من قطر للجماعات الإرهابية، هو ما حدث في حلقة الرابع من نوفمبر عام 2014 من برنامج “الاتجاه المعاكس”، حيث استضاف “القاسم” باحثا إسلاميا يحمل الجنسية البحرينية يدعى حسين محمد حسين، أعلن صراحة مبايعته لتنظيم “داعش” الإرهابي على الهواء مباشرة، ولم تتحرك شعرة واحدة من “القاسم” لرفض ما فعله الضيف، بل استمر في الحوار معه وكأنه يتحدث إلى الرئيس الأمريكي نفسه.
قد تبدو كل تلك إشارات منقولة عن مصادر حتى وإن كانت موثقة ومثبتة ولا تشوبها شائبة، ولكن الاعتراف الأكبر بدعم “الدوحة” للإرهاب جاء على مرتين، مرة على لسان وزير خارجيتها ورئيس وزرائها السابق حمد بن جاسم، الذي قال في حوار للتليفزيون القطري الرسمي في السابع والعشرين من أكتوبر عام 2017، إن المشكلة في الملف السوري وما تلاه من أزمات مع المملكة السعودية، كان أن “إحنا تهاوشنا على الصيدة، وفلتت الصيدة وإحنا قاعدين نتهاوش عليها”. أما المرة الثانية التي اعترفت فيها “الدوحة” صراحة بدعم الإرهاب، فكانت في زلة لسان لوزير خارجيتها الحالي محمد بن عبدالرحمن، في الثاني من يوليو عام 2017، أي بعد أقل من شهرين على اندلاع الأزمة العربية مع قطر، وحينها كان يتحدث “بن عبدالرحمن” عن اتهامات الرباعي العربي لـ”الدوحة” بدعم الإرهاب، فقال وزير الخارجية القطري: “تمويل الإرهاب لا ينطبق فقط على قطر بل هناك دول أخرى في المنطقة تقوم بهذا الدور، وقطر تقع في ذيل قائمة الداعمين للإرهاب”.
رغم ما يحيط بها من أزمات، لم تأل “الدوحة” جهدا في دعم الإرهاب، وهذه المرة كان الإرهاب ممثلا في العدوان التركي على “عفرين”، فرغم خروج قرار من الجامعة العربية على مستوى وزراء الخارجية يرفض هذا العدوان ويؤكد سيادة سوريا على أراضيها، فإن “الدوحة” تحفظت على هذا القرار ورفضت المشاركة فيه، فخرج القرار بدون موافقتها. وفي الأول من فبراير عام 2018، أعلن وزير الخارجية القطري أن “الدوحة” تدعم العملية العسكرية التركية في “عفرين”، لأن من حق “أنقرة” حماية حدودها، على حد قوله. وهو التصريح الذي تكرر على لسان فهد محمد العطية سفير “الدوحة” في روسيا، الذي أكد تأييد بلاده للهجوم التركي على “عفرين”، بحجة أن “أي بلد له حق سيادي في حماية سلامته الإقليمية”.
ورغم ادعائها تبني “الرأي والرأي الآخر” شعارا لها، فإن “الجزيرة” القطرية واصلت انحيازاتها لأهواء الأسرة الحاكمة في قطر، وفي الوقت الذي كانت تتهم فيه الجيش المصري بقتل المدنيين وفتح باب “المواجهة” في سيناء بسبب حقه السيادي في الدفاع عن أراضيه داخل حدود الدولة في مواجهة الإرهاب، فإنها كانت تدعم عملية الجيش التركي في دولة غير دولته بحجة حماية حدوده الإقليمية، وظلت تعمل على وصف شهداء العدوان التركي على “عفرين” بـ”الإرهابيين”، ولم تكن “الجزيرة” وحدها هي من انتهج تلك السياسة، فالأمر نفسه بالنسبة لصحيفة “العربي الجديد” التي تصدر عن شركة “فضاءات ميديا” المالكة لتليفزيون وجريدة “العربي”، وهي شركة أخرى أسستها الحكومة القطرية ولا يُعترف رسميا بملكيتها للحكومة القطرية وإنما يُقال إن رأس مالها خاص لا يتبع الحكومة.
“العربي الجديد” لم تذكر في تغطيتها للعدوان التركي على “عفرين” سوى ما وصفته بـ”المدنيين الذين يسقطون شهداء برصاص الفصائل الكردية”، في وقت الفصائل الكردية هي نفسها التي تدافع عن المدينة، فكيف يسقط المدنيون قتلى برصاص من يحميهم؟
لا يتوقف الأمر عند حد “الجزيرة” و”العربي الجديد” وغيرها من المنصات الإعلامية التي تحولت إلى “بوق” لتركيا، في وقت ضاقت فيه السبل بـ”الدوحة” ولم تجد غير “أنقرة وطهران” ينجدانها من تداعيات المقاطعة العربية بسبب دعمها للإرهاب، فهل تستمر قطر في سياساتها؟ أم أن القمة العربية المزمع عقدها قد تشهد انفراجة تنهي عام تقريبا من الأزمة مع قطر وتجبرها على التراجع عن سياساتها الداعمة للإرهاب؟