المستشار سعيد العشماوي في “الإسلام السياسي”: عندما يصبح الدين وسيلة للاستحواذ على الدنيا!

طارق حمو

يتعرض المؤلف المستشار محمد سعيد العشماوي في كتابه (الإسلام السياسي)[1]، والذي هو عبارة عن مجموعة من المحاضرات والبحوث التي كتبت في أوقات مختلفة، إلى محاور مهمة تعتبر من الأسس الفكرية والعقيدية التي بنيت عليها أغلب تنظيمات وجماعات الإسلام السياسي. ويبدو الكاتب من خلال كتابه والمواقف التي يبديها حين عرض وتحليل أفكار الإسلام السياسي وجماعاته، مهموما بمخاطر تطبيق هذه الأفكار على وطنه مصر، وهو الأمر غير المستغرب، سيما وهو القاضي ورجل السياسة والفكر والقانون المجبول بهموم مصر: وطنا ومواطنا. وتبدو مواقف الكاتب واضحة من خلال الحجج والبراهن ونقاط الاعتراض التي يسوقها أثناء عرضه لمحاور الكتاب، وكذلك أثناء تصديه لخطاب جماعات الاسلام السياسي، وبشكل خاص تلك التي ترجمت هذا الخطاب إلى ممارسة عنفية استخدمت فيه القوة والارهاب، كوسيلة لتحقيق الاهداف والبرامج التي طرحتها، واعتبرتها من أصل الشريعة والدين.

ويسوق المؤلف مقدمة طويلة للتوقف على أهمية الموضوع المطروح للبحث والنقاش، يذهب فيها إلى عرض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وسرد التراث الفقهي، ثم يستند إلى فهمه الخاص للشريعة، لتبيان صحة رأيه في ان الاسلام دين وليس دولة وسياسة، وان مذهب جماعات الاسلام السياسي وأسسها الفكرية والعقيدية غير صحيحة، و يشوبها الكثير من الاضطراب والضعف. وكذلك يتوقف المؤلف على بعض المراحل التاريخية الحساسة في مسيرة الاسلام، خاضعا إياها للنقد والتحليل العلمي المبني على المقارنة والاستدلال. ومذهب المؤلف يقول بان الاحداث والمجريات والفتن والصراعات على السلطة التي حدثت في الاسلام، منذ بداياته وإلى ظهور الامبراطوريات الاسلامية الوراثية، اثرّ بشكل كبير على فهم المسلمين وحدوث كل هذا اللغط، وظهور الميل والنزوع ـ على مستويي العامة والخاصة ـ في اتجاه خلط السياسة بالدين، وبروز تحريفات عديدةفي التفسير والتطبيق دون مرعاة للزمان والمكان، ” وقد كان من نتيجة اختزال الإسلام في السياسة واختصار الشريعة في التحزب أن أصبح التاريخ الاسلامي، تاريخا للصراع بين القبائل والقبائل، بين الطوائف والطوائف (في الأندلس)، بين الفرق والفرق، بين جنس “عربي” وجنس “فارسي”. وقد أخذ هذا الصراع شكل الدين ووصف الشريعة. فاضطرب كل من الفهم الديني والعمل السياسي، واضطرم كل خلاف وأية خصومة ـ ما دامت تكتسب من الدين قوة عاطفية وتقتبس من الشريعة فورة عارمة”[2].

ولا بد من التنويه بأن المؤسسة السياسية الحاكمة في بلاد المسلمين، ومنذ السنوات الأولى لانتشار الإسلام، قد اعتكزت على الدين ونصوص القرآن والسنّة، من أجل تثبيت حكمها وتسويقهمدعوما بالشرعية الإلهية، بغرض إجبار الناس على الخضوع لها.ولهذا بدا لنا الإسلام سياسيا بامتياز، وبدا من الصعوبة تحديد توقيت ظهور فكرة الإسلام السياسي المتجردة كما هي الآن عليه، وذلك لأن “جميع السلطات السياسية التي ظهرت في أرض الإسلام منذ عام 632 م كانت قد نسبت نفسها إلى تعاليم القرآن والنبي وادعت المسؤولية العليا في حماية هذه التعاليم، فإن ذلك قد أدى إلى تشكل نظرة إجبارية (قسرية) تقول بأن الإسلام هو دين ودولة (عالم دنيوي) لا ينفصمان”[3].

وبعد قيام المؤلف بالعرض التاريخي والديني للأسس التي يقوم عليها الاسلام السياسي وجماعاته، والحوادث الخلافية التي وقعت في حياة النبي محمد، وبعد وفاته، وفترة حكم الخلفاء الراشدين، والفتنة الكبرى التي وقعت بسبب مقتل الخليفة عثمان بن عفان، والصراع على السلطة بين علي بن ابي طالب ومعاوية بن ابي سفيان، وانتقاله، وراثيا، إلى ولديهما: الحسين بن علي ويزيد بن معاوية، وتحويل الخلافة إلى حكم عضوض يقوم على الوراثة داخل العائلة، والمذابح والاهوال والحروب وحملات الانتقام والثأر المروعة التي وقعت بين الامويين وخصومهم العباسيين، أو تلك التي وقعت بحق جهات أخرى اثناء فترة حكم كل منها، ومن ثم مجيء الاتراك العثمانيين واستيلائهم على الحكم، والتغيير الذي أحدثوه على بنية الخلافة العربية القريشية، يوضح المؤلف بأن سقوط دولة الخلافة العثمانية وبروز النزعات والعصبيات القومية، كان عاملا مهما من العوامل التي أشعلت الحماس في نفوس الكثير من المسلمين، وادىلظهور العديد من الجماعات والتنظيمات التي رفعت لواء “إعادة الخلافة” وبناء منهاجها السياسي والفكري على أسس دينية تستقي من مبدأ (الإسلام دين ودنيا). حيث ظهرت عوائل وجماعات، وتحالفت قوى وتصارعت وتعادت قوى اخرى طمعا بالخلافة المنشودة، وما يترتب عليها من سلطة وتحكيم على بلاد ورقاب المسلمين. وأدى كل هذا التطور إلى خفوت صوت العقل وتراجع الاسلام الروحي الشعبي لصالح اسلام الشعار السياسيالمتزمت، وبدت الانقسامات عميقة في العديد من المجتمعات الاسلامية. ومن هنا “فقد قامت شعارات السياسة الدينية على عدة صيغ: أن الحاكمية لله وحده ولا حاكمية لبشر، وأنه لابد من حكومة دينية لإقامة النظام الإسلامي، وأن الجهاد فريضة غائبة يتعين إعادتها لمواجهة أعداء التيار من حكام أو مفكرين، ولضم دار الحرب إلى دار السلام (أو دار الإسلام)، وانه لابد من تطبيق الشريعة الاسلامية وإلا تعين حرب المجتمع، وأنه لابد من فرض جزية على غير المسلمين وإلا كان المجتمع جاهليا كافرا بالله، وأنه لا يوجد إلا الحل الإسلامي لمواجهة كل مشاكل المجتمع الوطني والدولي، وأن الإسلام دين ودولة، وانه لا ينبغي أن تكون للمسلم أية جنسية إلا الاسلام، ويتعين ألا يكون له ولاء لوطنه بل لجماعة المسلمين”[4].

ويتوقف المؤلف على موضوعة (الحاكمية لله)، موضحا بأن هذا المبدأ ظهر في ظروف سياسية مضطربة تخص أحوال وأوضاع المسلمين في ذلك الزمن، ومشيرا بان المصطلح جاء على لسان أبو الأعلى المودودي، المفكر الهندي المسلم، حيث طوّره بهدف رص صفوف المسلمينالهنود وتجميعهم حول فكرة الاستقلال عن دولة الهند، وجاء المفكر المصري سيد قطب ليطوره، ويتوسع فيه، جاعلا منه أساسا مهما من أساسيات الاسلام والجماعات الساعية لتطبيقه، وذلك بتحويله إلى برامج سياسية تهدف الاستحواذ على الحكم والسلطة. وجاءت اتهامات بحق كل من يريد الطعن في مبدأ (الحاكمية لله)، ومن هذه الآراء رأي سيد قطب، “ثم هم اليوم يقصون حاكمية الله، بجملتها، من حياتهم ويقيمون لأنفسهم أنظمة يسمونها(الرأسمالية) و(الاشتراكية) وما إليها، ويقيمون لأنفسهم أوضاعا للحكم يسمونها (الديمقراطية) و(الدكتاتورية) وما إليها، ويخرجون بذلك عن قاعدة دين الله كله، إلى مثل جاهلية الإغريق والرومان وغيرهم، في اصطناع أنظمة وأوضاع للحياة من عند أنفسهم”[5].

وقد ظهرت جماعات كثيرة في تاريخ الإمبراطوريات والدول الإسلامية، حملت لواء الإصلاح الديني أو السياسي، بهدف إنقاذ الدين أو الأمة من الواقع الذي تعيشه، وعليه فان “الحركات الدينية المعاصرة لم تولد من فراغ، فقد كانت بذرتها موجودة على الدوام. وسواء نظرنا إلى العالم العربي أو الإسلامي، فسوف نكتشف ان الدين استٌخدم مرارا كعامل استقطاب واجتذاب للجماهير، أو لمقاومة طغيان السلطات، أو للتصدي لعمليات الغزو والاحتلال، لاسيما في العصور الحديثة. وكانت الحركة الوهابية ـ التي ظهرت في نجد وتنامت خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ــ أبرز الحركات الإسلامية التي تكرر ظهورها في أماكن عديدة من العالم الإسلامي، كالهند وإندونيسيا وشمال أفريقيا، وبخاصة عندما اشتد ضغط عمليات التوسع الاستعمارية بقيادة إنكلترا وفرنسا وهولندا وروسيا القيصرية. وبينما رأت الحركة الوهابية السلفية مأساة المسلمين في “عدم نقاء العقائد وانتشار البدع بينهم وابتعادهم عن الوحدانية الصحيحة” فإن السيد جمال الدين الأفغاني ــ ومن تأثر بفكره ــ نظروا إلى المشكلة من زاوية أخرى، وهي تفكك العالم الإسلامي في وجه الغرب والاستعمار الأوروبي، فركزوا على الدعوة إلى تعزيز وحدة هذا العالم ضمن رابطة أو جامعة إسلامية، تجعله أكثر قدرة على الدفاع عن نفسه”[6].

وبعد مناقشة مستفيضة للأفكار التي جاء بها منظرو مبدأ (الحاكمية لله)، والتصدي لها لتبيان بطلانها أو اقتصارها على فترات زمانية، ومجتمعات ظهرت في أماكن محددة، وبالاستناد على الآيات والأحايث وآراء الفقهاء والعلماء المسلمين، يذكر المؤلف ” ويقول قوّال تيار تسييس الدين بالإرهاب والعنف والتطرف، إنه لابد من الحكم بكل التشريع الإلهي، وليس لإنسان أن يٌشرع للناس، وأنه لا يجوز إجراء أي تعديل في التشريع الإلهي أو وقف حكم آخر، أو القول بنسبية حكم ما أو وقتية أي حكم. ومن لا يحكم بكل التشريع الإلهي دون ما تعديل أو وقف فهو كافر، وكذلك من يقول بنسبية حكم أو وقتية حكم آخر. وأن القوانين المصرية ـ وما كان مثلها من قوانين البلاد الإسلامية ـ كفر بواح ومطبقها والخاضع لها كافر تحل مقاومته شرعا. وهذا القول لا يمكن أن يصدر إلا ممن يجهل جهلا تاما كل شيء عن التشريع الاسلامي والفقه الاسلامي والقوانين المصرية، أو ممن درس بعضا منها دون البعض الآخر، أو ممن درس ولم يفقه، أو ممن درس وعلم ـ لكنه يتلاعب بالشريعة ويتعابث بالاحكام ليجعل منها شعارا سياسيا وهتافا حزبيا، لا اسا له من الواقع ولا ظل له من الحقيقة”[7].

 ويهاجم المؤلف بشدة التيارات الاسلامية التي تذهب في تكفير المجتمع ووسمه بالكفر، واعتبار الدولة والناس مرتدين يعيشون في الجاهلية، ويبين بان هذه التياراتخطرة للغاية على المجتمع وحياة الناس، لأنها تطلق الأحكام على عواهنها بدون علم ودراية، وهمها هو المكسب السياسي، والوصول إلى السلطة والحكم بأي ثمن، ومهما كانت العاقبة مكلفة وغالية، ” إن وصم القانون بالكفر البواح تعبير رخيص، من لغو القول وهزل الكلام، لكنه مع وصف من يطبقه ومن يخضع له بالكفر، دعوة إلى المعصية وخروج على النظام وعدوان على المجتمع وحرب للمسلمين، يصدر ممن لا يعرف معنى القانون، ولم يدرس القانون ولا الشريعة، ولا يستطيع أن يفهم أو يدرك شيئا منها، ولا شك أن ذلك ضد الإسلام جوهرا وشكلا ومنهجا ونظاما”[8].

وفي الإطار الفكري للحديث عن الإسلام ونزع السياسة عنه، واعتباره فقط تراثا روحيا يتمظهر في طقوس وعبادات، بوصفه فقط علاقة بين الانسان والخالق، يتعمق المؤلف، سوسيولوجيا، في شرح السمات التي سمت الشخصية العربية وساعدت على تقبل فكرة ان الاسلام دين ودولة، اي المزج ما بين الروحاني والسياسيواعتبارهما كلا واحدا. وفي هذا المضمار يتحدث المؤلف عن السجايا والخصائص البدوية في الشخصية العربية المسلمة في عموم البلاد العربية، ولكن في مصر بشكل خاص. كذلك ينبري المؤلف في التعرض للتجربة السودانية في تحكيم الاسلام السياسي على البلاد، وما ظهر من نواقص وعيوب هذه التجربة، وكيف أودت بالبلاد إلى الحرب الأهلية نتيجة التمييز بين الناس من حيث العقيدة، وظهور شروخ كبيرة وخطيرة في الشخصية السودانية، حيث الفرز من قبل الحاكم بالشريعة على أسس عرقية ودينية ومذهبية. وينتقد المؤلف تأييد التيارات الاسلامية والشخصيات الدينية المسلمة لتجربة السودان في الحكم، رغم فشلها والنتائج الكارثية التي تمخضت عنها هذه التجربة. كما وينتقد المؤلف تجربة المصارف الاسلامية، ويشير بأنها تخدع المواطن البسيط من خلال إقحام اسم الاسلام والتصوير بان الفائدة حرام و لا يمكن الاخذ بها، بينما الحقيقةتقول بان هذه المصارف لا تشذ عن قاعدة الربح والفائدة، كما هو الأمر في بقية المصارف والبنوك في العالم، ” ومصارف البلاد الاسلامية ـ أو المصارف التابعة لها أو الخاصة لنفوذها في مصر ـ لم تنشء نظاما اقتصاديا جديدا قط، كل ما فعلته أنها بدلت الأسماء، وغيرت المسميات ولجأت إلى الحيل، فسمت الفائدة مرابحة أو تعويضا أو مصاريف إدارية أو غير ذلك، وأفرغت عقود القروض التي تتضمن فائدة في شكل عقود بيع ثم عقود شراء، فارق الثمن فيها هو ذات الفائدة التي يأخذها أي مصرف آخر، باسمها الحقيقي ودون ما تحايلات”[9].

ثم يمضي المؤلف في شرح معنى (الشريعة) و(الحكومة الإسلامية)، منتقدا كل من يدعو لتطبيق هذه الأفكار والمبادئ في عصرنا الراهن، ومشيرا إلى الخصوصية الزمانية لتجربة الخلافة، حيث انها اختصت في زمان ومكان محددين، ولا يمكن أن تتكرر بشكل حرفي في وقتنا المعاصر، محذرا من الشعارات البراقة والمغرية التي ترفعها جماعات الاسلام السياسي وتجعل من الحكم الديني جنة الله على الأرض، وكانه الحل الشامل لكل المشاكل الحياتية المعاصرة ” وعند اختبار التاريخ الاسلامي واستعراضه للحكم عليه، فإننا نجد تناقضا غريبا. فعلى الرغم من النماذج النبيلة، وعلى الرغم من التعاليم الراقية والاخلاقيات السامية والأقوال الرفيعة، فلقد كانت السلطة السياسية عموما ضد الناس ومعارضة لروح الإسلام ومناقضة لنص القرآن. لذلك فإنه عند رفع شعار الحكومة الاسلامية ينبغي على كل ألا يستسلم لأوهامه وأحلامه أو يتوقع أماني لا تتحقق، ويتجاهل في الوقت ذاته كل حقائق التاريخ وشواهده وأدلته”[10].

وهناك من يرغب في فتح باب النقاش والبحث والتأويل في النص الديني وعدم ترك الأمر بحجة قدسية هذا النص وحرمة الاقتراب منه، حيث ان التسليم بالقداسة والاكتفاء بذلك وعدم البحث والتفكير، إنما يصب في صالح المشروع الأصولي المتطرف ” إن قراءة حرفية للنص القرآني قد تدور في فلك المشروع الأصولي، فهي قد تنقاد لمن يصر على إنطاقها وفقا لآفاقه الضيّقة، وعوضا عن التمييز بين الإسلام الصحيح والإسلام الخاطئ أرى من الأجدر أن يستعيد الإسلام الجدل والحوار ويكتشف مجددا تعددية الآراء ويفسح للاختلاف والتباين ويتقبّل فكرة حرية الآخر في التفكير بشكل مختلف، ويعطي الحق مرة أخرى في النقاشات الفكرية ويتكيّف مع الظروف التي تٌولدها تعددية الأصوات، ويفتح المزيد من المنافذ وتتوقف فكرة الإجماع وينقسم الجوهر “الواحد” الثابت لباقة من الذرات”[11].

وفيما يخص فكرة (الجهاد)، يستعرض المؤلف بشكل موسع هذا المبدأ الخطير والرئيسي من مبادئ وأفكار الإسلام السياسي، ويتصدى له من الجوانب الفقهية والشرعية، موضحا بأن فكرة ” الجهاد” قد تم تحويرها وتفسيرها بشكل حربي لصالح القتال والاحتلال والحرب، وان المعنى الأكبر لها في الحقيقة هو “جهاد النفس” أي ضبطها واحتواءها والسيطرة عليها، مدعما آراءه بالآيات والأحاديث والشواهد الفقهية من تفاسير واجتهادات العلماء، “إن الجهاد لا يمكن أن يكون تحت أي ظرف من الظروف وطبقا لأي تفسير عاقل سليم قتلا او اغتيالا أو نسفا أو تدميرا. وأن هذا الفهم الضال المضل لمعنى الجهاد جعله قتلا من المسلم للمسلم، سواء كان مواطن بلد آخر أو حاكما أو مجتهدا أو مواطنا في ذات الوطن ـ وبذلك بدل من المعنى السامي معاني كريهة، وغيّر من الدعوى الإنسانية فجعل منها اتجاها لاإنسانيا. وقد أدى ذلك كله ـ وخاصة مع غلبته وغياب الفهم الصحيح ـ إلى أن يصبح الاسلام في نظر غير المسلمين، بل في وبعض المسلمين، قتلا وقتالا وحربا واغتيالا ونسفا وتدميرا. وقد أساء ذلك كثيرا إلى الاسلام، ولم يقدم له نفعا، حين دمغ ابناءه بالعدوان، ودفع الآخرين إلى التحوط لأنفسهم من هذه الاتجاهات المدمرة، والوقوف منها موقف الحذر والاحتياط، والاستعداد الدائم لوقوع العدوان والتأهب المستمر لصده ورده، وقد يكون ذلك كله وفقا للقاعدة الأزلية: إن الهجوم خير وسيلة للدفاع”[12].

ويعلنها المؤلف صراحة بان القرآن ليس دستورا، وهو بالتالي لا يمكن الاعتماد عليه للحكم وتسيير وتنظيم حياة وشؤون البشر،” القرآن الكريم لم يتضمن أية آية ـ مما يعتبر مبادئ دستورية ـ كتنظيم رياسة المسلمين، وطريقة انتخاب الرئيس، واسلوب عمله بعد انتخابه أو مبايعته، وطريقة اشترك الشعب في الحكم مساهمة ورقابة، ونظام الانتخاب، وأسلوب إبداء الرأي العام، وما إلى ذلك، وكل ما ورد في هذا الصدد هو من وضع الفقه الاسلامي، أي انه آراء بشر. وقد جنح دائما إلى التركيز على حقوق الحاكم ـ كيفما كان واينما كان ـ حتى أصبح نظام الحكم في التاريخ الاسلامي هو شخص الحاكم ورغبته وإرادته من جانب، ووجوب السمع والطاعة على المحكومين من جانب آخر”[13].

وينتقد المؤلف الأصولية الاسلامية في معناها الساعي إلى الحكم والسلطة، ويؤيد التفسير الروحي للدين، أي الاصولية الاسلامية التي تعني التمسك بجوهر الدين كطقوس وروحانيات وعبادات وعلاقة وجدانية تنشأ بين العبد وربه، موضحا بان الدعوات لعودة الأصولية في وجهها السياسي الرامي إلى الحكم والسيطرة، إنما ورائها دوافع دنيوية تتعلق بالسلطة والحكم، ولا علاقة للأمر بجوهر الاسلام وروحه، “وهذا التحول الخطير للسلطة السياسية في الاسلام من أصل واضح في القرآن وظاهر في أعمال وأقوال المسلمين الأوائل إلى وضع فاسد غير إسلامي، إنما حدث نتيجة رغبة الحكام في الانفراد بالسلطة واغتصاب الثروة والافلات من أية رقابةوتجاوز الاحكام الشرعية بكل سبيل، هذا فضلا عن ميلهم إلى التشبه بالأباطرة والقياصرة دون التمثل بالخلفاء الراشدين”[14].

بينما يرى المؤلف بأن ثمة اصولية اسلامية روحية، وهي التي ترى تنقية الفهم الاسلامي وتنقيح الفكر السياسي بالاعتماد على القرآن وفقه العلماء الأوائل في ان الاسلام دين وعبادات فقط، وان السلطة السياسية هي سلطة مدنية صادرة عن إرادة الناس وليست لها أي عصمة أو قداسة. وان من حق الناس المساهمة فيها ومتابعتها عبر الرقابة وعزلها ان هي اخطأت أو شذت عن طريق القانون والمصلحة العامة.

ويتعرض المؤلف إلى مواضيع أخرى مثل القومية الاسلامية والعنصر العربي وظهور فكرة الشعوبية، موضحا بان سيطرة العرب على “دولة الاسلام” وهم ـ في رأي المؤلف ـ الذين لم يتخلصوا بعد من تراث الجاهلية والقبيلة والتعالي، اضعف التماسك الداخلي، ” لقد أدى الاستعلاء بالعنصر العربي ـ خلافا لجوهر الاسلام ـ إلى ظهور نزعة مضادة، وبخاصة من الفرس، مما انتهى إلى سفور الشعوبية ( أو القومية بلغة العصر) وتغلبها على أي شعور ديني. وبذلك قام الصراع ـ خاصة في العصر العباسي ـ بين القومية العربية والقومية الفارسية، ولم يعد الاسلام في نظر المتصارعين دينا يوحد بين الجميع، بل شعارا تقوى به القوميات، وستارا تشتد من خلفه الشعوبية”[15].

ونتيجة هذا الصراع ظهرت نزعات حكم وسيطرة بين الشعوب الاسلامية من عرب وترك وكرد وفرس وروم ومغول، إلى حين ظهور الدولة العثمانية التي تقوم على الأرومة التركية، والتي يصفها بالمؤلف بالعنصرية، حيث معاملة العرب وغيرهم من الشعوب والقوميات معاملة الحاكم القاهر الغازي الذي يتعالى بعنصره ويترفع بقوميته، ولم يتم معاملة العرب وغيرهم من الشعوب غير التركية قط على أسس اسلامية تجعل الولاية من حق أي مسلم، وتفرض على الحكام أن يعاملوا المحكومين كإخوان في الدين على أسس انسانية غير قومية واخلاقيات اسلامية رفيعة.

كما ويهاجم المؤلف التيارات والشخصيات الداعية إلى تطبيق الشريعة الاسلامية في مصر، وإحلالها محل القانون الوضعي والدستور القائم على الحريات وحقوق الافراد، فيقول: “يلاحظ أن دعوى تطبيق الشريعة ـ مع أنها بدأت في مصر منذ أكثر من خمسين عاما ـ لم تقدم برنامجا واضحا محددا وانما اعتمدت على الشعارات والأقوال التي ظاهرها العسل وباطنها السم، وتقديم وقائع من حياة الرعيل الأول من المسلمين، وتهييج الجماهير بإثارة الأحلام بعالم فاضل غير واقعي ولم يتحقق في تاريخ الاسلام الطويل إلا في عهد النبي وعهد عمر بن الخطاب وعهد عمر بن عبد العزيز، أي في حوالي اثني وعشرين عاما فقط من تاريخ طوله أربعة عشر قرنا”[16].

ولأن المؤلف ـ كما أسلفنا في المقدمة ـ منشغل بالهم الوطني المصري، فهو يفرد قدرا كبيرا من كتابه لمناقشة مخاطر تمدد جماعات الاسلام السياسي في الحياة العامة المصرية، وسيطرتها على مفاصل السياسة والمجتمع وتغلغلها داخل المؤسسات والنقابات ومنظمات المجتمع المدني، ولجوء بعض هذه الجماعات إلى العنف والارهاب سبيلا لفرض مطاليبها على الدولة،موضحا بأن النخبة المثقفة ورجال الدين المعتدلين، والدولة ذاتها، مطالبة بالرد فكريا على خطاب هذه الجماعات وتعريته وفضحه، من اجل اظهار مدى انحرافه، ومد العامة بالحقيقة في ان الاسلام دين وعبادات وطقوس روحية، وليس شعارات حماسية تنشد السلطة، وليس سيفا تكفيريا مسلطا عل رؤوس الناس، “إن اخذ الدين بمنطق السياسة وفهم الشريعة بأسلوب الشعارات أمر خطير جدا على الدين وعلى الشريعة وعلى الاسلام والمسلمين، وهو ينذر بأوخم العواقب في مصر لأنه ضمين بقسمة الوطن قسمين، وشطر النظام القانوني شطرين، وشق النظام القضائي شقين، فضلا عن انه ايذان بنقض النظام القانوني كله، وتقويض النظام القضائي بأجمعه، وإهدار الفقه المصري الاسلامي المعاصر، كل هذا بغير سبب حقيقي من الدين ودون ما دافع سليم عن الشريعة”[17].

وفي نهاية الكتاب يخوض المؤلف في جملة من المتغيرات السياسية على الساحة الدولية، وحتمية ترجمة هذهالمتغيرات والتطورات إلى معادلات وتوازنات جديدة، تنعكس على المسلمين في العالم، وعلى دولهم، وبالتالي على الجماعات المسيسة التي ترفع لواء الاسلام دين ودولة، وتنشد تطبيق الشريعة والعودة بالخلافة إلى المشهد السياسي الدولي.

ويختم المؤلف كتابه بدحض متجدد لأسس خطاب الاسلام السياسي، مركزا على رأيه في اعتبار الاسلام دينا روحيا له طقوسه وعباداته، ولا يجب اقحامه ومزجه في السياسة وعالمها، “الادعاء بان العمل السياسي فرض ديني أو عمل ديني ادعاء يميز هذا العمل عن باقي أنشطة الحياة كالبيع والشراء والزواج والطلاق وغيرها. فهي جميعا أعمال بشرية وتصرفات عادية. يضاف إلى ذلك ان اعتبار العمل السياسي عملا دينيا يؤدي إلى تعصيم (أي إضفاء العصمة على) عمل السلطة وقرارات الحكام، بحيث يكون أي جدال عنها أو اي معارضة لها، كفرا بالله يستوجب عقوبة المرتد أو عقوبة المحارب. ومن ناحية أخرى فإنه يؤدي إلى تعصيم عمل المعارضة، بحيث يكون أي جدال عنه أو أي رفض له كفرا بالله كذلك. وهكذا ينتهي الأمر إلى كفر الجميع، السلطة والمعارضة، وإلى مقاومة الرأي المعارض بالقتل والاغتيال بحكم من الشرع أو فتوى من الدين ـ بدلا من مجادلته بالتي هي أحسن. أما الادعاء بأنه جماعة ما هي جماعة المسلمين، وأن من عداها خارج عن الاسلام، فهذا قول الخوارج قالوا به من قبل، ولا يتبعهم فيه إلا كل خارج. فالاسلام شريعة مفتوحة للجميع لا تقتصر على جماعة ولا تقف على مجموعة، والمسلم هو من نطق بالشهادة وآمن بأركان الاسلام. وليس الاسلام هو انضمام لجماعة أو الانضواء تحت زعامة مرشد أو أمير أو رئيس بذاته. وتكفير أي مسلم عمل غير اسلامي، فضلا عن انه لا يجوز ان يكون هذا التكفير في باب السياسة وعلى مسرح التحزب، وهي مسائل بشرية وليست دينية بحال. أما فرض الآراء والقرارات والاتجاهات بالقوة والعنف، ورفع صيحة الحرب دوما، وتبريراغتيال الخصوم غشا واختيانا، والادعاء بان ذلك كله جهاد في سبيل الله، فهو أمر مناف للاسلام ومجاف للشريعة”[18].

إذا، المؤلف محمد سعيد العشماوي، وبعد دخوله في محاججة فقهية، يتمسك برأيه في اعتبار الاسلام دينا يقوم على العبادات والطقوس والامور الروحية، وهو بعيد كل البعد عن التطبيق السياسي الرامي إلى الحكم والسلطة، موضحا مخاطر جماعات الاسلام السياسي على الوطن والناس، ومطالبا بوضع برامج فكرية ومناهج تعليم صحيحة للرد على هذا الخطاب ونسف أسسه الفكرية، وتقديم الخطاب المتعدل المدعم بالحجج والبراهين الآتية من الكتاب والسنة وآراء الفقهاء والشيوخ المقتدرين المقدرين. وهذا الخطاب هو القادر على تحجيم جماعات الاسلام السياسي ونشر الفكر المعتدل بين عامة المسلمين. والأفكار التي قدمها المؤلف مهمة للغاية سيما في وقتنا الحاضر، حيث تمدد جماعات الإسلام السياسي الجهادي، والتي نشرت العنف والإرهاب والقتل والتخريب في العديد من المناطق في العالم الاسلامي، وبشكل خاص في الدول العربية بعد ظهور ما سمي بـ”الربيع العربي”.

—-

*باحث في الإٍسلام السياسي. من فريق المركز الكردي للدراسات. 

——

إشارات:

[1] ـ محمد سعيد العشماوي: الاسلام السياسي. مكتبة مدبولي الصغير. القاهرة، مصر. الطبعة الرابعة 1996 م.

[2] ـ المصدر السابق. ص 22 و23.

[3] ـ محمد أركون: الفكر الإسلامي: قراءة علمية. ترجمة هاشم صالح. من اصدارات مركز الإنماء العربي. بيروت، لبنان. الطبعة الثانية 1996 م. ص 145.

[4] ـ محمد سعيد العشماوي: الاسلام السياسي. مصدر سبق ذكره. ص 26.

[5] ـ سيد قطب: في ظلال القرآن. الجزء الثالث. دار الشروق. القاهرة، مصر. الطبعة السابعة عشر 1991 م. ص 1256.

[6] ـ  خليل علي عبد حيدر: التطور السياسي لدولة الحركات الإسلامية. مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية. الامارات، أبو ظبي. الطبعة الأولى 1997 م. ص 1 و2.

[7] ـ محمد سعيد العشماوي: الاسلام السياسي. مصدر سبق ذكره. ص 66.

[8] ـ نفس المصدر. ص 77.

[9] ـ نفس المصدر. ص 92.

[10] ـ نفس المصدر. ص 112.

[11] ـ عبد الوهاب المؤدب: أوهام الإسلام السياسي. ترجمة: محمد بنيس والمؤلف. دار النهار. لبنان، بيروت. الطبعة الأولى 2002 م. ص 16.

[12] ـ محمد سعيد العشماوي: الاسلام السياسي. مصدر سبق ذكره. ص 143.

[13] ـ نفس المصدر. ص 152.

[14] ـ نفس المصدر. ص 177.

[15] ـ نفس المصدر. ص 184.

[16] ـ نفس المصدر. ص 212.

[17] ـ نفس المصدر. ص 242.

[18] ـ نفس المصدر. ص 299.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد