المدينة والقرية في حرب “طالبان”

منذ مطلع شهر أيار/ مايو الماضي، تشن حركة طالبان هجوماً كبيراً على القوات الأفغانية، مستغلةً بدء انسحاب القوات الأجنبية الذي من المقرر أن يكتمل بحلول نهاية آب/أغسطس. وسيطرت الحركة على مناطق شاسعة، ريفية، ومعابر حدودية مهمة مع إيران وتركمانستان وطاجيكستان وباكستان، لكنها تفتقر إلى حضور اجتماعي في المدن، حيث تنخرط مجموعات كبيرة من المتطوعين في صفوف القوات الأمنية التابعة للحكومة، أو ميليشيات تعيد تشكيل نفسها على أنقاض ما كان يعرف بـ«تحالف الشمال» الذي شارك في الإطاحة بحركة طالبان مع القوات الغربية عام 2001.

تستمد نزعة المقاومة الاجتماعية ضد حركة طالبان قوتها من المدن الرئيسية، في سعيٍ للحفاظ على مكتسبات حصلوا عليها خلال السنوات الماضية، مثل التعليم وقيود أقل بكثير على الحريات مقارنة مع حقبة طالبان، ومرونة كبيرة في حركة المرأة الطبيعية في الشارع بعيداً عن قيود الشريعة التي تتبناها الحركة حيث تحظر سير المرأة في الشارع بدون مرافق من العائلة. هذه المظاهر العنيفة ضد حركة المجتمع الطبيعية، تولّد مقاومة متزايدة لإسناد الحكومة، حتى حين تكون هذه الحكومة مثقلة بالفساد وسوء الإدارة، ذلك أن تجربة تنظيم داعش في سوريا والعراق أيضاً، للمقارنة، استفزت شرائح اجتماعية ودفعت بها إلى الجبهات المقاوِمة ضد التنظيم، أو المتلهفة لزواله، ليس بسبب أحكام قطع الرأس والأيدي ورجم النساء، بل لأمور أبسط بكثير، مثل تحريم التدخين وفرض نمط صارم من الملابس في المناطق التي سيطر عليها، أي السيطرة على جسد الفرد كاملاً.  

استنزاف الطبقة الوسطى

على أنه في مقابل اتساع حركة المقاومة ضد طالبان من مصدَرَيْن، بقايا تحالف الشمال، والطبقة الوسطى، الهشة، في المدينة، فإن البلاد شهدت استنزافاً تفضّله حركة طالبان، طالت الفئة الأكثر تعلماً في المدن. ورصدت تقارير الارتفاع معدلات الهجرة بين الفئات المتعلمة خلال الأسابيع الأخيرة، رجالاً ونساءً. وكان لافتاً في تصريحات أدلى بها زعيم طالبان، هبة الله أخوند زاده، في 19 تموز/ يوليو، حول رؤيته لمستقبل أفغانستان في ظل ما أسماه «الإمارة الإسلامية» حديثه عن على محو الأمّية، مؤكدا أن «الإمارة الإسلامية ستحرص خصوصاً وستبذل جهوداً من أجل خلق بيئة مناسبة لتعليم الفتيات في إطار الشريعة الإسلامية العظيمة»، فيما كانت الفتيات تحت حكم الحركة ممنوعات من الذهاب إلى المدرسة والنساء ممنوعات من العمل. ونُسب عدد كبير من الهجمات ضد مدارس إلى حركة طالبان في السنوات العشرين الأخيرة، رغم عدم تبنيها من أي جهة. والتصريح يؤشر إلى عودة القيود على تعليم الفتيات كما كان خلال حكم الحركة بين 1996 و2001.

يحاول المتعلمون الحصول على منح دراسية أو استثمارات والتوجه إلى البلدان المجاورة أو تركيا، وفقاً لتوماس راتيج المحلل في مركز أبحاث «شبكة محللي أفغانستان» في كابول. ويحاول آخرون كثيرون شق طريقهم إلى إيران. وذكر محمد كاراتاس رئيس جمعية حقوق الإنسان في إقليم «وان» المتاخم لإيران إن الإقليم يعج بالمهاجرين من أفغانستان. وقال كاراتاس لوكالة الأنباء الألمانية (د.ب.أ)، إنه يستطيع تأكيد تقارير إعلامية تفيد بأن ما يقدر بألف مهاجر يعبرون الحدود كل يوم.

ويبدو هروب السكان حركة استباقية لما يمكن أن يلقوه في حال سيطرة الحركة على البلاد. فقد دعت طالبان سكان المدن الأفغان إلى الاستسلام لتجنب المعارك في المدن. وقال أمير خان متقي وهو مسؤول كبير في الحركة في تغريدة نشرها ناطق باسم طالبان، الأسبوع الماضي: «الآن ومع انتقال المعارك من الجبال والصحارى إلى أبواب المدن لا يريد طالبان القتال داخل المدن»، داعياً المدنيين إلى التواصل مع الحركة وتجنيب مدنهم الحرب.

المقاومة = الميليشيات

يطوّق المتمردون عواصم بعض الولايات لكنهم لم يشنّوا مؤخراً أي هجوم كبير ضد هذه المدن، باستثناء عملية قصيرة في «قلعة نو» عاصمة ولاية بدغيس، التي كانوا قد طردوا منها بعد معارك دامت أياماً. وفي الأيام الأخيرة انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي صور ومقاطع فيديو لشخصيات أفغانية بارزة بينهم نساء ونواب في البرلمان وهم يحملون السلاح ويتعهدون بمحاربة طالبان.

وتجد الطبقة المدينية التي تتمسك بمكاسب بسيطة، لا تتعدى سير المرأة في الشارع، أو تسجيل الفتيات في مدارس مدنية، نفسها مضطرة للتقارب مع القادة غير المرغوب فيهم، أي زعماء الميليشيات الإقليمية المناهضين لحركة طالبان، وهم زعماء تقليديون بلغوا مرحلة متقدمة من العمر، أبرزهم عبدالرشيد دوستم، زعيم الأوزبك الأفغان، وإسماعيل خان، أحد زعماء الطاجيك. لكن جيلاً جديداً أيضاً ظهر لقيادة «المقاومة الأفغانية»، منهم نجل أحمد شاه مسعود، الذي ظهر الأسبوع الماضي يتجول في سيارة دفع رباعي في منطقة ذات غالبية من الطاجيك، حيث قاعدة نفوذه الرئيسية.

ومنذ الهجوم الكبير لطالبان، لوحظ تصدر أسماء أمراء الحرب المشهد مقابل تراجع أسماء الشخصيات الرسمية، مثل قادة القطع العسكرية والأمنية والشرطة في أنحاء البلاد. وأدى تخلخل دفاعات القوات الرسمية في التصدي للهجوم حتى الآن إلى ازدياد شعبية قدامى أمراء الحرب، حيث خرج أبرز زعيم في إقليم هرات، إسماعيل خان، من العزلة التي فرضها عليه الرئيس أشرف غني، بسبب نزعة خان المحلية في إدارة هيرات وكأنه أميرها المستقل. لم يعد الأمر كذلك في هذه الأيام. حيث بات الرجل السبعيني إسماعيل خان، الذي يحظى بشعبية قتالية بين الطاجيك والهزارة، ونفوراً من الطبقة البورجوازية المدينية، أحد أبرز الشخصيات المتطوعة لصد هجوم طالبان. وتعهد في خطاب له مطلع شهر تموز/ يوليو، بحمل السلاح مجدداً مع اقتراب مقاتلي الحركة من معقله في هرات غرب البلاد.

في منتصف التسعينيات، حقق خان مع مقاتليه سلسلة انتصارات ضد طالبان بعد وصول الحركة إلى السلطة للمرة الأولى، لكنه اضطر للفرار إلى إيران مع الآلاف من رجاله عام 1995 بعد انشقاقات لحلفائه. وعام 1997 بعد عودته إلى البلاد لقيادة تمرد ألقت طالبان القبض عليه وسجنته لكنه تمكن من الفرار سجنه في قندهار بعد ذلك بعامين، وظل طليقاً حتى الغزو الأمريكي عام 2001. وشغل خان منصباً وزارياً في حكومة الرئيس السابق حامد كرزاي، لكنه معروف بتفضيله حكم ولاية هيرات التي يقول منتقدوه إنه يهيمن عليها وكأنها ملكه الخاص.

ويقول المحلل في «مؤسسة الدفاع عن الديموقراطيات»، بيل روغيو، في تقرير لوكالة فرانس برس: إن «أكثر ما يفاجئ في هجوم طالبان هو تركيزه على الشمال والغرب. طالبان توسع رقعة المعارك إلى أعتاب صناع القرار في أفغانستان». مضيفاً: «إِنْ حُرم أمراء الحرب وغيرهم من القادة النافذين من القواعد المؤيدة لهم في شمال البلاد وغربها، تسقط الحكومة الأفغانية».

وتتوقع أجهزة الاستخبارات الأمريكية إمكانية سقوط الحكومة في كابول في فترة تتراوح بين ستة إلى 12 شهرا بعد الانسحاب الأمريكي، بحسب تقرير آخر لـ”فرانس برس”، غير أن الحركة نفسها تبدو وكأنها لا تفضل، في المرحلة الحالية، سيناريو السيطرة الكاملة بالقوة على بلاد منقسمة بشدة، مستفيدة من تجربتها في الحكم بين 1996 – 2001، وقبل ذلك تجربة الجهاديين. وبطبيعة الحال، لم تعد الحركة تحظى بالقبول الذي كان سابقاً خلال حكمها، من قبائل البشتون، وأكبرها كلزاي، التي ينحدر منها عدد كبير من الوزراء والمسؤولين في الحكومة الأفغانية الحالية، وكلزاي هي القبيلة التي قادت الغزو الأفغاني لإيران وأطاحت بالحكم الصفوي عام 1722. وفي وقائع احتلالها الدموي لإيران، أصاب الخراب بلاد إيران، وكادت تخلو مدن كبرى فيها، مثل أصفهان، من السكان.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد