أمريكا اليسارية

في أواسط ثمانينات القرن الماضي استلم ميخائيل غورباتشوف قيادة الحزب الشيوعي السوفيتي وبالتالي استلم قيادة دولة الاتحاد السوفيتي العملاقة، وبصيغة ما قاد الأحزاب الشيوعية على الصعيد العالمي. رفع شعار التغيير والتجديد الذي عرفت ب(بيروستريكا)، وانجذب لفكرته مئات الحركات اليسارية التجديدية، كما تحفظت عليها بعض الأحزاب الشيوعية، ما يهمنا أن أجيال من الشباب قد تحمس للتغيير بشكل كبير عهدئذ، وانبهروا بشعار البيرويستريكا المركزي (مزيد من الديمقراطية يعني مزيد من الاشتراكية)، لكن بعد سنوات قليلة فشلت البيروستريكا وانهارت المنظومة السوفيتية وتفككت الى دول لا هي قومية تماما ولا هي اشتراكية ومازالت تكافح لتصل ركب الدول الرأسمالية. في السنوات العشرين التي تلت تفكك الاتحاد السوفيتي وانهيار جدار برلين روجت لنظريات عديدة كما تعالت أصوات أيديولوجية تمجد النظام الرأسمالي وتبشر بالنصر النهائي للأفكار الليبرالية، في حين نشرت كتب وفرضيات تمجد انتصار الغرب، كصدام الحضارات ونهاية التاريخ، لتروج لانتصار الليبرالية وحتمية انتصار الثقافة الغربية وسيادة الديمقراطية الليبرالية الغربية كشكل أخير لحكم البشرية…

   بمسح سريع للأحداث التي مرت طوال هذه الحقبة يتبين أن سيادة القطب الواحد وانتصار الرأسمالية المزعوم لم يتمكنا من الإجابة على أسئلة العصر ولا حل مشكلات العالم الجوهرية. وبقدرة قادر أو بترتيب ما، وصل مطلع القرن الواحد والعشرون مجموعة دينية (خلاصية) من ضمن الحزب الجمهوري الأمريكي الى قيادة أمريكا، وخاضت أيضا بقدرة قادر حربا ضروسا على منظمات متطرفة إسلامية في أفغانستان والعراق وغيرها.

 يبدو أن اختزال مشكلات العصر في حروب التطرف لم ولن تحل معضلة العصر الأساسية الكامنة في الصراعات الاقتصادية الكبرى وما يشتق منها من صراعات ثانوية تتمظهر بمختلف الأشكال، لا يمكن إخفاء جوهرها، وما ظاهرة ترامب إلا إحدى أوجه المعضلة. ويبدو أنه قد تأكد للأمريكيين أولا وللغرب تاليا أن الترامبية  هي جزء من المشكلة وليست مرحلة في مسار الحل.

 إن البحث في عمق المعضلة السياسية والأخلاقية التي تمر بها البشرية راهنا ربما لا تحتاج للتعمق كثيرا في بطون الكتب الفكرية والسياسية لمقاربتها وتشخيصها، فقراءة متأنية لمقال طويل على شكل برنامج انتخابي كتبه المرشح الديمقراطي جو بادين قبل أيام، تحت عنوان مركب يساهم في ملامسة جوهر المشكلة: لماذا يجب أن تقود أمريكا مرة أخرى، إنقاذ السياسة الخارجية الأمريكية بعد ترامب. (Why America Must Lead Again. Rescuing U.S. Foreign Policy After TrumpBy Joseph R. Biden, Jr. January 23, 2020)

 يساهم بايدن في المقال إعادة قراءة المشهد المتشابك للسياسات المعاصرة. ينطلق المرشح للرئاسة من فكرة أولية تكمن في ضرورة تصحيح السياسات الأمريكية بدءا من نقد سياسات ترامب وتيار من الجمهوريين، كما يحدد بالتوازي مع هذه الانتقادات الخطوط العامة لسياسته إن استلم رئاسة أمريكا، ويعنونها بإدارة (بايدن القادمة). ونظرا لطول المقال وكونه يخص في كثير من جوانبه المجتمع الأمريكي، سأقتصر الإشارة الى ظاهرة تركيزه الشديد على الديمقراطية وضرورة ايلائها الأهمية القصوى منطلقا من إشكالية الديمقراطية الأمريكية: حتى نحمي الديمقراطية في العالم وندعمها ضد الفاشية والاستبداد يجب تصحيح وتفعيل الديمقراطية داخل أمريكا وأن نعزز تحالف الديمقراطيات على صعيد العالم… علينا أن نثبت للعالم أن الولايات المتحدة مستعدة للقيادة مرة أخرى، ليس فقط بنموذج قوتنا ولكن أيضًا بقوة نموذجنا وتجربتنا الناجحة… بعد أن نتخذ الخطوات الأساسية لتعزيز الأسس الديمقراطية للولايات المتحدة، سأدعو زملائي القادة الديمقراطيين في جميع أنحاء العالم إلى وضع الديمقراطية مرة أخرى على جدول الأعمال العالمي. لأن الديمقراطية تتعرض اليوم لضغوط أكثر من أي وقت مضى، ويجب أن نعلم بأن الديمقراطية تزيد من قوة حلفائنا وتوسع قدرتهم على المحافظة على السلم العالمي. الديمقراطية محرك قوتنا وتنميتنا، وهي جوهر وجودنا، وهي رؤيتنا للعالم، وهي ما يريد العالم أن يرانا عليه، فالديمقراطية تسمح لنا بتصحيح أخطائنا بشكل متواصل. يجب أن نسد كل الثغرات التي تفسد وتحرف ديمقراطيتنا. فقد وصلت الضغوط على الديمقراطية لأقصى حد منذ عام 1930، من هونج كونج حتى السودان ولبنان، المواطنون يطمحون الى الحكم الرشيد ويعبرون عن الرفض للفساد. الحكام المستبدون يحاولون تجزئة وهزيمة الديمقراطية على مستوى العالم. في الوقت الذي يطمح ديمقراطيو العالم الى المساندة الأمريكية ودعمهم لتوحيد الجهود في سبيل الليبرالية والحريات، اصطف ترامب مع الطرف الآخر الاستبدادي ضد القيم الأمريكية بل ازدرأ الديمقراطية لأول مرة في تاريخ الحكم الأمريكي، ومد يد العون للدكتاتوريات في العالم.

وفي سياق ربطه الدكتاتوريات بالفساد يربط الديمقراطية بالمستوى الاقتصادي المتقدم: فيطلق بايدن وعوده بتحسين المستوى الديمقراطي في العالم وتوحيده، كما يحيلها إلى توحيد الجهود لمواجهة الممارسات الاقتصادية المسيئة والحد من عدم المساواة. ويركز على دعم الطبقة الوسطى: النجاح الاقتصادي يبدأ من الداخل، من خلال تعزيز أعظم رصيد لدينا، طبقتنا المتوسطة. والتأكد من أن كل شخص يمكنه المشاركة في نجاح البلد… وقيادة ثورة الاقتصاد النظيف لخلق عشرة ملايين وظيفة جديدة وجيدة، بما في ذلك الوظائف النقابية في الولايات المتحدة. سأجعل من الاستثمار في البحث العلمي والتنمية حجر الزاوية في سياساتي الحكومية.

الملفت أنه يهاجم سياسة بوتين ويصفه بممثل الحكومات اللصوصية (Kleptocracy) مؤكدا على مواجهة لصوصية حكومة بوتين، الذي يريد أن يقول لنفسه ولأي شخص آخر يمكن أن يخدع في تصديقه، أن الفكرة الليبرالية “عفا عليها الزمن”. لكنه يفعل ذلك لأنه يخاف من قوتها، لا يمكن لأي جيش على وجه الأرض أن يطابق الطريقة التي تنتقل بها فكرة الحرية الكهربائية من شخص لآخر، ويقفز فوق الحدود، ويتجاوز اللغات والثقافات، يشحن مجتمعات المواطنين العاديين اضافة إلى النشطاء ووكلاء تغيير. يتعين علينا أن ندافع عن الحرية والديمقراطية، وأن نستعيد مصداقيتنا، وننظر بتفاؤل ثابت وعزم نحو مستقبلنا.

كما يقوم بايدن بالتقييم: هذه الأهداف طموحة، ولا يمكن الوصول إلى أي منها دون أن تقود الولايات المتحدة،  التي تحيط بها الدول الديمقراطية، وتسير على طريق الريادة… الجواب على هذا التهديد هو المزيد من الانفتاح، وليس أقل: المزيد من الصداقات، مزيد من التعاون، مزيد من التحالفات، مزيد من الديمقراطية.

 ومع شعاره الأخير أي: مزيد من الديمقراطية، نتذكر  شعار غورباتشوف المركزي، وكأن بايدن يكرر بعد أكثر من ثلاثين سنة، أن مزيد من الديمقراطية هي مزيد من الرفاهية، وبالتالي مزيد من التنمية من منظار أمريكي.

لا شك أن بايدن فجر من جديد حاجة العالم الرأسمالي عموما وحاجة أمريكا خصوصا لمزيد من الديمقراطية، ومزيد من العدل ومزيد من الاقتراب من الرأسمال الاجتماعي، صحيح أنه يبدو خارجا من عباءة أوباما الذي كان أكثر يسارية منه، وبالتالي أكثر انفصالا عن واقع أمريكا، لكن هذا الخطاب اليساري للحزب الديمقراطي في أمريكا يدق من جديد خطر الإنذار والتذمر من الرأسمال المتوحش  بقيادة ترامب.

   إن خطاب بايدن ومن معه من الديمقراطيين يجر معه تساؤل مصيري يتلخص في: هل الديمقراطية باتت يسارية وقريبة من الاشتراكية بعلاقة جدلية لا فكاك منها؟! ثمة حقيقية موضوعية ترسخت في السنوات الثلاثين الماضية، منذ فشل تجربة البيرويسترويكا والى محاولة أوباما شحن وتفعيل الرأسمال الاجتماعي، حقيقة أن محاولة غورباتشوف الفاشلة للربط الوثيق بين الاشتراكية والديمقراطية برفع شعار مزيد من الديمقراطية مزيد من الاشتراكية، وكذلك فشل أوباما في قيادة أكبر رأسمالية في العالم تحت شعار ربط الرأسمال الاجتماعي بمستويات متقدمة من الديمقراطية واللبرلة، لم تفقد الأمل لدى قادة آخرين للكشف عن الجوهر الإنساني للديمقراطية وضرورة مؤازرتها على مستوى العالم. وعلى الرغم من فشل تجربة القطبين سابقا، وزيادة الشكوك حول نجاح مشروع الديمقراطيين (الديمقراطي الاجتماعي الجديد في أمريكا)، فالحقيقة التي تفرض نفسها بإلحاح تكمن في أن العلاقة مازالت عضوية وجدلية بين الاشتراكية والديمقراطية، فمن الصعب لواحدة منها أن تتقدم وتترسخ في العالم المعاصر بدون الأخرى، بعيدا عن الأدلجة والحتميات التاريخية.  

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد