حزب “العدالة والتنمية”: من التأسيس إلى التمكين ثم الأطماع العثمانية!

في الثاني والعشرين من يونيو/حزيران 2001، قضت محكمة الدستور التركية بحل حزب الفضيلة الإسلامي الذي كان يرأسه نجم الدين أربكان، فخرج منه عدد من النواب الذين كانوا يمثلون الجناح المتشدد بالحزب ليؤسسوا حزبا جديدا باسم ” حزب العدالة والتنمية”. وهؤلاء كانوا ذو توجه تراثي ماضوي، أطلق عليهم بعض المحللين والمراقبين الغربيين لقب “العثمانيين الجدد”. وتصدر إلى واجهة هؤلاء، وبالتالي هذا الحزب الجديد، رئيس بلدية اسطنبول السابق، رجب طيب أردوغان، والذي دخل السجن بسبب قصيدة تحريضية تهدد السلم الاهلي، قالها في احتفال انتخابي.
وبعيد تأسيس حزب العدالة والتنمية، خرج أردوغان ليقود عملية أسلمة كبيرة وشاملة للحياة العامة التركية، غلفها بطابع قومي تركي واضح، يحافظ على الهوية التركية الاحادية ويمنع أي تجليات لهويات أخرى موجودة. وبدأت اوساط الحزب تروج لأردوغان على انه “صاحب مشروع اسلامي كبير”، وانه يريد ان يحقق “الوحدة الاسلامية”، مع اشادة واضحة بالتاريخ العثماني، واحتفاء برموز الامبراطورية العثمانية، في توق لا تخطئه العين إلى الهيمنة واعادة السيطرة التركية على مجمل الشرق العربي تحت غطاء الدين و”الاخوة الاسلامية”.
وبدأ أردوغان يزايد في القضية الفلسطينة، ويطلق التصريحات المؤيدة للحق الفلسطيني، ظاهرا، مع بقاء معظم الاتفاقيات العسكرية والاقتصادية سارية المفعول مع اسرائيل. كذلك استعان أردوغان بالاستاذ الجامعي احمد داود أوغلو، المنظر لنظرية “صفر مشاكل”، ومسوق “العثمانية الجديدة”، في اطار ما قال انه التفات إلى العالم الاسلامي وانصراف عن الغرب. لكن الحوادث برهنت بان اردوغان كان يريد الاستحواذ على هذا العالم الاسلامي ومصادرة قرار وسيادة دوله، والحاقها كتوابع بالدولة التركية.
هذه “العثمانية الجديدة”، الفكرة التي سوّق لها داود أوغلو، والذي انشق عن الحزب لاحقا، بالقول في 23 نوفمبر/تشرين الثاني 2009، خلال لقاء مع عدد من نواب الحزب: “إن لدينا ميراثا آل إلينا من الدولة العثمانية. إنهم يقولون إننا عثمانيون جدد. نعم نحن عثمانيون جدد. ونجد أنفسنا ملزمين بالاهتمام بالدول الواقعة في منطقتنا. نحن ننفتح على العالم كله، حتى في شمال إفريقيا. والدول العظمى تتابعنا بدهشة وتعجب”.
وبدأت نبرة التفاخر والاستعلاء تتضح مع الزمن في خطاب أردوغان وطاقمه الذي يدير هذا الحزب الديني المتطرف. وكان التركيز أكثر على القضايا الخارجية، حيث التصرف والاعتقاد بان تركيا هي الدولة العظمى، وهي الدولة العثمانية الجديدة، وان بقية الدول في المحيط، ما هي إلا ولايات تابعة للسلطان الجالس في أنقرة. ورافق هذه السياسة تغلغل كبير في مؤسسات الدولة والسيطرة على قطاعات الاعلام والشرطة والقضاء والتعليم والجيش، حيث تم استبعاد الكوادر والشخصيات التي لم تقبل بخطاب الاسلام السياسي، وبرامج الاسلمة المطلقة، الذي اراده أردوغان وحزبه المنهاج الوحيد الاوحد في تركيا.
وبدأت القوى الديمقراطية في تركيا تشهد كيف يقوم حزب العدالة والتنمية بتطبيق “خطة سرية لأسلمة البلاد”، من خلال تعيين مسؤولين كبار في الدولة “أوفياء له تخرجوا في مدارس تأهيل الأئمة”. وبحسب ما يقول سونر چاغاپتاي هو زميل أقدم ومدير برنامج الأبحاث التركية في معهد واشنطن، فإن “أردوغان” انفصل تدريجياً عن نموذج السياسة الخارجية التركية التقليدي، والذي تمحور حول الغرب وتوخّى المصلحة الذاتية، وتبنّى سياسة خارجية نشطة وقائمة على الإمبريالية الجديدة. ووفقاً لذلك وجّه تركيا نحو الشرق الأوسط من أجل بسط النفوذ على سياسة المنطقة والاستحكام بدولها عبر تأييد ودعم قوى الاخوان المسلمين وغيرهم من المجموعات المعارضة غير الوطنية، من تلك التي تقبل العمل باجندة الخارج والارتهان لأوامر جهات لا تريد خير البلاد والعباد في بلدها. وجاءت هذه السياسة من قبل أردوغان وحزبه، اعتقادا منهم بأنه يمكن لتركيا أن تصبح قوة عظمى إذما أصبحت رائدة في الشرق الأوسط أولاً، ولها كلمة الفصل في شؤون دول هذه المنطقة، وبشكل خاص الدول العربية.
وبدأ أردوغان ينفذ خطة مدروسة وممنهجة لتصفية خصومه السياسيين، الذين يعتقد بانهم يقفون في وجه سياسته الرامية لاسلمة البلاد وتوطيد “العثمانية الجديدة”. فجرت مجموعة من المحاكمات بين عامي 2008 و2011، عُرفت باسم محاكمات “إرغينيكون”، سَجن “أردوغان” ما يقرب من ربع جنرالات تركيا بمساعدة النيابة العامة والشرطة التي اصطفت إلى جانب حركة السياسي الإسلامي التي يتزعمها فتح الله غولن، حليفه في ذلك الوقت. وخلال صيف عام 2011، استقال كبار ضباط الجيش التركي بشكل جماعي، مقرّين بفوز أردوغان وغولن في النزاع مع الجيش على السلطة. وفي ذلك الوقت تقريباً في عام 2010، نجح أردوغان في استفتاء بمساعدة حلفائه في “حركة غولن”، الأمر الذي منحه صلاحيات في تعيين غالبية القضاة في المحاكم العليا في البلاد دون إجراء عملية إقرار.
ولاحقا، وفي اطار الاستحواذ على كل المؤسسات والسلطات والانفراد بالحكم في تركيا، انقلب اردوغان على حليفه فتح الله غولن، وبدأ صراع مرير بين الطرفين، عمد فيه انصار غولان إلى تسريب وثائق واشرطة تسجيل اثبات رشاوي وعملات فساد، توضح محادثات بين أردوغان ونجله تدور حول ضرورة اخفاء ملايين الدولارات في امكنة آمنة، وهو الامر الذي طعن في مصداقية أردوغان امام المواطن البسيط المسحوق في ظل الازمات الاقتصادية والغلاء المتفشي. ولاحقت الفضائح مسؤولين قريبين من أردوغان وافراد من عائلته، وهو الامر الذي دفع أردوغان للانتقام من غولن عبر سيناريو المحاولة الانقلابية عام 2016، من اجل اجتثاث مؤسسات غولان وملاحقتها بتهمة الارهاب والخروج على القانون.
لقد وجد أردوغان في بدايته الحضن الدافئ في أوروبا. حيث تم تسويق حزبه على أنه نموذج للاسلام المعتدل، وانه رد اسلامي على خطاب التطرف والاصولية الاسلامية، وزواج مشروع بين الاسلام والسياسية، لكن على أسس ديمقراطية وبانتخابات نزيهة. وقد استغل أردوغان نزعة الحكومات في الغرب الى التهدئة مع العالم الاسلامي بعد مرحلة الحادي عشر من ايلول 2001 والحرب على الارهاب، ومحاولة عزل الحركات الارهابية عبر استقطاب الاغلبية المسلمة. وقدم اردوغان نفسه كواجهة معتدلة ونموذج اسلامي مرن يحترم الديمقراطية وقيم الغرب، مطالبا بدعمه وتأييده. فتم له ذلك، حيث اغدق عليه الغرب الاموال والدعم السياسي في العديد من الميادين. ولكن وبعد سياسات الاقصاء وتكميم الافواد والتضييق على المعارضة وقمع الشعب الكردي وتدمير مدنه وقراه، والتحالف مع المجموعات المتطرفة الجهادية في سوريا، تبين للغرب بان الرهان على اردوغان وحزبه كان رهانا خاطئا، وان مشروع اردوغان لا يختلف عن مشروع اي تنظيم اسلامي استبدادي مسلح: الوصول الى السلطة واقصاء الاخرين والبدء في الاستيلاء على مقدرات البلاد وقمع الاخر بكافة الوسائل بما فيها القوة الغاشمة. وبدأ الغرب يكتشف نوايا أردوغان، حيث التحالف مع الجهاديين والتدخل في شؤون الدول الاوروبية عبر استخدام الجاليات المسلمة، والتهديد بنقل الحروب الى اوروبا، واغراقها بملايين اللاجئين.
ورغم محاولاته استمالة الكرد في البداية، وذلك عبر اطلاق الوعود بحل القضية الكردية، الا ان أردوغان استخدم لاحقا سياسة قمع منقطعة النظير ضد الشعب الكردي. فتوسع في الحرب العسكرية ضد حزب العمال الكردستاني الذي اعلن عن وقف اطلاق النار لعدة مرات، مبديا استعداده للحوار والحل السلمي السياسي، كما رفض التحاور مع القائد الكردي عبد الله اوجلان، الذي اعلن استعداد الكرد عن التخلي عن السلاح مقبل الاعتراف بالشعب الكردي بضمانات دستورية. وكانت الحادثات بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني قد وصلت لمرحلة متقدمة، لكن اردوغان اعطى الاوامر بانهاءها والعودة الى سياسة الحرب والاعتقالات والتصفيات وتدمير المدن والقرى الكردية. وصعد اردوغان من الحرب بعيد هزيمة حزبه في انتخابات حزيران 2015، حيث لم يحظى حزب العدالة والتنمية سوى ب 40% من الاصوات، مقابل تصدر حزب الشعوب الديمقراطي الكردي بنسبة 13%. وقد الغى أردوغان نتائج هذه الانتخابات، واعلن عن انتخابات جديدة في تشرين الاول من نفس العام، ولكن بعد اعلان التحالف مع حزب الحركة القومية المتطرف، وشن حملة حرب كبيرة ضد الكرد، بما في ذلك الايعاز بالقيام بمجموعة من التفجيرات طالت المظاهرات والاحتفالات الكردية، خلفت مئات الضحايا من المدنيين، وقد لمح داود اوغلو لاحقا حول مسؤولية اردوغان شخصيا عن هذه الانفجارات، اثناء اتهامه بانه هو من يقف وراء العديد من الاعمال الفظيعة التي جرت في الفترة ما بين الانتخابات البرلمانية الاولى والثانية عام 2015.
وبعد تلك الفترة عمد اردوغان إلى سجن رئيسي حزب الشعوب الديمقراطي، وسجن عدد من البرلمانيين، وابعاد رؤوساء البلديات في المنطقة الكردية ومصادرة السلطات لصالح ممثلين عن الحكومة، وملاحقة النشطاء الكرد وتوسيع اعمال الاغتيالات والتخريب ضد الكرد في داخل وخارج تركيا. كما جمع اردوغان المجموعات الجهادية التكفيرية السورية في اطار عسكري موحد سماه “الجيش الوطني السوري”، والذي يقوم الان بمهاجمة مناطق شمال شرق سوريا بدعم من الجيش التركي وقواه البرية والجوية، موقعا القتل في المدنيين الآمنين، ومحتلا مساحات من اراضي دولة جارة مستقلة، هي سوريا، دون اي اعتبار للقانون الدولي وحقوق الجيرة.
لقد تسبب الغزو التركي لمناطق شمال شرق سوريا بمقتل مئات الابرياء وتشريد مئات الالاف وتخريب كبير في البنية التحتية، ليس لاي سبب سوى لرفض الكرد التسليم لاردوغان ومجموعاته التكفيرية، وحمايتهم لأرضهم عبر العمل المشترك بين كل المكونات، ومحاربة الارهاب الداعشي الذي انتصر عليه الكرد والعرب والسريان والأرمن بفضل تكاتفهم ووحدتهم، ودعم التحالف لهم.
إن مشروع “أردوغان” في “العثمانية الجديدة” يتضح الآن في شمال سوريا، وفي ليبيا وفي العراق وفي تدخله في الازمة الخليجية بدعم النظام القطري، ومحاولة تطويق مصر، ذات الدور الاستراتيجي الكبير، في كل من القرن الافريقي وقبرص. ان هذا المشروع له هدف واحد وهو بث الفوضى ودعم قوى العنف والارهاب والتخريب. ان اصابع الدولة التركية التي يقودها أردوغان ويسيرها الآن موجودة في كل بؤر التوتر والتخريب في العالم العربي. ان الجماعات التي تقوم الحكومة التركية بدعمها تروع الامنين، وتنشر العنف والفوضى وترفض الحوار والتفاوض والحل السلمي. ويلقى اردوغان الدعم من النظام القطري الذي قبل ان يتحول لوزارة المالية التي تمول جرائم الحرب والتخريب التركية في شمال شرق سوريا، ومنطقة الشرق الأوسط وعموم البلاد العربية التي ترفض حكم “العثمانية الجديدة” ذات الحلم المرضي الذي يجري ورائه اردوغان، وحول من اجله تركيا الى سجن كبير، وساحة من الفقر المدقع يعاني فيها المواطن الذي يئن تحت فواتير الحرب والتدخلات الاردوغانية في دول الجوار.
لقد آن الأوان للوقوف في وجه هذه السياسة التي تهدف حياة وأمن ولقمة المواطن، والتصدي لكل القوى التي ترتهن للمشروع الأردوغاني التخريبي وتعمل كبيداق في حربه المعلنة التي يظن بخياله المريض أنه قادر عبرها على تحقيق مشروعه الإمبراطوري في “العثمانية الجديدة”.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد