د. جبار قادر
تغنّی الکمالیون علی مدی القرن الماضي بالمکاسب الکبری التي تحققت لترکیا علی ید زعیمهم مصطفی کمال في معاهدة لوزان والتي عقدت بین الدول المنتصرة في الحرب العالمیة الأولی وترکیا المهزومة وذلك في تموز عام 1932 بمدینة لوزان السویسریة.
وکانت بنود المعاهدة حقاً نصراً کبیراً للأتراك في ظل سیطرة القوی الإستعماریة الکبری المعادیة لهم علی المنطقة والعالم. کما أن الظروف الدولیة المعقدة التي سادت منطقة الشرق الأدنی کانت في تضاد مع طموحاتهم القومیة المشروعة وکذلك أطماعهم التوسعیة العدوانیة. حدث ذلك في وقت کان السلطان/الخلیفة العثماني، والذي یتغنّی أردوغان وأتباعە بنظامە القروسطي المهترئ دون أيّ اعتبار للمعطیات والحقائق التاریخیة المعروفة، قد استسلم کلیاً لمطالب القوی الإستعماریة الکبری وتحوّل هو وبابە العالي الی ألعوبة بأيدیها.
یشیر أردوغان، خلال خطاباتە الیومیة والتي یلقیها علی أسماع رعایاە في الداخل الترکي وخارجه، إلی حکایة هو اختلقها ولکثرة ما کررها بدأ یصدقها، ألا وهي أنّ مدة صلاحیة معاهدة لوزان ستنتهي عام 2023 و”ستتحرر ترکیا من القیود التي فرضتها علیها بنود تلك المعاهدة وعند ذاك ستعمل علی استعادة أمجاد العثمانیین في العدید من دول الإقلیم”.
وهو یدغدغ بهذە المزاعم مشاعر القومیین والإسلامیین المتطرفین الأتراك. ویزین لهم أحلامهم التوسعیة وأطماعهم في أراضي الغیر ویؤکد بأن بلادهم ستدخل مرحلة جدیدة في تاریخها المليء بالبطولات وستتحول الی قوة کبری یحسب لها ألف حساب علی صعید العالم وسوف لن تحل قضیة في المنطقة بل وفي العالم دون أن تؤخذ مصالحها القومیة بنظرالإعتبار.
یطمح أردوغان بهذا الخطاب السیاسي الإنتهازي القومي المتشح بصبغة دینیة مزیفة الی تحقیق أغراض متناقضة. فهو یحمل من ناحیة مصطفی کمال وأنصارە مسؤولیة القبول ب”البنود المکبلة لحریة ترکیا وفقدان ولایات عثمانیة غنیة” بموجب بنود تلك المعاهدة.
کما یتهمهم بأنهم قبلوا بهذە الجغرافیا الصغیرة المعروفة الیوم بالجمهوریة الترکیة، فترکیا، علی حد تعبیر أردوغان في أکثر من مناسبة، أکبر بکثیر من (783562)کم2 الحالیة. وهو یکرر هذە العبارات والإشارات بصورة یومیة تقریباً وبطریقة عدوانیة تثیر شهیة الأوساط التوسعیة في ترکیا وتثیر مخاوف الشعوب المجاورة لها.
الحدیث المتکررعن عام 2023 کعام لتصفیة الحسابات التاریخیة، خلق نوعاً من البارانویا وتتحمل تأویلات عدیدة لدی عدد کبیر من الناس بأن ذلك العام سیشهد نهایة تلك المعاهدة وستتحرر ترکیا من أي قید یحد من نشاطاتها التوسعیة في سوریا، العراق، لیبیا والبحر المتوسط وغیرها، وسیکون النفوذ الترکي حاضرا في کل البلدان التي کانت یوما ما جزءا من الدولة العثمانیة.
ولکن هذا الخطاب یحمل في نفس الوقت في جنباتە إنتهازیة سیاسیة مقرفة لأردوغان وأتباعە، إذ یعمل في نفس الوقت لإرضاء القومیین المتطرفین الأتراك من الکمالیین وجماعات الذئاب الغبرمن خلال تمجید الذکری المئویة لقیام الجمهوریة الترکیة علی أیدي مصطفی کمال وأنصارە ویتعهد بأنە سیجعل منها دولة قویة یهابها ویحترمها الجمیع، وبذلك سیحقق أحلام الذین عملوا وضحوا من أجل تأسیسها.
إن التناقض الصارخ في هذا الباب یکمن في أن الخطاب السیاسي – الدیني لأردوغان وأتباعە یقوم علی التغني بالمیراث العثماني، بینما قامت الجمهوریة علی أنقاضه وعلی أسس مناقضة لها تماماً.
وهذا برأیي منتهی الإنتهازیة االتي یمارسها هذا الرجل. ولایخفی علی أحد بأن هذا الخطاب الذي یتبناە أردوغان یهدف في محصلتە النهائیة الی تقویض الأسس العڵمانیة التي قامت علیها الجمهوریة الترکیة عام 1923. إذ لایخفی علی أحد أن الدستور الترکي الحالي والذي یحکم بموجبە أردوغان وحزبە البلاد منذ 18 عاماً، فرضوا خلالها نمطاً إسلامیاً سیاسیاً علی جزء کبیر من المجتمع الترکي، لایزال یتضمن حزمة الأسس والمبادئ العلمانیة التي تبناها مصطفی کمال وحزبە، حزب الشعب الجمهوري في العشڕینات والثلاثینات من القرن الماضي. وهذە الحقیقة تقضّ مضاجع الأردوغانیین الذین یحلمون بالتخلص نهائیاً من ذلك الإرث العلماني الدکتاتوري الکمالي لیفرضوا دکتاتوریتهم السیاسیة – الدینیة الجدیدة بدیلاً لها.
هنا لابد من الإشارة الی مثال معبر عن هذە الحالة، فرغم حلم أردوغان بإطلاق تسمیة دینیة علی حزبە کالإخوان المسلمین مثلا، إلا أنە لایستطیع ذلك لأن الدستور یمنع تأسیس الأحزاب علی أسس دینیة أو عرقیة أو مناطقیة.
یستثمرأتباع أردوغان في الدول العربیة والإسلامیة هذا الخطاب الشعبوي للترویج له وإقناع أوساط واسعة من الناس بصحته وذلك في تناقض صارخ مع الحقائق التاریخیة المعروفة.
ولا یقتصر هذا علی الأنصار فقط، بل أصیب حتی جزء من الذین یعادون أفکارە بهذە العلة وصدقوا الحکایة ورکبهم الخوف والقلق من هذا السلطان الشبح.
لا تستند هذە الأسطورة إلی أيّ أساس قانوني أو تاریخي، فنصوص معاهدة لوزان منشورة في المئات من المصادر التاریخیة الرصینة وبمختلف اللغات، کما یمکن الإطلاع علیها في العدید من المواقع علی الشبکة العنکبوتیة العالمیة، مع ذلك نری عدداً کبیراً من الناس یصدقون هذە الأکذوبة ویقومون بنشرها والدعایة لها أو ضدها.
لعن اللە التطرف والتزمت الآیدیولجي، الدیني، المذهبي، القومي…الخ فهو یعمي الإنسان من رؤیة الحقیقة. لعل هذە الحکایة المختلقة تمثل نموذجا صارخا لهذە الظاهرة المدمرة. تتألف معاهدة لوزان من ١٤٣ مادة ولا تشیر في جمیع موادها بکلمة واحدة الی موعد إنتهاء صلاحیة المعاهدة. کما أن جمیع الوثائق الملحقة بها والمتعلقة ببنودها من إتفاقیات، بروتوکولات، ملاحق ومواثیق لاتشیر الی شئ من هذا القبیل. وبعکس ما یشاع بأن هناك مواد سریة لم تنشر، لا توجد أیة مادة سریة لهذە المعاهدة؛ إذ لایعقل أن تبقی مواد سریة لمعاهدة وقعت علیها دول عدیدة وصادقت علیها برلماناتها وتناولتها الصحافة في حینها وأصبحت مادة للدراسات التاریخیة علی مدی قرن من الزمن.
الأنکی من ذلك، أن النظام الدولي الذي کان سائداً آنذاك ونقصد بها نظام عصبة الأمم قد زال من الوجود وحلّ محلّها نظام جدید بعد الحرب العالمیة الثانیة عندما تأسست منظمة الأمم المتحدة دشنت معها مرحلة جدیدة من العلاقات الدولیة وورثت المنظمة الجدیدة بطبیعة الحال مجمل العهود والمواثیق السابقة؛ فهل یعقل أن لا یفکر الناس بکل هذە المعطیات ویسیرون خلف دعایات سیاسیة مغرضة.
في العادة تشیرالإتفاقیات والمواثیق التي توقع بین دولتین أو أکثر الی طریقة تجدیدها أو إعادة النظر في بنودها أو إلغائها أو إنسحاب طرف أو أکثر منها، إلا أن شئیاً من هذا القبیل لا یوجد في مواد معاهدة لوزان، وهذا أمر مفهوم، إذ أن إنهاء حرب کونیة وتثبیت مبادئ السلام وفرض نظام دولي جدید لا تبنی علی أسس وقتیة قابلة للتلاعب بها من قبل الدول والکیانات المارقة.تصوروا معي کم من الدول والإمبراطوریات زالت من الوجود مع نهایة الحرب العالمیة الأولی وکم من الدول والکیانات السیاسیة الجدیدة ظهرت علی الخارطة الدولیة منذ ذلك الوقت؟.
کم من الکیانات السیاسیة یجب أن تمحی من علی الخارطة وفق هذا الخطاب الدیماغوجي؟ وکم من الإمبراطوریات المنقرضة یجب بعث الحیاة فیها من جدید؟ وکم من الإتفاقیات الدولیة والأحلاف والمواثیق المنظمة للشؤون العالمیة یجب أن تلغی أو تعاد صیاغة بنودها ؟.
ووفق هذا السیناریو الخیالي، یجب أن یعدل کلّ هذا لأن سلطاناً نرجسیاً جدیداً ظهر في آسیا الصغری ویحلم بتزعم العالم الإسلامي من جدید. في حالة واحدة فقط یمکن أن یجري تغییر بعض الأمور في منطقة الشرق الأوسط، ونقصد بها إندلاع حرب کونیة جدیدة تکون ساحتها الرئیسیة بلدان هذە المنطقة.
لو کانت ترکیا تملك قوة عسکریة واقتصادیة کبیرة وتستطیع فرض شروطها عڵی الدول العظمی لکان بإمکانها طبعا المطالبة بإعادة النظر ببنود معاهدة لوزان قبل نصف قرن أوأقل أو أکثر من ذلك وتفرض صیاغة بنودها بالطریقة التي ترغب فیها، إلا أنها لم تملك مثل تلك القوة ولاتملکها الآن لتفرض ما ترغب فیە علی الدول العظمی.
إمکانیات ألمانیا أو الیابان الإقتصادیة والسیاسیة أضعاف إمکانیات ترکیا، فرضت علیهما شروط جد قاسیة بعد الحرب العالمیة الثانیة، لکنهما عبر 75 عاماً لم تطالبا بتغییر بنود الإتفاقات التي أنهت الحرب کما لم تحاولا التملص من تنفیذ بنودها حرفیاً من خلال التهدید بالقوة أو الخطب الشعبویة والشعارات الرنانة.
یبدو أن الهدف من هذە الدعایات الأردوغانیة وأتباعەا هو خلق دکتاتور جدید تحت عباءة خلیفة المسلمین في الشرق الأوسط وإشغال شعوبها المغلوبة علی أمرها بجولات أخری من الخراب والدمار بعد حروب القاعدة وداعش والملیشیات الدینیة من مختلف الأصناف.