د. آزاد أحمد علي
تفاقمت المسائلُ المرتبطة بالفساد في العالم المعاصر، لدرجة باتت الدراسات ذات الصلة بالحوكمة وإدارة المجتمعات لا تتخوف من ربط ظاهرة الفساد المتفاقمة مع أنظمة الحكم ذات الطابع الديمقراطي، بصرف النظر عن درجة انبثاقها عن الناخبين، أو حقيقة بنية هذه النظم ودرجة تصنيفها ضمن منظومات الحكم الديمقراطي نظرياً؛ وذلك بناءً على العديد من المقاييس التي تصنف درجة النقاء الديمقراطي لأنظمة الحكم، سواء من منظور الشفافية والحكم الرشيد، أو من زاوية ممارستها للفساد بمختلف أوجهه.
فحتى الدول الرأسمالية الليبرالية، سواء الأوربية منها أو الأمريكية تقع في أحابيل الفساد المعاصر، و يمارس العديدُ من القادة والساسة في العالم (الديمقراطي) عملياتِ فساد منظمة ذات أوجه مختلفة، لدرجة أن بات الفساد المالي والإداري جزءاً عضوياً من بنية أنظمة الحكم في العالم المعاصر، ولكن درجة فساد الحكم وتفاقمه هو ما يلفت النظر في المقام الأول، فضلاً عن مخططات توجيه الإعلام بشكل محدد نحو المواضيع المشكوك فيها إعلامياً، والمطلوب التركيز عليها لسبب أو آخر.
في المشهد العام للحكومات المعاصرة، من الملاحظ اتساع دائرة الفساد عاماً بعد آخر، لكن بعض الدول ثقافتها تنبذ الفساد ولا تتقبله لدرجة أن من يثبت عليه الفساد، أي ممارسته لعملية سوء استخدام السلطة و تثبت خروقات كبيرة في مساره المهني، يضطر للاختفاء والتواري عن الأنظار، أو ينتحر قبل أخذ حكم السجن والتغريم بحقه، كما حدث مراراً في اليابان وغيرها من الدول ذات الثقافة التي لا تقبل الفساد، كما في شرق آسيا.في حين يدرج الفساد السلطوي والإداري ضمن المكاسب التي يتم غض الطرف عنها بدرجات متفاوتة في البلدان النامية والعوالم الشرق أوسطية والإفريقية.
أما أكثر السلطات قابلية للفساد فهي تلك التي لا تتمتع بأيديولوجيا واضحة وهي بعيدة عن منظومة الضوابط الديمقراطية، كالسلطات الضعيفة بمؤسساتها التشريعية والقضائية. لكن الغريب أن من بين هذه السلطات الأكثر قابلية وممارسة للفساد فهي تلك الدول المنتجة للنفط، هذا ما تبينه معظم الدراسات وتؤكده الوقائع والأحداث اليومية.
الفساد ملازم للإنتاج النفطي من بين أكثر الدول فساداً هي تلك التي تمتلك احتياطاتٍ نفطية وإنتاجاً نفطياً وفيرا، ويبدو أن مجموعة من العوامل تتضافر لتوطين الفساد في تلك البلدان والمناطق النفطية، منها على سبيل المثال دور شركات النفط والجهات المسوقة لها، والتي تتطلب مصلحتها التجارية والمالية بأن لا تكون عملية الإنتاج والتسويق شفافة من جهة، وأن لا يكون الحكم شرعياً تماماً ومنبثقاً عن إرادة جماهير تلك الدول، عندها سيكون من حق المجتمع التدقيق التام في جوانب الإنتاج والتسويق، وبالتالي تتراجع فرص الاستفادة وتضيق هوامش الاحتيال والاستغلال. فشركات النفط تفضل منذ تأسيسها التعامل مع الشخصيات أو العوائل الحاكمة فقط، وذلك لتسهيل عمليات الاستكشاف والتسويق والاستثمار هكذا كانت البدايات مطلع القرن العشرين في أغلب المناطق التي اُكتشف فيها النفط.
وبات الحديث يدور كثيراً حول أكثر الدول النفطية فساداً وليس أقلها، إذ يبدو أن من أكثر هذه الدول النفطية فساداً هي تلك التي يمتزج في نظام حكمها ما هو توتاليتاري بما هو قبلي أو عائلي، أو ما هو إيديولوجي قوموي بما هو سلطوي دكتاتوري، وقد تحققت وتراكمت هذه الصفات كعينة للتذكير والاستدلال فقط – في بلد صغير يقع في غرب إفريقيا؛ بلد يتكون من جغرافية صغيرة تقع على الساحل الغربي للقارة الإفريقية بالإضافة إلى خمس جزر تقع داخل المحيط الأطلسي. البلد هو غينيا الاستوائية، الذي يقطن معظم سكانها بالمنطقة المسماة ريو موني الواقعة بين الكاميرون و الجابون. وغينيا الاستوائية هذه دولة صغيرة تعد من أصغر دول القارة بمساحة تقدر بثمانية وعشرين ألف كيلو متر مربع.
وبعدد سكان أقل من مليون وأربعمائة ألف نسمة. في حين أن إنتاجها النفطي قارب مائة وخمسين ألف برميل يومياً، وعلى الرغم من قلة هذا الإنتاج بالمقارنة مع باقي الدول المنتجة للنفط إلا أنه دخلٌ كبير للحاكم نظراً لحرمان الشعب من الواردات النفطية وقلة عدد السكان. الملفت والمثير للجدل أن الشركاتِ الأمريكية باتت تهتم بهذا البلد الصغير والمستعمرة الإسبانية في الأصل، حتى باتت غينيا الاستوائية رابع أكبر دولة مستقطبة للاستثمار الأمريكي في دول إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، بعد دولة جنوب إفريقيا ونيجيريا وأنغولا. والسبب وراء الشهرة التي اكتسبتها هو اكتشاف البترول الذي ظل غير مكتشف حتى منتصف التسعينيات من القرن الماضي. وقد زاد إنتاج البترول أكثر من عشرة أضعاف منذ عام 1996، ويتوقع أن يستمر الإنتاج النفطي في التزايد.
ومع ذلك لم يصدف أن ورد ذكر هذا البلد ولا كدولة لا تُحترم فيها حقوق الإنسان أو لا يطبق نظامها السياسي أبسط مستويات الديمقراطية، على الرغم من وجود ما يشبه برلمان شكلي. إذ يحكم غينيا الاستوائية الرئيس ( تيودور اوبيانغ نغيما مباسوغو) منذ 1979 وقد استلم السلطة إثر انقلاب دموي! كما أن هذا الرئيس ربما يعد الأقدم حالياً في إفريفيا والعالم، فهذا الديكتاتور يصرف جزءاً كبيراً من ميزانية الدولة لنفسه، بينما يعيش نصف مليون مواطن على دولار واحد للفرد في اليوم، إلى جانب أن الخدمات شبه معدومة، فمياه الصرف الصحي تسيل في شوارع العاصمة مالابو، ولا يوجد نقل جماعي عام، كما تعاني البلادُ من نقص شديد في مياه الشرب والكهرباء.
هذا ويتصف نظام الحكم في غينيا الاستوائية بالقوة والسيطرة على مقاليد الحكم دون منازع، فالبلد غير ديمقراطي واستبدادي بامتياز.. حتى تم إدراجه كأول بلد في العالم من حيث الفساد، بحسب تصنيف منظمة الشفافية العالمية.
وعلى سبيل المثال، وكأحد آخر المؤشرات على فساد الحكم فيها، انفجرت منذ أشهر قضية مصادرة السيارات الفخمة العائدة لابن الرئيس المسمى (تيودوران أوبيانغ ) بصيغة قريبة من اسم والده، والذي يتم إعداده لحكم البلاد من بعد والده الذي قارب الثمانين من عمره، قضى منها إحدى وأربعين عاماً في الرئاسة! فبعد سلسلة من الإجراءات القضائية وعدة قضايا فساد، عرضت في سويسرا ضمن مزاد عام خمس وعشرون سيارة فخمة يملكها تيودور نجل رئيس غينيا الاستوائية، إذ كان القضاء في جنيف قد صادرها في إطار تحقيق حول غسل أموال، للبيع في مزاد علني في سويسرا، منذ أيلول 2019. هذا وتقدر القيمة الإجمالية لهذه السيارات بأكثر من سبعة عشر مليون دولار؛ حيث أغلى هذه السيارات هي سيارة لامبورغيني فينينو رودستر بيضاء تقدر قيمتها بحوالي خمسة ملايين يورو.
هذا ملفٌ صغير لفساد نظام الحكم في أصغر بلدٍ إفريقي، وكذلك أصغر بلد نفطي في العالم. بناءً وقياساً عليه، فما هي حجم وطبيعة ملفات الفساد التي تختبئ ملفاتها في الأدراج منذ عشرات السنين لحكام البلدان النفطية؟! على الرغم من تشابه ملفات الفساد للحكام المعاصرين بطريقة عجيبة، والأهم ما هي درجة تواطؤهم مع البلدان الرأسمالية (الديمقراطية) وشركاتها المنتجة والمسوقة للنفط؟!الإجابة على هذا السؤال قد تقربنا من معرفة حقيقة وأبعاد الأوهام المرتبطة بتأسيس نُظم ديمقراطية متكاملة وفاعلة في البلدان الناشئة خارج الدول الأورو- أمريكية بشكل عام، النفطية ونصف النفطية منها بشكل خاص.