حسين عمر
تزامن لقاء الدوحة الذي عُقِد يوم 11 مارس الجاري وجمع الحلفين التركي والروسي على مائدة أمير قطر، مع الزيارة الرسمية لنائب المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا ديفيد براونستين، لمقر هيئة العلاقات الخارجية للإدارة الذاتية لشمال سوريا وشرقها، ضمن وفدٍ رسمي، كما تزامن ذلك مع مطالبة الاتحاد الأوربي بخروج القوات الروسية والتركية والإيرانية من الأراضي السورية. وقبل ذلك كانت واشنطن التي فُتِح فيها ملف الدعاوى المقدّمة على أراضيها ضد أنقرة، قد أعلنت أن الأخيرة تخترق القانون الدولي.
ومع حصول هذه التطوّرات التي تزامنت أيضاً مع تحرّكات مكثّفة للقوات الروسية والنظام السوري والجيش التركي داخل ومحيط بلدة عين عيسى السورية الاستراتيجية الواقعة على طريق إم ـ 4 الدولي، يبدو أن موسكو تعمل بقوة على ممارسة المزيد من الضغوط على الإدارة الذاتية والدفع بقوات سوريا الديمقراطية “قسد” للانسحاب من البلدة أو على الأقل الخروج من مركزها، لإضعافها وخلف “عازل جغرافي” بين مناطق سيطرتها التي تربطها عين عيسى ببعضها البعض، كما كوباني ومنبج والرقة والطبقة وعموم منطقة الجزيرة، وبالتالي السيطرة كلياً على هذه البلدة المهمّة وفرض أمر واقعٍ جديد على “قسد”. وربما يتكرر الأمر ذاته في منبج فيما لو نجحت هذه الضغوطات في عين عيسى، ذلك أن منبج تتواجد فيها أيضاً قواتٍ روسية إلى جانب قوات سوريا الديمقراطية، وقد يعني حصول هذا الأمر إعادة تعويم النظام في عين عيسى ومنبج.
ومن الواضح أن موسكو تنسق مع أنقرة في قصفها لبلدة عين عيسى ومحيطها بشكلٍ يومي، لكون الأولى لا تريد مواجهة عسكرية مباشرة بين “قسد” والنظام، أو بين قواتها العسكرية المتواجدة في المنطقة، ولذلك تجد في الهجمات التركية عاملاً للضغط على قوات سوريا الديمقراطية، بمعنى أنها تخيّر “قسد” بين الانسحاب من البلدة أو استمرار القصف التركي!
إن هذه التحركات وغيرها من قبل الأطراف المتدخلة في المقتلة السورية، ما هي إلا محاولات من كلّ طرف، لأجل تغيير موازين القوى على الأرض لصالحه وفرض الحل الذي يناسبه بخصوص مستقبل سوريا. وكذلك الأمر نفسه بالنسبة إلى نقل ملف التفاوض حول الأزمة السورية من أستانة إلى سوتشي، حيث تمّ ذلك لتحقيق أهدافٍ رسمتها موسكو التي وضعت أنقرة في مدارها لتشاركها في تلك المفاوضات التي تبدو كجبهة موحدة مقابل التحالف الدولي، وهو أمر يروق للرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي يعاني من ضغوطات داخلية بسبب الأزمة الاقتصادية في بلاده، وأخرى خارجية بعد تدخل أنقرة في عدّة أزماتٍ في المنطقة.
وباعتقادي أن موسكو تبذل جهوداً على كافة المستويات من أجل ابعاد إيران كأحد أهم الاطراف المتدخلة في الأزمة السورية، فهي تعمل على تقليل نفوذ طهران وحصر التشارك مع أنقرة لوحدها، حيث تتفق الأخيرة تماماً مع هذا التوجّه، لكن يبدو أن الدول الغربية متوجسة من التحرك الروسي ـ التركي، الذي يحاول إقناع السعودية والإمارات وكسب الرضا المصري للإمساك بمفاتيح الحل وإجبار الأطراف الأخرى الرضوخ لمطالبهم مع وجود فروقات واضحة في أهداف الدولتين من استمرا وجودهما في سوريا بعيداً عن أمريكا وأوروبا.التحرك الروسي ـ التركي الأخير وخاصة زيارة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الى الرياض وأبوظبي قبل نحو أسبوع، كان يستهدف الحصول على دعم عربي لتوجهات أنقرة وموسكو، وهو ما لاحظته الدول الأوربية التي رأت أن الحلول التي يقدمها هذين الطرفين سيكون على حساب مصالحها وقد يمنح موسكو الشرعية لتكون صاحبة الشأن الأكبر والمتحكّم بورقة الأزمة السورية في مواجهة تحالفهم الغربي خاصة وأن الرؤية الأمريكية بخصوص تعاملها مع أزمات الشرق الأوسط لم تتبلور بعد رغم مرور أشهرٍ من وصول الرئيس جو بايدن إلى البيت الأبيض.
ولابد من التذكير أن إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، كانت قد سلكت مساراً مغايراً لتعاطي واشنطن التقليدي مع أزمات المنطقة، بحيث افسحت المجال لموسكو وأنقرة للتحكم بمناطق نفوذها خلال السنوات القليلة الماضية، لكن بعد لقاء الدوحة ثمةً تغييرات جذرية في مسار الأزمة السورية، سوف تحصل، لكن لم يعد يهم المواطن السوري سوى الحصول على لقمة الخبز، واسكات صوت المدافع، والسير من بيته الى عمله والعودة بأمان. وهذا ينطبق على الموالي والمعارض. الجميع يتذوق من نفس الكأس المرّة. ولهذا لا يهمه من يحقق له حلمه ذاك بعد عقد من النزيف المستمر.تدرك موسكو هذه الحقيقة لأنها مع أنقرة، أوصلت سوريا إلى ما هي عليه اليوم، بسبب دعم الأولى النظام، ودعم الأخرى للمعارضة المسلحة التي يديرها “الإخوان المسلمين”.لقد حولت أنقرة المعارضة السورية إلى مرتزقة وإرهابيين، يعملون في خدمة أجنداتها، ممثلة بالائتلاف السوري وجماعاتها المسلحة التي تعمل لتنفيذ أهدافٍ تركيّة تتمحور في سوريا بالإبادة السياسية والوجودية للشعب الكردي، وهو ما يقوم به الائتلاف على أكمل وجه في المناطق المحتلة، من عفرين، ورأس العين (سري كانيه) وتل أبيض (كري سبيه) وصولاً إلى جرابلس واعزاز والباب.
أنقذت موسكو النظام الذي كان على شفا الانهيار في 2016. وهي اليوم تسرع الخطى لتعزيز تواجدها في الشرق الأوسط، وجعل سوريا ركيزة عسكرية ومحطة للتعامل مع المنطقة، وتثبيت أركان وجودها العسكري والسياسي كـ “انتداب” وفاعل وحيد، الأمر الذي يعني إبعاد طهران ذات النفوذ العسكري والسياسي والشعبي.
إن اجتماع الدوحة لم يكن من اجل استبعاد الدول الغربية عن المشاركة في ترتيبات “الحل السوري”، حسب المحتل التركي و”الانتداب” الروسي فقط وانما استهدفت طهران، الحليف الاستراتيجي لنظام الرئيس بشار الأسد والدولة الأولى التي هرعت لمساعدته وتقديم يد العون له مادياً وعسكرياً واستهداف واشنطن صاحبة القوة العسكرية المنتشرة في شمال شرقي سوريا.
ماذا ستستفيد موسكو من ابعاد طهران؟المحاولات الروسية في هذا الجانب تهدف الى تطمين إسرائيل وأمريكا والثلاثي العربي المختلف مع النظام الإيراني، وشراء حياد تلك الدول على الأقل في الخطة الروسية المشتركة مع النظام التركي المحتل، ولكن المحاولات الروسية لن تنجح لا في كسب حياد أو تأييد الدول المذكورة ولا في اضعاف النفوذ الإيراني.كما أن الدول العربية المعنية، لا تستطيع العمل ضمن المخطط الروسي التركي وإعلان بنود حل يتوافق الطرفين عليه دون الموافقة الأمريكية. ويجب ألا ننسى بان العقوبات الامريكية والغربية المفروضة على سوريا، تضر الاقتصاد الروسي أيضا، ولن تبادر أي شركة عالمية إلى العمل في الأراضي السورية في ظل الحصار الغربي الخانق، حتى ولو فرضت موسكو الحل الذي تحاول التوصل اليه من خلال الدفع بالمسارات المختلفة وخاصة اللجنة الدستورية قبيل الانتخابات المزمع اجراءها من قبل النظام بدفع من روسيا.