سوريا الجديدة والكرد.. حل وطني أم تكرار لتجربتي العراق وتركيا؟
د.طارق حمو
البيان الذي أصدرته الرئاسة السورية رداً على مخرجات مؤتمر «توحيد الصف الكردي» الذي انعقد في مدينة القامشلي في 26 أبريل/نيسان 2025، حمل مغالطات كثيرة تم تغليفها كالعادة بشعارات وطنية ووحدوية لتسويق البيان للسوريين والرأي العام بوصفه مدافعاً عن «الدولة» في وجه «الجماعات» التي تريد التقسيم والانفصال. كما لم ينس البيان تمرير رسائل التهديد والتلويح بالقوة في وجه ثاني أكبر مكون عرقي من مكونات الشعب السوري.
في التوطئة، تتهم الرئاسة السورية مباشرة قوات سوريا الديمقراطية «قسد» بأنها «نكصت» عن الاتفاق الذي عقده الرئيس (الانتقالي) أحمد الشرع مع قيادة «قسد» (قائد قوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي) في 10 مارس/آذار 2025، وتسوّق سبباً لهذا الاتهام ما تصفه بـ«التحركات والتصريحات الصادرة مؤخراً عن قيادة قسد، والتي تدعو إلى الفيدرالية وتكرّس واقعاً منفصلاً عن الأرض، تتعارض بشكل صريح مع مضمون الاتفاق وتهدد وحدة البلاد وسلامة ترابها». ولم يشر بيان الرئاسة السورية إلى كنه هذه «التحركات» و«التصريحات»، وكيف ومتى حدثت، ولا إلى بيانات «قسد» حول «الدعوة إلى الفيدرالية»، واكتفت بالكلام الجزاف المساق دون دليل ولا اسناد، والذي يبدو أنه يهدف فقط للتأثير على المتلقي وشحنه بفكرة أن الدولة خطت خطوة إيجابية نحو التهدئة والانفتاح على حل وطني، لكن قيادة «قسد» هي التي أفشلت تلك الخطوات بإصرارها على «التحركات» و«التصريحات» عن الفيدرالية التي تكرس «واقع الانفصال والتجزئة». وهنا، يُظهر البيان «الدولة الوحدوية التي تريد التهدئة والانفتاح سعياً للحل الوطني» مقابل «قسد» التي انقلبت على الاتفاق والساعية، رغم أريحية الدولة ونفسهّا الطويل، إلى «تكريس واقع منفصل على الأرض، يهدد وحدة البلاد وسلامتها»، فيجب استكمالاً أن تقوم الدولة (التي تمثلها طبعاً هيئة تحرير الشام غير المنتخبة وقائدها الشرع غير المنتخب أيضاّ) بواجبها في حماية «الأرض» و«السيادة» هنا.
ثم يعود البيان ليصّعد ويرفع من نبرة الرفض، عندما يذّكر المتلقي بإنه لا يرفض فقط الفيدرالية، التي قال إن قيادة «قسد» دعت إليها، وبذلك نقضت اتفاقها مع الشرع/الرئاسة/الدولة، بل يرفض حتى صيغة الإدارة الذاتية التي يدرّجها أيضاً تحت «محاولات فرض واقع تقسيمي وكيانات منفصلة». ويعد بيان الرئاسة السورية الرفض المطلق لصيغة الإدارة الذاتية، صيانة من قبلها لوحدة سوريا أرضاً وشعباً (سوريا هنا وليست سورية!)، التي يعتبرها البيان خطاً أحمراً، وأي تجاوز لتلك الوحدة (كل تمظهرات الإدارة الذاتية طبعاً) يعد مجدداً «خروجاً عن الصف الوطني ومساساً بهوية سوريا الجامعة».
وبعد التمهيد الآنف الرامي لتهيئة نفسية المتلقي وحقنها بالاتهامات ضد «قسد»، التي حُشرت في خانة المتراجع المراوغ وصاحب فكرة «الكيانات المنفصلة»، بدأت الرئاسة تؤسس لنكوصها هي عن اتفاق 10 مارس/آذار بالحديث عن أمور جديدة مختلقة ومفتعلة لأنها لم تكن مثبتة في الاتفاق الآنف ولم يتحدث عنها أحد سابقاً، وذلك عندما تنشر «ممارسات» تقول إن «قسد» قامت بها، وتتمثل في «التغيير الديمغرافي» في بعض المناطق، وهو «ما يهدد النسيج الاجتماعي السوري ويضعف فرص الحل الوطني الشامل». وتستمر الرئاسة في التحليق خارج الاتفاق عبر تحذير «قسد» من «تعطيل عمل مؤسسات الدولة السورية في المناطق التي تسيطر عليها وتقييد وصول المواطنين إلى خدمتها واحتكار الموارد الوطنية وتسخيرها خارج إطار الدولة، بما يسهم في تعميق الانقسام وتهديد السيادة الوطنية». يحدث هذا الاتهام الكاذب المغرض رغم تحقيق العديد من الخطوات في مسار الاتفاق الآنف وحدوث تسويات وتفاهمات في حيي الشيخ مقصود والأشرفية في حلب ووقف الأعمال القتالية في سد تشرين والاتفاق قبل ذلك على تدفق النفط من مناطق شمال وشرق سوريا إلى الداخل السوري، وكذلك حدوث لقاء بين قائد «قسد» مظلوم عبدي في 12 أبريل/نيسان 2025 وحسن السلامة رئيس اللجنة الحكومية السورية المكلفة بإتمام الاتفاقية، حضره كذلك عضو اللجنة محمد قناطري في مدينة الحسكة. وتم في ذلك اللقاء تحديد أسماء أعضاء اللجنة التي ستمثل شمال شرق سوريا في متابعة الاتفاق مع الحكومة المركزية في دمشق، وهم كل من فوزة يوسف، عبد حامد المهباش، أحمد يوسف، سنحريب برصوم، سوزدار حاجي، بالإضافة إلى تعيين متحدثيّن باسم اللجنة وهما كل من: مريم إبراهيم وياسر سليمان. ولعل كل هذه الإجراءات تدل على تمسك «قسد» بالاتفاق مع دمشق وسعيها لتطبيق كل البنود عبر التعاون بين اللجنتين المشرفتين على متابعة سيرالاتفاق ومرافقة كل خطوات التطبيع والحل، وهو ما حدث في الأشرفية والشيخ مقصود ومحيط سد تشرين. وتدحض هذه المساعي، وكذلك هوية وتوجهات أعضاء اللجنة الممثلة لشمال وشرق سوريا، محتوى/ وقع ما تابعه بيان الرئاسة السورية الذي استمر في إتهام «قسد» بأنها «تستأثر بالقرار في منطقة شمال شرق سوريا، إذ تتعايش مكونات أصيلة كالعرب والكرد والمسيحيين وغيرهم. فمصادرة قرار أي مكون واحتكار تمثيله أمر مرفوض، فلا استقرار ولا مستقبل دون شراكة حقيقية وتمثيل عادل لجميع الأطراف».
والحال، أن السلطة في دمشق (حتى الآن: هيئة تحرير الشام) هي التي تريد مصادرة قرار المكونات، وهي التي تتغطى برداء «الوطنية» و«الهوية السورية» لكي تحتكر القرار وتقود البلاد بعقلية الفصيل الذي يريد ابتلاع الدولة باسم المركزية ودون «شراكة حقيقية وتمثيل عادل لجميع الأطراف» كما ورد في البيان نفسه!. ويبتدع بيان الرئاسة السورية أمراً/توصيفاً جديداً حينما يصف الكرد، وهم جزء من الشعب السوري، بـ«الإخوة الأكراد»، معتبراً السلطة في المركز هي «نحن/المواطن» و«الأكراد» هنا «هم/الإخوة»، في ثنائية غريبة لا يمكن أن تبتدعها سوى سلطة مشوهة التفكير ومشوشة التوجه، تتخبط بين أجندات عديدة، منها ما هو غائر ومستتر ومنها ما هو واضح ومعلن، ليس لديها سياسة وخطاب محدد المعالم إزاء تسيّير وإدارة الدولة وتأطير العلاقات بين مكوناتها المختلفة.
ما حدث من اتفاق في القامشلي بتاريخ 26 أبريل/نيسان كان اتفاقاً بين كتلتين سياسيتين تمثلان المكون الكردي السوري حصراً. والاتفاق الذي جرى بين الشرع وعبدي قبل ذلك بشهر ونصف كان اتفاقاً بين «قسد» والإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا من جهة والسلطة في دمشق من جهة أخرى. هو اتفاق «جغرافي» بين مركز الدولة وأحد أطرافها. اتفاق بين قوّة عسكرية تمثل واقعاً إدارياً لجزء من سوريا وبين السلطة المركزية في العاصمة. إنه اتفاق عسكري وجغرافي وإداري يتمثل فيه العرب والكرد (مسلمين وإيزيديين) والسريان والآشوريين والأرمن مع الحكومة المركزية. أما مؤتمر «توحيد الصف الكردي»، فحمل توصيفاً إثنياً ومثّل حصراً المكون الكردي في سوريا الذي يعيش قسم كبير منه خارج مناطق الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، في عفرين وحلب ودمشق وحماة وإدلب واللاذقية وحمص وحتى درعا والقنيطرة، فضلاً عن المناطق المحتلة من قبل الدولة التركية، خاصة كل من تل أبيض ورأس العين. على الأرجح، أن خلط السلطة بين الأمرين مقصود، لا سيما أن قائد «قسد» أشار في كلمته الافتتاحية إلى أن المؤتمر الكردي لا يتعارض مع وحدة سوريا أرضاً وشعباً، بل على العكس يقوّي عضد هذه الوحدة.
ثمّة ما يوحي بوجود تغيير لدى السلطة في دمشق. نكوص عن الاتفاق الذي أبرمته مع «قسد». تريد السلطة الهروب من المشاكل في الداخل، من حالة الاحتقان وفقدان السيطرة على المجموعات المسلحة التي تواصل انتهاكاتها في الساحل والداخل ضد المظاهر المدنية وضد المواطنين السوريين من أبناء المكونات العلوية والمسيحية والدرزية والإسماعيلية والمرشدية، عبر خلق نوع من «التهديد»، وليكن كردياً الآن، وتضخيم هذا التهديد لإيقاف حالة التفتت في الجبهة الداخلية، وإحداث نوع من التلاحم الطائفي/القومي ضد «الكرد الانفصاليين» الذين «يرون حاجة في التدخل الخارجي والوصاية الأجنبية»، كما جاء في البيان. الواضح أن السلطة تريد خلق وافتعال تهديد ما لجمع كافة السوريين خلفها لمواجهته، فتهرب من استحقاقات ما حصل في الساحل من مذابح وانتهاكات وقعت بحق المكون العلوي السوري، وما يحدث الآن من شحن وتحريض وتأليب ضد المكون الدرزي السوري في دمشق وحمص وإدلب، بالإضافة إلى تصوير نفسها بأنها الحامية لوحدة البلاد والرافضة للتدخل الخارجي والوصاية الأجنبية، رغم أن هي من جاءت بمقاتلين وقيادات أجنبية غير سورية وجنّستهم ومنحتهم المناصب والمسؤوليات، وهي التي شرعنت التدخل التركي الموجود على شكل احتلالات وقواعد عسكرية، كما انها هي التي تواصل اللهاث خلف الوصاية الأجنبية بحديثها عن قبول كل شروط الغرب، وبالتالي ضمان الاعتراف السياسي/الدبلوماسي وتلقف مليارات الدولارات لمشاريع البناء وإعادة الإعمار.
من المهم أن تفهم السلطة في دمشق حقيقة القضية الكردية في الشرق الأوسط، وأن تُفهم أنصارها وحاشيتها من الإعلاميين والصحافيين من هو الشعب الكردي وما هو وطنه التاريخي كردستان. عليها أن تعي جيداً وتستخلص تجارب دول الجوار السوري مع الكرد، وما نتج من كوارث مهولة جراء محاربة أنظمة هذه الدول للشعب الكردي ورهانها على السلاح والقمع في التعامل مع المطالب القومية/الهوياتية للكرد. ويمكن معرفة ما حصل في العراق بمتابعة ما حدث منذ تنازل نائب الرئيس العراقي صدام حسين عن شط العرب لشاه إيران في اتفاقية الجزائر عام 1975 مقابل إيقاف إيران دعمها للثورة الكردية، ومن ثم عودته عن هذا الاتفاق والدخول في حرب مدمرة مع حكومة الثورة الإسلامية في إيران استمرت ثمانية أعوام، خرج منها نظامه مفلساً مديوناً، فهرب من أزمته مجدداً باحتلال دولة الكويت، ليحشد له العالم جيشاً أخرجه من الكويت بعد أن دمر العراق وأجهز على قواته العسكرية. أدخلت مغامرات صدام، الناتجة عن الإصرار على قمع المطالب القومية الكردية بالحديد والنار، العراق في حروب وكلفت الشعب العراقي ملايين الأرواح ومئات مليارات الدولارات من ثروته. وكذلك الحال في تركيا، التي أنفقت حوالي تريليوني دولار في الحرب ضد حزب العمال الكردستاني منذ عام 1984 باعتراف نعمان كورتولموش، رئيس البرلمان التركي والقيادي في حزب العدالة والتنمية. كانت هذه المبالغ الفلكية كافية لتحويل كل من العراق وتركيا إلى دول متقدمة مزدهرة تضاهي دول الغرب (أو سنغافورة، حتى لا نخرج عن إطار الشرق وثقافتنا وهويتنا الإسلامية!) فيما لو تعامل نظامي بغداد وأنقرة بعقلية منفتحة وديمقراطية مع مطالب الشعب الكردي في كلا البلدين بدل الرهان الكارثي على خطط الحرب وسياسات الحسم العسكري.
سوريا الخارجة من حرب أهلية مدمرة، والتي أفسد فيها النظام السوري السابق كل ما لم يُفسد بعد، لا يمكن أن تدار بعقلية الفصيل ولا بعقلية مركزية شمولية استبدادية. لا يمكن تسمية ما حدث من مؤتمر حوار وطني ولا إعلان دستوري ولا حكومة انتقالية تطوراً وتقدماً ديمقراطياً بمشاركة كافة المكونات. ما حدث كان عملية محاصصة مزيفة بتعيين أفراد لا يمثلون مكوناتهم/حواضنهم ولا أي قوى سياسية. عملية تزوير عبر ترميز واضح ومفضوح. يجب أن تدار سوريا بشكل لامركزي وعبر إدارات جغرافية تتشارك فيها كل المكونات. أي ربط قسري ومحاولات كسر الإرادة هنا وهناك بالقوة واللجوء إلى النفير العام وانتخاء العشائر، سيعني الانقسام والتفتيت والتخندق والعودة إلى مربع الحرب الأهلية، وستكون السلطة/الفصيل المدعّمة بكوادرها الأجانب والمراهِنة على حلفائها في الخارج هي وحدها المسؤولة عن ذلك.