حين أخطأ خالد بك جبري في تقييم مصطفى كمال

مئة عام على انهيار العلاقات الكردية التركية.. ما الذي بقي لإصلاحه؟

حسين جمو 
ينتصب حصن متداعي الأركان وسط مدينة بدليس العريقة التي كانت مطلع القرن العشرين أهم محرك للقومية الكردية ومضمونها الإسلامي الشعبي في وجه التمدد المسيحي الروسي من الشمال. يلتف حول هذا الحصن الذي يحمل اسم بدليس نفسها، وهو اسم يعود لأحد كبار قادة الإسكندر المقدوني، شارع هو الأكثر ازدحاماً في المدينة المنهكة من تجارب «التنمية القاتلة» للجمهورية. يحمل هذا الشارع اسم الحاكم العسكري لمنطقة بدليس في عام 1925، الجنرال كاظم ديريك، ذو الأصل البلقاني. قتل هذا الحاكم القائد الأول للحركة القومية الكردية في كردستان الجنرال خالد بك جِبِري بتاريخ 14 أبريل/نيسان 1925. لم يكن اختيار كاظم ديريك والياً على بدليس عبثياً، إذ كانت له عداوة شخصية مع خالد بك وحوكم في السابق من قبل ديوان الحرب على جريمة ارتكبها، حيث كان حينها خالد من ضمن هيئة ديوان الحرب التي حاكمته، وكان كلاهما ضباطاً في الجيش العثماني برتبة قائد لواء (عميد).
اليوم، ما زال اسم قاتل زعيم كردستان منتشراً كل بضعة أمتار في الشارع الأكثر شعبية في بدليس لتذكير سكانها بهوية المنتصر في هذا المكان. هكذا تُعامل الجمهورية الكرد منذ مئة عام بتكريم قتلة قادتهم وأجدادهم وبتذكيرهم يومياً بالعلاقة غير المتوازنة والتعريف غير المتزن للدولة تجاههم، وبتعمدها إذلالهم وليس الاكتفاء بالانتصار فقط.
لقد شكل اعتقال خالد بك جبري مطلع عام 1925 أول تعطيل لمسار الحركة القومية الكردية المسلحة. كان صعود اسم الشيخ سعيد قائداً كردياً وزعيماً للثورة اضطراراً تاريخياً أسفر عن تضحية عظيمة ومعركة فاصلة قاتلة صمت بعدها الشعب الكردي نحو 40 عاماً بلا أي حراك جماعي مباشر. كان خالد بك جبري رأس الثورة في مرحلة التخطيط. ولفهم الشيخ سعيد وثورة 1925 لا بد من فهم كيف أصبح قائداً لكردستان.
لقد أسس خالد بك كل التشكيلات العسكرية في كردستان للدفاع عن بقايا الدولة في مرحلة جمعيات الدفاع عن الحقوق، إذ تأسست عشرات الجمعيات حين احتل الحلفاء إسطنبول، وكانت أشهرها جميعة «الدفاع عن الولايات الشرقية»، وانضم لها مصطفى كمال قبل أن تندمج في مؤتمري أرضروم وسيواس عام 1919. وبعد إعلان الجمهورية، بقيت هذه المجموعات المسلحة على ولائها للجنرال الكردي حسبما كان يعتقد.
 لقد تناولنا في سلسلة مقالات سابقة ظروف تشكيل هذه الجمعيات وأسباب إسراع الزعماء والجنرالات الكرد لتنظيم المقاومة المسلحة لتحرير الدولة من الاحتلال اليوناني. ولم تكن هناك سذاجة سياسية في تلك الخطوات كما يخيّل لبعض الكرد اليوم. لكن هذا لا يعني أن بعض الحسابات الخاطئة كانت مبررة أو كان من الاستحالة تفاديها. مثلاً، القبول بقيادة مصطفى كمال للحركة الوطنية كان خطأ تشارك فيه حتى خالد بك جبري. صحيح أنه لم يكن له دور في تصدير مصطفى كمال، لكن كان من الممكن إعاقته في وقت مبكر قبل مؤتمر سيواس الذي كانت أهميته تكمن في تخلصه من التأثير الكردستاني الذي كان يهيمن على أرضروم ومؤتمرها الذي سبق سيواس بأشهر قليلة.
كان الشيخ سعيد وخالد بك أقرباء وبينهما مصاهرة عائلية تاريخية. وحينها، كان الشيخ متزوجاً من أخت خالد بك. كان سعيد مرتاباً من مصطفى كمال ويعلم أن معركة فاصلة ستقع في كردستان، إذ كان الشيخ مطلعاً على خطط خالد بك وجمعية «آزادي» التي ضمت الضباط الكرد ومن بينهم حسين خيري بك.
كان هناك ابن عم لخالد بك يدعى قاسم، وهو ملازم في جيش الجمهورية. سمع الملازم قاسم ببعض خطط خالد بك والضباط الكرد. لقد علم الشيخ سعيد بعمالة قاسم وحاول التلميح لخالد بك بضرورة التخلص من قاسم لأن ما يعرفه غير قليل. لكن مصطفى كمال وصل إلى منزل قاسم قبل أن تأخذ جمعية «آزادي» تدابيرها تجاه قاسم. وعلى الفور، أصدر أوامره لدى كل المراكز التي تدين بالولاء له في كردستان، وكانت الجمهورية حينها ما تزال فتية، بإلقاء القبض على خالد بك، الجنرال الواثق كل الثقة أن كردستان للكرد ولا مكان لأمثال مصطفى كمال فيها.
حين طلب الشيخ سعيد من خالد بك مغادرة أرضروم والحذر من غدر مصطفى كمال وقاسم (قاسو)، أجاب خالد إن «كل عسكري في كردستان هو تحت إمرتي. ولا توجد مجموعة مسلحة إلا وانا أسستها. مصطفى كمال ليس له شيء في بلادنا بدوننا». يروي قاسم فرات، حفيد الشيخ سعيد، هذا الحدث في حلقة وثائقية للباحث في التراث أيهان أركمن. لقد وقع خالد بك في خطأ تحليلي أدى إلى تقييمات خاطئة في تقديره لكل من قوة الثورة وضعف العدو.
حين التقطت مجلة «ثروة فنون» صورة لأهم ثلاثة طلاب أكراد في المدرسة بوصفهم «نقباء شباب يشرعون في وظائف واعدة»، كان من بينهم خالد بك جبران، الزعيم الكردي الميداني الأشهر. وهناك صورة جماعية للطلبة الكرد نشرت في «ثروة فنون» – العدد 380 – عام 1898 يظهر فيها معظم الطلاب الكرد في مدرسة العشائر ويتوسطهم خالد بك جبري أو «جبراني» في تسميات أكثر محلية لاسم القبيلة.

خالد بك ومصطفى كمال

كانت علاقة خالد بك بمصطفى كمال وثيقة منذ سنوات الحرب العالمية الأولى وحتى تأسيس الجمهورية عام 1923. لكنه تنبه في وقت مبكر إلى النزعة العنصرية المحيطة بمصطفى كمال وهو محاط بأشخاص ذوي أصول غير تركية في معظمهم ويحتقرون المواطنين غير الترك. انطلق لتأسيس تنظيم «Azadî» في مواجهة ذلك لخوض النضال التحرري القومي الكردي وأصبح قائداً له.
حينما وصلت الأمور إلى معاقبة خالد بك، أوكل المهمة إلى كاظم ديريك وقام بتعيينه والياً على بدليس، حيث اعتبرها كاظم ديريك «مهمة خاصة للغاية» بالنسبة له.
في البداية، مهد مصطفى كمال للقطيعة مع خالد بك بطلب وساطة من حجي إلياس سامي النائب عن ولاية موش لإقناع خالد بك بالعدول عن أفكاره. ويذكر حجي إلياس في مذكراته الحادثة على النحو التالي:
«توجهت إلى أرضروم ونزلت في أحد الفنادق وأرسلت إلى خالد مكتوباً طلبت فيه مقابلته. بعد مدة، أعاد إلي المكتوب وكتب على المغلف: اعذرني لعدم اللقاء.. خالد».
يقول حجي سامي: «شعرت بالغضب والإهانة إلا أنني تداركتها وركزت على تنفيذ المهمة التي أوكلت إلي، حيث توجهت إلى منزله وشرحت له الوضع راجياً منه القبول، وكان رده لي حينها: رغم كل صداقة الكرد ومساعدتهم، إلا أن الحكومة لم تعترف بهوية الكرد القومية ولم تمنحهم حقوقهم ولم تفي بوعودها. وأضاف: هذا الشعب سيواصل نضاله العادل. وفي ختام حديثه قال لي:  حجي.. عنق خالد جاهز لحبل مشنقتكم».
غادر حجي سامي بعدها متوجهاً إلى أنقرة حيث كان مصطفى كمال ينتظره وأخبره بما جرى، فكان تعليق كمال: «لم يعد هناك شيء لفعله».
يصف نور الدين ظاظا مقتل خالد بك في مذكراته على النحو التالي:
«قام والي بدليس بدعوة خالد إلى بيته بحجة بحث مستقبل كردستان وأمر بإطلاق الرصاص عليه وهو لا يزال في باحة منزله؛ خالد بك الذي كان يؤمن بشكل مطلق بعدالة قضيته لم يشك أبداً في مدى مصداقية الدعوة الموجهة إليه عندما جاء لمرافقته عشرة من عناصر الدرك كضيفٍ ذو مكانة إلى منزل الوالي، حيث تبعهم دون تردد أو ارتباك، ولم يخطر بباله قطعاً أن يأخذ معه أحداً من مرافقيه الشخصيين، ولم يكن على علم بأحداث بيران (دجلة) ولا حتى الألاعيب التي تحاك ضد الكرد في أنقرة لدى وصولهم إلى باب الحديقة».
وروى أحد الشهود:
«زار شيخ منطقة نورشين والي بدليس كاظم ديريك طالباً منه لقاء خالد بك. اشترط الوالي أن يحضر اللقاء أحد الضباط وأن يتحدثا اللغة التركية، إلا أن خالد رفض التحدث باللغة التركية وجرى الحديث في اللقاء باللغة الكردية؛ ألقى شيخُ نورشين التحية عليه بالقول: حَفِظَكَ الله، فرد عليه خالد بيك وقال: لا تدعو أن يحفظني الله، بل ادعوا من الله خلاص شعبنا».
يُذكر أيضاً أنه كان لدى موسى بك خويتي من موش خطط لإنقاذ خالد بك ويوسف ضياء من السجن، ولكنه لم يتمكن من تنفيذها. ويقول كارو ساسوني، وهو أحد وجهاء الأرمن في المنطقة والذي تواجد هناك، إن خالد بك قال قبل إطلاق الرصاص عليه: «لا شك لدي إطلاقاً أن أحفادنا سيدمرونكم غداً».
إن واقع العلاقات اليوم بين الكرد والترك مأساوي للغاية، ومن طرف واحد. فمنذ مئة عام ونخبة الجمهورية تستخدم جبروت الدولة بكل أدواتها وعنفها ضد الشخصية الكردية، داخل تركيا وخارجها. عفرين شاهدة على استمرارية البنية الهمجية في المقاربة الجمهورية تجاه جغرافيا القضية الكردية. ما الذي حدث في التاريخ حتى انفجر هذا العنف بهذه الوحشية النادرة على مدى 100 عام بدون انقطاع؟
لقد غدرت الجمهورية بتضحيات كردستان وليس العكس. وكانت لحظة 14 فبراير/شباط 1925 جردة حساب مع الجمهورية لم تتكلل بالنجاح، لكنها مستمرة. ومن هذا التاريخ، دشنت الجمهورية عصر استهداف الكرد كأمة بلا تمييز بين فئات هذه الأمة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد