بغداد وشنكال.. إقصاء وتهميش

المركز الكردي للدراسات
أصدر البرلمان العراقي في 22 يناير/كانون الثاني 2025 قانوناً أسماه «قانون العفو العام» يتضمن عفواً عن معتقلين محكومين ومتهمين بارتكاب جرائم مختلفة، من بينها القتال في صفوف جماعات مسلحة والمشاركة في عمليات وهجمات استهدفت القوات العراقية والمدنيين والقوات الأميركية.
ويشمل قانون العفو آلاف السجناء ممن اعتقلوا بين أعوام 2004 و2018 بتهم الانتماء إلى تنظيمي القاعدة وداعش ومجموعات جهادية أخرى والمشاركة في تنفيذ هجمات وأعمال تخريبية. كذلك من بين من سيشملهم العفو المئات ممن ارتكبوا جرائم القتل والسبي بحق المكون الكردي الإيزيدي أثناء هجوم تنظيم داعش الإرهابي على قضاء شنكال في أغسطس/ آب 2014، والذي أسفر عن مقتل وجرح واختطاف آلاف المدنيين الإيزيديين. ويتضمن قانون العفو إطلاق سراح المدانين والمتهمين بجرائم ما تزال قيد التحقيق أو المحاكمة، وكذلك السماح بمراجعة أحكام الإعدام.
وأدانت الإدارة الذاتية الديمقراطية في شنكال في بيان قانون العفو العام، واصفة إياه بأنه يتضمن عفواً عن جرائم إرهابية مروعّة ارتكبها تنظيم داعش الإرهابي، وهو ما يعيد فتح جراح المجتمع الإيزيدي الذي ما يزال يعاني من آثار الإبادة الجماعية التي تعرض لها الإيزيديون في صيف 2014. وأكد البيان أن الإيزيديين المتضررين من هجوم التنظيم كانوا ينتظرون من البرلمان العراقي الإنصاف من خلال محاكمة المجرمين ممن شاركوا في الهجوم على شنكال والاعتراف بالإبادة التي حصلت وتعويض المتضررين الذين ما يزال قسم كبير منهم خارج شنكال يعاني في مخيمات اللجوء.
من جهته، أكدّ الناشط والسياسي الإيزيدي حسين حاجي أن المكون الكردي الإيزيدي في قضاء شنكال مستاء جداً من موقف الكتل السياسية التي صوّتت لتمرير قانون العفو، في وقت ما يزال البرلمان العراقي يرفض الاعتراف بالإبادة التي حصلت بحق الإيزيديين عام 2014 على يد تنظيم داعش الإرهابي. وقال حسين حاجي إنه في الوقت الذي اعترفت فيه 13 دولة في العالم بالإبادة الإيزيدية، ما يزال البرلمان العراقي يرفض الخوض في حيثيات الإبادة، فضلاً عن الاعتراف بها، ناهيك عن معاقبة المسؤولين عنها وإنصاف المواطنين الإيزيديين العراقيين.
وأعلنت كتل سياسية سنية توكيل محامين لمتابعة ملفات المعتقلين والمحكومين بغية الاستفادة من قانون العفو العام وضمان إطلاق سراح أكبر عدد ممكن من هؤلاء، وهم بالآلاف وفي غالبيتهم العظمى من أبناء المكون السني، من سكان محافظات نينوى والأنبار وصلاح الدين. وسبق لمجلس النواب العراقي أن صوّت في 15 أغسطس/آب 2016 على قانون العفو العام الذي أتاح في حينها للمعتقلين والمحكومين تقديم طلبات بإعادة محاكمتهم، لكنه كان يستوجب موافقة لجنة خاصة من مجلس القضاء على إعادة المحاكمة، في حين سمح قانون العفو العام الجديد بإعادة المحاكمة بعد تقديم طلب من المحكومين، دون حاجة لموافقة من لجنة خاصة في المضي بها من عدمه.
ومع إصدار البرلمان العراقي قانون العفو العام الذي يشمل إطلاق سراح المئات ممن شاركوا في قتل وسبي وتشريد الإيزيديين والتغاضي عن الجرائم التي ارتكبت بحق هؤلاء جراء هجوم تنظيم داعش الإرهابي في أغسطس/ آب 2014 ورفض الاعتراف قانونياً بالإبادة التي حصلت للإيزيديين، يتضح الموقف السلبي من السلطة العراقية (الكتل السياسية في البرلمان، وبالتالي الحكومة) من المكون الإيزيدي ووجود رغبة في إهمال شؤون الإيزيديين ومناطقهم وعدم إنصافهم والمضي قدماً في التمسك بسياسات التمييز القديمة بحقهم. وجراء موقف بغداد السلبي الواضح من الإيزيديين، فإن معاناة هذا المكون ستستمر لجهة بقاء مطالب أبناءه في تعويض الضحايا وتأمين شنكال وضمان عودة النازحين وتحقيق العدالة بمحاسبة مرتكبي الإبادة عالقة دون البت فيها وإنصاف المتضررين ممن تعرضوا للإبادة وتبعاتها على مدار السنوات الطويلة الماضية.
وفيما يخص ملف إعادة النازحين إلى مناطقهم، تستمر الحكومة العراقية في المماطلة ورفض تنفيذ بنود الخطة التي كانت أعلنت عنها وزارة الهجرة والمهجرين العراقية في 24 يناير/كانون الأول 2024، وتمثلت في إعادة أكثر من عشرة آلاف عائلة نازحة تقيم في مخيمات إقليم كردستان إلى مناطقها الأصلية في قضاء شنكال خلال عام 2024. ومن ذلك، رفض الجهات المسؤولة في الوزارة منح كل عائلة نازحة تقرر العودة من مخيمات اللجوء في إقليم كردستان إلى شنكال المبلغ المخصص وقدره 4 مليون دينار عراقي (حوالي ثلاثة آلاف دولار أميركي)، مع تأمين بعض المستلزمات المنزلية الأساسية لها.
تتمسك الحكومة العراقية بسياسة متشددة حيال المكون الكردي الإيزيدي وحيال قضاء شنكال تقوم على رفض الاعتراف بالإبادة التي تعرض لها الإيزيديون وعدم إنصافهم بتقديم التعويضات لهم ومنحم المحفزات التي تشجع النازحين منهم إلى العودة إلى مناطقهم الأصلية، فضلاً عن المماطلة الواضحة في إعادة إعمار المنطقة وتأمين البنية التحتية من شبكات الطرق والمدارس والمستشفيات والأفران وخدمات الكهرباء والمياه وبناء الدور والمباني التي تهدمت في عمليات تحرير المنطقة من التنظيم.
ويبدو بأن السياسة الممارسة حالياً من قبل حكومة المركز تأتي، في إحدى أوجهها، ضمن إطار ما يسمى بـ«اتفاقية بغداد» التي وقعتها كل من بغداد وحكومة إقليم كردستان برعاية تركية في 10 أكتوبر/تشرين الأول 2020، والتي تهدف لتطبيع الأوضاع في قضاء شنكال والإشراف على الجوانب الإدارية والعسكرية عبر تشكيل لجنة مشتركة من ممثلين إداريين وعسكريين في كل من بغداد وأربيل، مع استبعاد كامل للإدارة الذاتية وقوات مقاومة شنكال التابعة لها. والواضح أن التركيز على الجوانب العسكرية والأمنية والصراع بين بغداد وأربيل على إدارة المنطقة والسيطرة على إرادة أهلها هو أحد الأسباب وراء التهميش الذي يتعرض له الإيزيديون وتتعرض له شنكال.
وفضلاً عن إهمال بغداد المتقصد لملف شنكال والإيزيديين، فإن الضغوط التركية تشكل أحد أهم الأسباب الرئيسية للسياسات التمييزية بحق شنكال وأهلها. وكانت أنقرة نجحت، خاصة بعد الزيارة التي قام بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لبغداد في أبريل/نيسان 2024، في دفع الجانب العراقي إلى اصدار المزيد من القرارات الجائرة بحق قضاء شنكال والإيزيديين، ومنها قطع الاتصال مع الإدارة الذاتية ومنظمات المجتمع الأهلي ورفض التعاون مع ممثلي القضاء فيما يخص تطوير المشاريع التنموية وبرامج إعادة إعمار المنطقة. كما أصدرت الحكومة العراقية في 6 أغسطس/آب 2024 قراراً بحظر كل من حزبي الحرية والديمقراطية الإيزيدي وجبهة النضال الديمقراطي وحزب حرية المجتمع الكردستاني، بحجة ارتباطها بحزب العمال الكردستاني.
وكانت تركيا شنت منذ عام 2015 مئات الهجمات الجوية بالطائرات الحربية والمسيّرات ضد البنية التحتية في شنكال وضد قوات مقاومة شنكال وقوات الأمن والشرطة. كما أسست أنقرة شبكات تجسس وتجنيد العملاء المحليين لجمع معلومات على الأرض ساهمت في تمكين الاستخبارات التركية من تصفية عشرات الشخصيات المدنية والعسكرية في شنكال (زكي شنكالي، سعيد حسن، بير جكو، دجوار فقير، زردشت شنكالي، مروان بدل، منال ماردين، وغيرهم). وتحاول الدولة التركية تدمير نموذج الإدارة الذاتية في شنكال عبر القصف المستمر للبنية التحتية واستهداف الشخصيات السياسية والكوادر العسكرية لإشاعة جو من الرعب بين الأهالي ومنعهم من التعاون مع هذه الإدارة والحيلولة دون عودة عشرات الآلاف من أبناء شنكال من الموجودين في المخيمات في دهوك وغيرها من مدن إقليم كردستان وإبقاء القضاء مضطرباً غير آمن وإعاقة مشاريع إعادة الإعمار (انظر: طارق حمو: شنكال في مرمى النيران التركية. المركز الكردي للدراسات 31 أكتوبر/تشرين الأول 2024).
يوحي قرار العفو العام الذي سيطلق سراح مئات المجرمين المشاركين في الهجوم على شنكال وقتل وسبي الإيزيديين، فضلاً عن الإصرار على رفض الاعتراف بالإبادة الإيزيدية، وقبول ما يترتب على ذلك من اعتراف بالحقوق وتخصيص تعويضات وبرامج إعادة إعمار وبناء، بإصرار الحكومة العراقية والكتل السياسية في البرلمان على السياسية الجديدة/القديمة في إقصاء الإيزيديين وتهميشهم، خاصةً في ظل الرضوخ لتركيا في إقصاء الإيزيديين واعتبار الإدارة الذاتية والقوات المحلية التي تحمي الأهالي قضية أمنية والتعاون مع أنقرة في ملاحقة الإداريين والعسكريين الإيزيديين والتضييق عليهم، يوحي باصرار الحكومة العراقية والكتل السياسية في البرلمان، على السياسة الجديدة/القديمة في اقصاء الإيزيديين وتهميشهم. كما يوحي بإصرارهم على التضييق على الإيزيديين بقوانين تمييزية جائرة تنتفي مع حقوق المواطنة الصحيحة. وتساهم هذه السياسة في إبقاء قضاء شنكال وأهله الإيزيديين تحت القصف التركي وعرقلة مشاريع البناء وإعادة الإعمار والحيلولة دون عودة عشرات الآلاف من النازحين لقراهم، وبالتالي المساهمة في إطالة أمد معاناة الإيزيديين ودفعهم إلى ترجيح خيار الهجرة ومغادرة مناطقهم وعموم العراق إلى غير رجعة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد