أوهام بهجلي على قلعة حلب

حسين جمو 
في 12 تشرين الثاني/ نوفمبر 1918، دخلت أول مجموعة من القوات الفرنسية إلى القسطنطينية لاحتلال المدينة بموجب هدنة مودروس الموقعة قبل ذلك بأيام فقط، في 30 أكتوبر.
دخل الجنرال الفرنسي ديسبراي إلى المدينة على صهوة جواده. هل كانت لدى الأتراك مشكلة في الاحتلال؟ هذا سؤال كبير وشائك، لكنه توضّح مع تراكم الوثائق والشهادات على مدى أكثر من قرن. كان الجميع يعلم، القادة من أمثال أنور باشا وجمال باشا وطلعت باشا ومصطفى كمال، الذي كان في حلب يواجه مشقة في الانسحاب.
لقد خرج زعيم حزب الحركة القومية، دولت بهجلي، قبل أيام، وهو يعتبر واقعة تعليق علم تركي صغير لدقائق معدودة على قلعة حلب، ويعتبر ذلك تأكيداً على الهوية التركية المزعومة لمدينة عريقة وقديمة كان جمعٌ من الأتراك قد وقف تحت أسوارها قبل ألف عام، وكثير منهم لا يعرفون اسمها ولا كيف تُلفظ. هل يمكن أن تكون هناك مدينة تركية، وحين وصل الأتراك إلى المنطقة مهاجرين، لم يكونوا يعرفون لفظ اسم المدينة؟
في الخطاب نفسه، وصف بهجلي المقاتلين الكرد بالحشرات. هذا في وقت يزعم هذا الرجل أنه أصبح داعية سلام بين الكرد والترك. وعليه، قبل التفصيل في أوهام بهجلي على قلعة حلب، من الجدير التذكير والتكرار أن استيراد خطاب الكراهية السياسية التركي إلى سوريا سيضمن تحول البلاد إلى نموذج للقتل على الهوية ثم تحال إلى بلاد معزولة وموطن للجريمة، ومن السهل السقوط في هذه الهوة مع العدد الكبير من دول الإقليم غير الراضية عن هذا التغيير والباحثة عن ثغرات، ولا ثغرة تدمير توازي استيراد خطاب الكراهية التركي إلى الداخل السوري.
في كل الأحوال، يمكن تعليق أي علم، مثل علم تركيا، على سور قلعة حلب، كخطوة مرتبة ومدبّرة ولا تكلّف الكثير في هذا الهيجان العاطفي. من الممكن جداً تعليق حتى علم أذربيجان لدقائق معدودة. لكن المؤكد أن هيئة تحرير الشام انتبهت للأمر سريعاً وأزالت العلم، وإلا لكان “ثوار أنقرة” قد قاموا بتعليق علم بهجلي بطول علم المعارضة على واجهة القلعة، مثلما يفعلون في عفرين المحتلة واعزاز.
خطورة سردية بهجلي تأتي في سياق اختلاق أزمة بعد أن كادت تخبو، وهو التوسع التركي الجغرافي وخروجه من حدود معاهدة لوزان والركوب على الميثاق الملي الذي هو وثيقة مبادئ وليست وثيقة جغرافية إلا في أذهان المضللين. حدود لوزان خطّها مصطفى كمال وحذّر الأتراك من تجاوزها في خطاب ألقاه عام 1926. كانت هذه هي جائزة الشعب التركي المتبقية بعد أن كاد هذا الشعب يختفي من الوجود وفي طريقه إلى الزوال. يكفي قراءة مذكرات جمال باشا، قائد الجيوش في سوريا، وهو يقدّم مرافعاته كل بضعة صفحات دفاعاً عن الكرد والترك ضد الهجمات الروسية على جبهة القوقاز وللأحقية المشتركة للشعبين في الولايات الست المتنازع عليها (آمد، بدليس، وان، أرضروم، خاربيت، سيواس).
بدأ جمال باشا بكتابة مذكراته عام 1917 حين كان في سوريا، واستمر حتى قبل اغتياله في تبليسي عام 1922 على يد ثائر أرمني. وقضى هو ومصطفى كمال وقتاً عسكرياً مشتركاً في سوريا وحلب، حيث عمل مصطفى كمال قائداً للجيش السابع في الأيام الأخيرة من الحرب العالمية الأولى، وكان هذا الجيش جديداً ضمن تشكيل جديد أُطلق عليه «الصاعقة» وضم أيضاً الجيش السادس في بلاد الرافدين والجيش الرابع جنوب سوريا تحت قيادة جنرال ألماني وإشراف جمال باشا.
شهادة مصطفى كمال نفسه تشير إلى صعوبات خطيرة واجهها خلال الانسحاب من سوريا. لم تكن الأجواء ودية، ولم يكن ولاء الشعب لهذا الجيش وقيادته. لقد تعرض مصطفى كمال شخصياً لهجوم جسدي داخل مدينة حلب، وبالكاد نجا بنفسه مع مجموعة من رجاله وانسحب إلى بلدة قطمة الكردية، حيث محطة قطار رئيسية نقلته إلى أضنة في الأناضول.
لقد انهارت الجبهة الجنوبية كاملة، ولم يكن هناك عون شعبي للقوات العثمانية، ولم يتم حل أخطر إشكال خلال الحرب العامة، وهو النزاع بين السكان والجيش على الموارد والخبز والأدوية.
يقول مصطفى كمال في مذكراته إنه اتخذ بنفسه «القرار المجنون» بالانسحاب إلى حلب. وبكل الأحوال، كان أمر الانسحاب شكلياً نظراً لحالة الفرار الشامل من الجيش العثماني، وبلغ حوالي 300 ألف شخص هارب من الجيش.
التسلسل الزمني والجغرافي للانسحاب مهم وصولاً إلى حلب، ومقارنة تلك اللحظات مع لحظة العلم التركي على قلعة حلب في 29 تشرين الثاني 2024، وهي لحظة مصطنعة كما ذكرنا، ويشبه تسلل عميل لتركيا مع العلم إلى سور القلعة وتصوير ذلك. لم يكن علم بهجلي مرتاحاً، والدليل أنه لم يبقَ هناك سوى لحظات، وإذا عاد العلم بشكل دائم إلى قلعة حلب مرفرفاً، فهذه نهاية هيئة تحرير الشام.
مع بدء انهيار جبهة قتال الأتراك في فلسطين، تلقت القوات التركية أمراً من القيادة التركية بأن تغادر مواقعها فوراً، وأن تتوجه بأسرع ما يمكن ودون توقف إلى موقع درعا. تضمن أمر القيادة تعليمات بعدم الانشغال أثناء الانسحاب بأي طارئ في الطريق، كي لا تُشغَل عن هدف الانسحاب، والوصول إلى درعا التي كانت تُعَد عقدة الخطوط الحديدية، لأن قيادة الجيش التركي كانت تخشى سقوط هذا الموقع بيد القوات البريطانية.
تحركت القوات التركية فوراً وبدأت بالانسحاب، وواصلت السير ليلاً ونهاراً. وكان ضمن تلك القوات التركية المنسحبة الفريق مصطفى كمال، قائد الجيش السابع.
بعد انسحاب القوات إلى درعا، تابعت انسحابها إلى دمشق، وخلال عملية الانسحاب هذه، عانى مصطفى كمال من الفوضى والهزيمة في بقايا قواته، ولم يستطع الحد من الفوضى والتشتت.
وعندما دخل سلطان باشا الأطرش مع قواته مدينة دمشق من حي الميدان وسيطر عليه قبل وصول القوات البريطانية، أُجبر مصطفى كمال، الذي كان يقيم في فندق فكتوريا مقر قيادة الجيش العثماني، على الانسحاب.
تزامن مع ذلك وصول القوات البريطانية – العربية إلى دمشق، ورفع العلم العربي، حيث قامت ضجة كبيرة في صفوف الناس الذين شهدوا الحادث، فتنبه مصطفى كمال لذلك، فنزل فوراً من الفندق، وركب سيارته، وغادر دمشق مع حرسه باتجاه الشمال، وكانت وراءه سرية أخرى من جيش الصاعقة تنسف الجسور في طريقها لتعرقل تقدم القوات البريطانية – العربية.
تابعت فلول القوات العثمانية انسحابها نحو الشمال من دمشق، أو من رياق عن طريق السكة الحديدية والطرق البرية. وكانت القوات البريطانية تلاحقها براً وجواً. وتعرض بعض أفراد القوات التركية للقتل أثناء الانسحاب إلى دمشق.
كانت تتصاعد الحرائق في كل مكان، لأن الأتراك والألمان كانوا يحرقون ما لا يمكن نقله، وكان أشد انفجار وحريق هو انفجار مستودع الذخيرة في منطقة القدم بدمشق.
وتعرض الجنود الأتراك والألمان لسلب أسلحتهم أو القتل على أيدي مجموعات من السكان. وفي بعلبك، نسف فريق من الأهالي أكثر من قطار، وسلبوا ما فيه، ولقوا السلب أيضاً في دمر ودوما وغيرها، وخاصة في منطقة سرغايا.
كان الكثيرون من شبان ريف دمشق وضواحيها يسلبون الجنود الأتراك المنهزمين بنادقهم، وإذا قاوم أحدهم، وُجّهت إليه نيران الأسلحة، وصُرع دون شفقة.
وفي سرغايا في قضاء الزبداني، كانت البندقية تسبب مصرع صاحبها الجندي، لأن المسلحين من آل الشماط كانوا في أيام الانسحاب الأخيرة يكمنون ليل نهار في واديهم، ويطلبون من كل جندي يمر فيه، سالكاً الطريق إلى جانب الخط الحديدي، أن يُلقي سلاحه وينجو بروحه. فإذا أبى، كلفه ذلك حياته. وقد شهد وادي سرغايا مجزرة ارتكبها عقيد الشماط وجماعته، إذ قتلوا سرية من الألمان، حلفاء تركيا، استطاعوا أن ينجوا مجتمعين بأنفسهم وهم يتتبعون مشاة الخط الحديدي، وفي انسحابهم وقعوا في كمين، وأبوا أن يسلموا أسلحتهم، وقاتلوا قتالاً مريراً حتى فنوا عن بكرة أبيهم، وامتلأت أرض الوادي بجثثهم.
المشهد العام أنه تألفت عصابات في أطراف دمشق لملاحقة فلول القوات التركية والألمانية، وسلب أسلحتهم وأمتعتهم وأموالهم. وقد خاضت هذه العصابات معارك مع شراذم الجيش التركي المنسحبة، أفنوا فيها العديد منهم، وغنموا الكثير من الذهب والفضة والحلي والمجوهرات.
انسحبت القوات التركية من حمص في الخامس عشر من تشرين الأول 1918. ووصلت إلى حماة، واستقر مصطفى كمال في دار الحكومة فيها. كان القطار يمر بمحطة حماة ويحمل الجنود والركاب في طريقه إلى حلب، والمئات بل الآلاف من الجنود وأسر الضباط والموظفين الأتراك يحتلون سطح الشاحنات والمركبات لأنهم لم يجدوا مكاناً في داخلها.
يذكر منير الريس في كتابه الثورة السورية الكبرى، الصادر عام 1969، أن منظر المنسحبين كان يثير الشفقة، ويؤثر في نفوس الحمويين المحافظين المتدينين، فترى الوجوم في وجوههم، وبحزن دفين، وهم يرون هزيمة دولة مسلمة عاشت مع العرب أربعمائة سنة باسم الدين، واعتبرتهم في البدء رعاياها، لا فرق بينهم وبين سائر الأقوام التي تتألف منهم الدولة، حتى جاء غلاة القومية التركية من حزب الاتحاد والترقي.
ويوثق الريس لحظة انفردت بها حماة دوناً عن غيرها، وهي انضباط المدينة تحت أوامر زعمائها الاجتماعيين، وعدم مهاجمة القوات العثمانية. فيقول: «لقد أبى الحمويون أن يثأروا من المنهزمين أبناء دينهم، على الرغم مما فعلوا، وقتلوا، وأفقروا، وأجاعوا، وسخّروا وخربوا في البلاد العربية، لذلك لم يقع أثناء انسحاب الأتراك في حماة أي حادث يسيء إليهم سوى حادث واحد، وقع خلال الأيام الأخيرة من الانسحاب في المحطة».
مكث مصطفى كمال ثلاث ليال في دار متصرفية حماة، وفي صباح اليوم الثالث، السابع عشر من تشرين الأول، أفاق الأهالي على بيان أذاعه مصطفى كمال قبل رحيله يشكر فيه أهالي حماة على هدوئهم، وعواطفهم النبيلة التي أظهروها خلال انسحاب القوات التركية من مدينتهم، وودّعهم بكلمات مؤثرة.
بعد مغادرة مصطفى كمال حماة، وبعد ساعتين، قامت سرية فرسان من جيش الصاعقة، وكانت آخر سرية عسكرية تغادر المدينة، بنسف جسر الظاهرية، وهو جسر حديدي على العاصي يمر عليه القطار. كما نسفت قبله جسراً للقطار بين حمص وحماة في قرية “حر بنفسه”.
أثناء إقامة مصطفى كمال في حماة، أمر بأن يُفتح مستودع الحبوب الخاص بالجيش، وهو على مقربة من المحطة، لعشائر البدو، ليأخذوا منه ما يشاؤون من الحبوب وينقلونها إلى منازلهم. في تلك الأثناء، كان الأهالي يراقبون ذلك دون تحريك ساكن.
يرجح منير الريس أن يكون الأتراك قد اشتروا الهدوء أثناء الانسحاب بما سلبته الدولة من الشعب، بينما كان هؤلاء الأعراب يفرغون مستودع الحبوب، فاجأتهم طائرتان إنكليزيتان، وشاهدتا الزحام والحركة الكبيرة في الميدان بجانب المحطة، والمحطة في حد ذاتها هدف للطائرات البريطانية، فأمطرتا الأعراب بقنابلها.
وذكر منير الريس حادثة بيع مستودعات الجيش في حماة عبر الرائد (قولا غاسي) رئيس شعبة التجنيد في حماة، والذي كان مسؤولاً عن مستودعات الجيش في حماة في شهر أيلول عام 1918.
بعد حماة، وصلت القوات التركية المنسحبة إلى المعرة، والتي انسحبت منها أيضاً في التاسع عشر من تشرين الأول، وتابعت طريقها صوب حلب. لم تكن هذه القوات تستطيع التنفس من شدة التنقل الجماعي، مرحلة وراء أخرى، مدينة تلو أخرى.
تجمعت في حلب القوات التركية، وكذلك الضباط الألمان والأتراك الكبار، وعلى رأسهم فون ساندرز القائد العام، ونزل الضباط في فندق بارون، الذي أصبح مقراً للقيادة. في تلك الأثناء، أبلغ المارشال فون ساندرز الحكومة التركية استقالته، فكلفت الحكومة مصطفى كمال بالقيادة، وغادر ساندرز والضباط الألمان حلب إلى تركيا.
وصل مصطفى كمال إلى حلب في 5 تشرين الأول. ومن هناك، كتب رسالته الغاضبة في نهاية الحرب إلى إسطنبول: «كان يمكن أن يتم الانسحاب ببعض التنظيم لو لم يكن أحمق مثل أنور باشا مديراً عاماً للعمليات».
استفاد مصطفى كمال من الأموال الذهبية التي أرسلتها الحكومة التركية مع صبحي بك، كي يوزعها الضابط جمال مرسينلي على العشائر، لكن هذا الأخير لم يتمكن من استلامها، لأنه كان عائداً من الجبهة، فأعطاها صبحي في حلب إلى مصطفى كمال، حيث أعطى جنده رواتب ثلاثة أشهر، وأشبعهم بدلاً من إعطائها للعشائر، بينما يذكر مصطفى كمال في مذكراته أنه وزّع أيضاً المال على الأهالي والبدو في حلب، ووعدهم بالسلاح.
بهذا، تهيأت الفرصة له لترميم جيشه، إلا أنه قبل دخول القوات البريطانية – العربية، حدثت في حلب فوضى واضطراب، وهجم بعض البدو من عنزة، وجرى قتال في الشوارع، وهوجم مصطفى كمال نفسه وهو في السيارة، كما هوجمت المستودعات والمستشفيات ودور الحكومة، ونهبوا كل ما وصلت إليه أيديهم، لأن هذه المؤسسات لم تكن عليها حراسة. خاص قتالاً في الشوارع شخصياً وسط احتلال الأهالي المباني العامة.
حاول إنشاء خط دفاعي شمال حلب قرب قرية المسلمية، وحشد فيه كل ما وصل من القوات التركية المنسحبة. بلغت قواته نحو 5500 رجل. وصمد في معركة صغيرة، لكن بعد تكاثر العرب والبدو عليه، اضطر إلى التخلي عن حلب واتجه نحو الشمال، حيث أقام خطه الدفاعي الأخير في منطقة عفرين عند محطة قطمة.
استولى البدو على السجن في حلب، وأطلقوا سراح السجناء، وهرب عدد من الضباط العرب من الجيش، وانضموا إلى القوات العربية، ومن ثم دخل الجيش البريطاني والعربي حلب في 26 تشرين الأول عام 1918.
بعد انسحاب مصطفى كمال من حلب، طمع الإنجليز في تعقب مصطفى كمال وقواته، وتوجيه ضربة لهم قبل أن يصلوا إلى جبال طوروس ليتحصنوا فيها.
تضايق مصطفى كمال من هذه الملاحقة السريعة، وكان جيشه قد انتظم بعد حمص وحماة وحلب، فأعدّ هجوماً معاكساً باغت به الجيش البريطاني، ودحره حتى أبواب حلب، ثم تابع انسحابه إلى جبال طوروس، في الطريق ذاته الذي خرج منه كل غازٍ جاء من الشمال إلى سوريا، بدءاً من «هرقل»، الذي صيغت عنه حكاية قد تكون ملفقة، نُسب إليه فيها قوله: «وداعاً يا سوريا الجميلة، وداعاً لا لقاء بعده».

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد