القمع والملاحقة.. طريق الأوليغارشية الأردوغانية
د.طارق حمو
تواصل الحكومة التركية وضع اليد على البلديات التي فاز بها مرشحو حزب المساواة والديمقراطية للشعوب في الانتخابات المحلية نهاية شهر مارس/آذار 2024. فبعد قرار وضع اليد على بلديات ماردين وباتمان وخلفتي، صادرت السلطات التركية إرادة الجماهير في كل من ديرسم وبلور بتعيين أوصياء على البلديتين بعد إقالة كل من جودت كوناك وبرسن أورهان (حزب المساواة والديمقراطية للشعوب) في ديرسم، ومصطفى ساريغول (حزب الشعب الجمهوري) في بلور. وفي الأثناء، أصدرت محكمة تركية حكماً بالسجن تسعة أعوام مع الأشغال الشاقة على محمد صديق آكيش، الرئيس المشارك لبلدية جولميرك، بعد إقالته في 3 يونيو/حزيران الماضي وتعيين وصي مكانه.
وتأتي هذه الإجراءات بعد أسابيع من حديث الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن «الحل السياسي» مع الكرد، وقبله شريكه دولت بهجلي، رئيس حزب الحركة القومية المتطرف، والذي دعا قائد الحركة الكردية عبد الله أوجلان إلى القدوم إلى البرلمان التركي والإعلان عن «إنهاء الإرهاب وتفكيك التنظيم»، وبالتالي الاستفادة من «حق الندم» لكي تتوطد «إخوة الألف عام بين الترك والكرد» ويزيد «التلاحم التاريخي» في تركيا، بحسب كلامه. وقدم العديد من المعلقين والصحافيين تحليلات حول «مرحلة جديدة» تمر بها تركيا، مستندين إلى التطورات الأخيرة في المنطقة المتمثلة بالحرب المستعرة بين إسرائيل وحركة حماس وحزب الله والضربات المتبادلة بين الدولة العبرية وإيران وحديث رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو عن «الشرق الأوسط الجديد»، والتفسيرات العديدة حول التغيير القادم لخرائط المنطقة والانزياحات المرتقبة للحدود الدولية.
قدّم حزب العمال الكردستاني على لسان كبار مسؤوليه (مصطفى قره سو، جميل باييك، ودوران كالكان) تحليلات موسّعة حول الدوافع والأسباب التي تقف وراء لجوء كل من بهجلي (وهو من هو في الذاكرة الجماعية وكذلك في الحسابات الكردية) وأردوغان إلى إطلاق مثل هذه الدعوة إلى «الحل السياسي»، مؤكدين أنّ مثل هذه التصريحات لا تعدو عن كونها «إجراءات» ضمن استراتيجية ثابتة أشمل عمرها مئة عام تقوم عليها الدولة التركية (حالياً: تحالف أردوغان/ بهجلي) في القضاء على الحركة الكردية وإضعافها سياسياً وعسكرياً. وبالتالي، إنجاح سياسة التتريك والصهر القومي المتبعة بحق الشعب الكردي. ودعا المسؤولون في حزب العمال الكردستاني الشعب الكردي إلى الثبات على نهج المقاومة والتمسك بممثليهم المنتخبين، من برلمانيين ورؤساء بلديات، ورفع وتيرة الاحتجاجات والمظاهرات والعصيان المدني عبر رفض الاعتراف بالأوصياء وتمتين التحالف مع القوى الديمقراطية التركية والنقابات المهنية والجمعيات الحقوقية وكل الفعاليات المناهضة للنهج الديكتاتوري الأوليغارشي الذي يسير عليه ويتمسك به أردوغان وشريكه بهجلي.
ويمكن تحديد القواسم المشتركة بين تصريحات مسؤولي حزب العمال الكردستاني وتتمثل في الدعوة لربط كل تصريح رسمي تركي بوجوب القيام بإجراءات حقيقية وخطوات ملموسة على الأرض، وعلى رأسها الموقف من القائد أوجلان عبر رفع حالة العزلة المفروضة عليه والسماح لأفراد عائلته ومحاميه بزيارته، وإيقاف سياسة التضييق والملاحقة بحق حزب المساواة والديمقراطية للشعوب ونوابه ورؤساء البلديات التي فاز بها، والكف عن قصف البنية التحتية في إقليم شمال وشرق سوريا، إلى جانب وقف دعم المجموعات المسلحة في المعارضة السورية التي تواصل جرائم التطهير العرقي والتهجير بحق المكون الكردي في عفرين ورأس العين وتل أبيض وتمضي في تخريب البيئة ومصادرة دور وبساتين المواطنين الكرد. دون ذلك، تبقى تصريحات قادة الدولة التركية كلاماً لا معنى له ودعوات استسلام لا سلام لا يجب الوثوق بها وكمين مميت لا ينبغي الوقوع فيه. تريد الحركة الكردية بناء جبهة ديمقراطية داخلية ضد تحالف أردوغان/بهجلي بحيث تنجح في إحباط خطط هذا التحالف لإشعال البلاد عبر توسيع حملات الحرب والقمع بحق الكرد. وكل ذلك، لجعل مجريات وواقع الحرب غطاء للبقاء في السلطة، ودائماً من خلال الاستعانة بمؤسسات الدولة العميقة من قضاء وأجهزة أمنية وجيش من أجل تمرير الأجندة التي تثبّت بقاء هذا التحالف وتجعل منه ضرورة قومية وحماية لتركيا من التقسيم والتشظي.
ولعل إقالة حكومة أردوغان لكل من رئيسي بلديتي إيسينيورت وبلور، التابعتين لحزب الشعب الجمهوري، توحي بوجود خطة كاملة الأركان لدى تحالف أردوغان/بهجلي تهدف، إلى جانب توسيع حملات الحرب والقمع ضد الكرد داخل وخارج تركيا، إلى التضييق على حزب الشعب الجمهوري المهدد الأكبر لسلطة التحالف الحاكم (حقق في الانتخابات البلدية في 2024 نسبة 37,77% مقابل 35,49 لحزب العدالة والتنمية الحاكم)، تفادياً للهزيمة في أي انتخابات قادمة رغم التراجع الفاضح في الشعبية جراء الفشل الكبير في إدارة الاقتصاد وتراجع النمو والتدني المستمر في مستوى معيشة المواطن. من يتابع اجراءت التضييق بحق حزب الشعب الجمهوري سيعي بأن أردوغان اختار طريق التصعيد في كل المناحي، وأن المرحلة القادمة في تركيا حتى عام 2028 تاريخ الانتخابات الرئاسية ستشهد حالة من عدم الاستقرار وكذلك حملات ملاحقة منسقة ومستمر لخصوم أردوغان ومنافسيه المحتملين على منصب الرئاسة، وفي مقدمتهم كل من منصور ياواش وأكرام إمام أوغلو، الشخصيتين البارزتين في حزب الشعب الجمهوري.
الواضح أن أردوغان اختار طريق القمع والملاحقة والمصادرة بحق خصومه، مستعيناً بمؤسسات الدولة التي نجح طيلة السنوات السابقة في اختراقها وتحويلها إلى أدوات قمع يرهب بها خصومه ومنافسيه. وهي مرحلة تشبه مرحلة ما بعد انتخابات يونيو/ حزيران 2015 عندما فقد أردوغان وحزبه الأغلبية البرلمانية لأول مرة منذ عام 2002 (حاز على نسبة 40,9%) فرفض الاعتراف بالنتائج ورتّب أعمالاً انتقامية وتفجيرات طالت مقار ومسيرات حزب الشعوب الديمقراطي وأشاع جواً من الرعب والإرهاب في ولايات كردستان، وصفها أحمد داود أوغلو لاحقاً بـ«دفاتر الإرهاب التي إن فتحت لن يستطيع أصحابها النظر في وجوه الناس»، مستميلاً القوميين والعنصريين، خاصة كتلة حزب الحركة القومية، ومحققاً نسبة تقترب من النصف في الانتخابات الجديدة التي أوعز بتنظيمها في نوفمبر/تشرين الثاني 2015.
إن سياسة تحالف حزب العدالة والتنمية والحركة القومية حيال الكرد اختصرها أكرم جانالب، الوصي المعين من قبل أردوغان لإدارة بلدية باتمان بعد إقالة كل من الرئيسين المشاركين كليستان سنوك ويشيل إييشك، عندما عمد فوراً إلى إزالة كل العبارات المكتوبة باللغة الكردية ووضع مكانها لافتة باللغة التركية كتب عليها «وطن واحد، علم واحد، وأمة واحدة». إنها ثابتة الإنكار والصهير القومي وشطب الوجود. وهي كذلك، في فهم آني لأجندات أردوغان، أسلوب/حجة يستعين بها في المزايدة على خصمه حزب الشعب الجمهوري وتخوينه من أجل الإجهاز عليه سياسياً وإزاحته من طريق منصب الرئاسة.