المتوجسون من عودة ترامب.. معسكر عالمي وأميركي

محمد سيد رصاص

بوجود دونالد ترامب لأربع سنوات في البيت الأبيض بين 2017 و2021، يمكن القول إنه كان من أكثر رؤساء الولايات المتحدة التزاماً بوعوده الانتخابية. فهو صرح في الحملة الانتخابية أن الاتفاق النووي مع ايران عام 2015 هو «أسوأ اتفاق موقّع في التاريخ» ليقوم بالانسحاب من هذا الاتفاق عام 2018. وتعهد كذلك بالانسحاب من «اتفاقية الشراكة عبر الباسفيك» للتجارة الحرة التي وقعتها إدارة باراك أوباما عام 2015، الأمر الذي نفّذه بعد تولّي منصبه الرئاسي بيومين. وفي فترته الرئاسية تلك، نفّذ وعوده الانتخابية تجاه مواضيع تقييد الهجرة وفرض حمائية جمركية عالية التعرفة على البضائع الصينية وغيرها، وضغط على أعضاء حلف الناتو من أجل زيادة إنفاقهم العسكري. وظل ترامب في حملاته الانتخابية عام 2016 و2020 على آرائه والتي كررها عام 2024 لمّا جاء عائداً للبيت الأبيض.
وضوح ترامب، الذي يستند لرؤية أيديولوجية فكرية – سياسية يحملها اليمين الجديد في الحزب الجمهوري الأميركي، يخلق معسكراً عالمياً يضم أميركيين من المتوجسين بفوز ترامب الجديد بالرئاسة. يبدأ هذا المعسكر من الصين التي يرى الرئيس الأميركي المنتخب أنها المتحدي الأكبر للزعامة الأميركية العالمية في الاقتصاد، وهو يخشى أن تكرّر بكين مع واشنطن التجربة الألمانية بين عامي 1871و1914 مع لندن حين تسبب النموّ الاقتصادي الألماني بصعود نزعة توسعية عسكرية في برلين، الأمر الذي ساهم في تفجير الحرب العالمية الأولى. ويريد ترامب وضع حد لهذا الخطر الصيني عبر حرب اقتصادية، مع إجراءات سياسية لإرضاء روسيا واحتواء كوريا الشمالية في سبيل ابعادهما عن الصينيين، وكذلك توثيق التحالف الأميركي مع الهند واليابان وأستراليا وكوريا الجنوبية وفيتنام لتطويق الصين. وتنطلق نظرته التجابهية مع إيران من كونها المدخل الجغرافي لبكين عبر مشروع «الحزام والطريق»، المطروح من الصين منذ عام 2013، إلى الشرق الأوسط عبر الممرّ الباكستاني وصولاً إلى أوروبا من خلال تركيا. وهذا الطريق يختلف عن الطريق الكازاخستاني- الروسي للصين إلى أوروبا الذي انقطع أوكرانياً منذ توترات 2014 التي أفقدت الكرملين رئيساً أوكرانياً موالياً. ويريد ترامب، عبر احتواء إيران من خلال نهج الضغط الأقصى وإرضاء السعودية وروسيا، جعل الصين في حالة حرمان من الطاقة. وهي في هذا الحرمان ترث هتلر وعسكريي اليابان في الثلاثينيات، حيث كانت نقطة الضعف عندهما عدم الاكتفاء الذاتي النفطي.
بالتأكيد، يتشارك الرئيس الصيني شي جين بينغ مع المرشد الإيراني في هذا التوجس من ترامب. وكلاهما عاشا سنوات أربع معه كانت مرّة وقاسية عليهما، إذ شنّت واشنطن حرباً تجارية قاسية على الصين ومارست الضغط الأقصى على إيران وخفّضت تصديرها للنفط من مليونين ونصف برميل باليوم إلى ثلاثمئة وخمسون ألف بين عامي 2018 و2020. كما فرضت عليها أكبر عقوبات اقتصادية مورست على بلد عبر التاريخ.
من المرجح أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان هو ثالث المتوجسين من ترامب. فتقاربات الرئيس الأميركي الجديد مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أوكرانيا ستترجم سورياً وستجعل موسكو في غير حاجة للحلف مع أنقرة في الموضوع السوري، وهو حلف بني منذ عام 2016 على خلفية التوترات والتباعدات الأميركية- التركية. وبالتأكيد، فإن الأتراك يتذكرون بأن تقاربات البيت الأبيض والكرملين في سوريا، سواء تقارب 2013-2014 أو تقارب 2015-2016، كانت على حساب أنقرة، وأن التوتر الأميركي– الروسي حصل سوريّاً بعد أن سمح الروس للأتراك بأخذ شريط جرابلس- الباب- إعزاز كنتيجة لزيارة أردوغان لموسكو في 9 أغسطس/آب 2016 والتي أتت بعد أقل من شهر من محاولة الانقلاب العسكرية التركية التي اتهمت أوساط عديدة قريبة من أردوغان الأميركيين بالضلوع فيها. ولم تتحرك محاولات التسوية للأزمة السورية سوى مرتين عندما حصلت تقاربات أوباما وبوتين. أول مرة جاءت بعد اتفاق 7 مايو/أيار 2013 بين جون كيري وسيرغي لافروف ومن ثم اتفاق الكيماوي السوري الذي أنتج القرار الدولي 2118 والذي دعي فيه إلى مؤتمر جنيف 2 لتطبيق بيان جنيف1، وهو ما فشل بسبب سقوط الرئيس الأوكراني الموالي للكرملين حينذاك في فبراير/شباط 2014 بفعل مظاهرات اتهم الروس الأميركيين بتحريكها. ومن ثم لمرة ثانية بعد موافقة أوباما على التدخل العسكري الروسي في سوريا في 30 سبتمبر/أيلول 2015 لمواجهة وكسر تمدد المعارضة السورية المسلّحة التي كانت مدعومة أساساً من أردوغان، ما أنتج القرار 2254 ومؤتمر جنيف3 الذي أفشله رياض حجاب بقرار من أنقرة في أبريل/نيسان 2016. الأرجح هنا أن التقارب الثالث في الملف السوري بين الروس والأميركيين سيكون على حساب الأتراك مثل سابقيه. ومن المحتمل أن الروس، بعد أن يديروا الظهر للأتراك، سيذيقون أردوغان من المرارة التي تجرعوها بفعل المسيّرات التي أرسلها للأوكرانيين في حربهم ضد الروس وتوسعه مع الأذربيجانيين في منطقة القفقاس على حساب حلفاء الكرملين الأرمن.
أما المتوجس الرابع من ترامب، فهو الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي، بفعل إشارات يمكن القول إنها واضحة أطلقها مؤخراً بعض معاوني الرئيس الأميركي المنتخب عن أن المطلوب في أوكرانيا هو «السلام وليس الأرض» في إشارة من واشنطن- ترامب باستعداد للقبول والاعتراف بضم أراضٍ أوكرانية لروسيا تببلغ بمجموعها خمس مساحة جمهورية أوكرانيا عند ولادتها عام 1991.
المتوجّس الخامس هو دول الاتحاد الأوروبي التي تخشى أن إجراءات ترامب الاقتصادية الحمائية الجمركية ضد السلع المصدّرة للولايات المتحدة لن تشمل تلك الصينية فقط بل ستشمل الدول الحليفة أيضاً. كما أن الدول الأوروبية لا ترغب في زيادة إنفاقها العسكري في منظومة حلف الناتو، وهي التي تعاني اقتصادياً من آثار الحرب الأوكرانية.
يبقى المتوجس السادس، وهو الأقوى، تجاه ترامب، أي المؤسسة العسكرية- الاستخباراتية الأميركية التي لا توافق على سياسة إرضاء روسيا. وهي التي اصطفت، منذ بدء الحرب الأوكرانية، مع الرئيس جو بايدن في سياسة استخدام هذه الحرب لانهاك روسيا وجعل بوتين «يفشل»، على ما قاله رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون بعد أيام من بدء تلك الحرب بخطاب في مجلس العموم. كما أن العسكريون ومجمع الاستخبارات في واشنطن كانوا على توافق مع أوباما وبايدن في سياسة التقارب مع إيران، وهم لا يوافقون على رؤية ترامب تجاه تقليص الوجود العسكري الأميركي في الخارج، وبالذات في الشرق الأوسط. وعلى الأرجح، أن ترامب سيوافق، بحكم هاجسه الصيني الأكبر، أو سيرغم على الموافقة على رؤية قدمها الجنرال مايكل كوريلا، قائد القيادة المركزية الأميركية الوسطى، أمام الكونغرس في مارس/آذار 2023 تقول إن «اثنان وسبعون من نفط الصين مستورد، وهذا يجعلهم غير حصينين و98% منه يأتي عبر سفن». ويأتي نصف هذا النفط المستورد من الشرق الأوسط، ومنه في سبتمبر/أيلول 2024، مليون ونصف برميل نفط إيراني يصدّر يومياً للصين بعد أن عاد الإنتاج النفطي الإيراني في عهد بايدن إلى مستوى مليون وثمانمئة وخمسون ألف برميل يومياً في عام 2024، بحسب «إيران انترناشيونال» في 8 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري. وهذا ما يجعل مضيق هرمز ومضيق مالاقا أساسيين لواشنطن ضد بكين، ويجعل منطقة الشرق الأوسط أداة كبرى بالنسبة للعسكريين الأميركيين من أجل الضغط على الصين. وفي تلك المداخلة، قال الجنرال كوريلا إن «منطقة القيادة المركزية ذات أهمية مركزية للتنافس مع الصين وروسيا. نحن كنا هناك ونحن هناك اليوم وسنبقى هناك بالمستقبل».
كتكثيف لتقديم رؤية أوسع ولاستكمال الصورة، يمكن تسمية من يقف في الجانب الآخر، أي المرتاحون من عودة ترامب، وهم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو، ومن ثم ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان وأيضاً رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، وصولاً إلى بوتين.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد