«أستانا 22».. حلقة مفرغة

شورش درويش

اختتمت في العاصمة الكازاخستانية أعمال الجولة ـ22 من اجتماعات أستانا بين الأطراف الضامنة لوقف إطلاق النار في سوريا (روسيا وإيران وتركيا)، وبحضور وفدي «الحكومة السورية» و«المعارضة»، وبمشاركة مراقبين من الأردن والعراق ولبنان والأمم المتحدة. وكانت الخارجية الكازاخية أعلنت في 21 يونيو/حزيران 2023 أن هذا الاجتماع هو الجولة الأخيرة بصيغة أستانا، لكنها أوضحت لاحقاً استعدادها استئناف المفاوضات بشأن سوريا كبادرة حسن نية.
ولئن كان الاجتماعات الدورية التي بدأت منذ عام 2017 مخصصة حول الأوضاع في سوريا وخفض التصعيد وتثبيت وقف إطلاق النار، فإن البيان الختامي الذي نشرته وزارة الخارجية الكازاخية في 12 تشرين الثاني/نوفمبر توسّع في إدانته للاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على الأراضي السورية ليشمل الهجوم الإسرائيلي على غزة ولبنان والضفة الغربية.
ركّز البيان الختامي في أكثر من موضع على الأوضاع في شمال وشرق سوريا بصورة أوسع مما كانت عليه خلال النُسخ السابقة، الأمر الذي يشير إلى أن المزاعم التركية بخصوص الإدارة الذاتية بدأت تلقى اهتماماً وتأييداً من بقية الأطراف المشاركة، بالتزامن مع فوز دونالد ترامب برئاسة الولايات المتحدة. إذ يمكن ربط هذا التصعيد تجاه الإدارة الذاتية برغبة روسيا وإيران والنظام السوري في تأييد وتبنّي المزاعم التركية بوصفها وسيلة مُثلى للضغط على واشنطن لفضّ تحالفها مع قوات سوريا الديمقراطية.

تركيا تُملي أجندتها عبر استهداف الإدارة الذاتية

حضرت في البيان الختامي العديد من العبارات والنقاط المنسوخة عن الاجتماعات السابقة، إذ أكّدت الدول الضامنة على العبارات الرتيبة من قبيل «الالتزام الثابت بسيادة واستقلال ووحدة وسلامة سوريا» و«تكثيف الجهود لضمان الاستقرار». كما كرّر البيان مسألة تبادل المعتقلين وسواها من مسائل يفترض أنها ذات طابع تقني تخصّ الدول الضامنة بخاصة مسألة «العودة الآمنة والكريمة والطوعية للاجئين والنازحين إلى أماكن إقامتهم في سوريا»، ذلك أن هذه المسألة تحديداً، والتي ما فتئت تشغل جزءاً من مناقشات أطراف أستانا، هي من صنع هذه الدول الضامنة إلى جانب النظام السوري، وهم المسؤولون تالياً عن العودة الآمنة للاجئين والنازحين، ما يجعل من إدراج مثل هذا المطلب وسواه أمراً يزيد الحيرة حول طبيعة هذه الاجتماعات وجدّيتها وانعكاس مضامينها على أرض الواقع.
ومع اختلاف جميع الدول الضامنة على تحديد المقصود بالإرهاب، الذي يتكرّر في بيانات أستانا السابقة، فإن البيان الأخير لم يشذ عن هذه القاعدة، إذ دعا إلى «مواصلة العمل معاً لمكافحة الإرهاب»، ما يُبقي النص موارباً كما درجت عليه عادة الاجتماعات السابقة. كذلك، دعت الأطراف المشاركة إلى «الوقوف ضد الأجندات الانفصالية التي تهدف إلى تقويض سيادة سوريا وسلامة أراضيها وتهديد الأمن القومي للدول المجاورة». ويمكن من خلال هذه الفقرة العثور على أصابع تركيا وتمريرها لهذه المسألة، والذي قد تعتبره أنقرة أفضل ما يمكن تحقيقه في أستانا.
كرّر البيان كذلك ما جاء في الاجتماعات السابقة فيما خص الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا. ففي النسخة 20، جرى الحديث عن «رفض جميع المحاولات الهادفة إلى خلق واقع جديد على الأرض، بما في ذلك مبادرات الحكم الذاتي غير الشرعية تحت ذريعة مكافحة الإرهاب»، فيما كررت النسخة 21 ذات الكلام حرفياً. أما النسخة الأخيرة، فشهدت تصعيداً غير مسبوق تجاه الإدارة الذاتية والدخول في تفصيلات فيما يخص مسائل «النفط والمناهج التعليمية والصدامات العشائرية». وفي حين كانت المزاعم الواردة في البيان الختامي تسعى لوضع تجربة شمال شرق سوريا، بوصفها تجربة تخصّ السوريين، تحت مجهر الدول الضامن، فإن المجتمعين غضّوا الطرف عن الانتهاكات في المناطق التي احتلّتها تركيا. كما لم تجرِ الإشارة لحالات القمع والانتهاكات ضمن مناطق سيطرة الحكومة السورية.
يمكن عنونة النسخة الأخيرة من أستانا بأنها اجتماع الأطراف المطالِبة بانسحاب القوات الأميركية والساعية لتقويض سلطة الإدارة الذاتية. وقد يكون فوز دونالد ترامب أعطى دفعة قوية لأطراف مثل تركيا وروسيا لتصعيد المواقف تجاه الإدارة الذاتية، إذ كان مبعوث الرئيس الروسي إلى سوريا ألكسندر لافرينتيف، الذي قاد الوفد الروسي، نوّه إلى أن أستانا 22 تأتي في ظل «التغييرات المحتملة في السياسة الأميركية تجاه سوريا في عهد الرئيس المنتخب دونالد ترامب»، وأن ذلك يشكّل «عنصراً مهماً للنقاش بين الأطراف الضامنة لوقف إطلاق النار في سوريا».
وترى الدول الضامنة، بالإضافة للنظام والمعارضة الحليفة لتركيا، أن وصول ترامب يمثّل مناسبة جيدة للتصعيد الذي قد يُحيي ملف الانسحاب. ولأجل ذلك، كرّر البيان إشاراته لدور الولايات المتحدة في شمال وشرق سوريا، وإن لم يذكرها بالاسم، إذ أدان البيان «أية جهود تبذلها أي دولة لتغذية التطلعات الإرهابية والانفصالية لمجموعات عرقية أو دينية (…) وكذلك تزويدهم بالأسلحة». ومن المعلوم أن أطراف أستانا (روسيا وإيران) تناصب واشنطن العداء داخل وخارج سوريا بشكل صريح، فيما يقتصر العداء التركي للولايات المتحدة داخل سوريا. ولأجل ذلك، انخرطت تركيا في لعبة مواصلة الضغط على الولايات المتحدة لتنفيذ انسحابها من سوريا وتفكيك تحالفها مع قوات سوريا الديمقراطية، حتى وإن اقتضى الأمر التحالف مع أعداء الولايات المتحدة، على نحو ما جرى عام 2015 حين حصل التقارب الروسي التركي بخلاف رغبات واشنطن.
ولئن كانت الحاجة الفعلية لاجتماعات الدول الضامنة بصيغة أستانا مخصصة لمسألة خفض التصعيد، لاسيما في مناطق تماس القوات الروسية –التركية ومن خلفهما قوات النظام السوري والمليشيات الإيرانية ومسلّحو المعارضة، فإن المجتمعين أعربوا عن «القلق الشديد إزاء وجود أنشطة للجماعات الإرهابية التي تشكل تهديداً للمدنيين داخل وخارج منطقة خفض التصعيد في إدلب». لم يكن نصيب مناطق خفض التصعيد الفعلية في البيان الختامي سوى هذه العبارة الضبابية التي لا تشير بصورة مباشرة للتنظيمات الإسلامية المتشدّدة في إدلب. وقد يكون مردّ ذلك وجود وشائج وعلاقات تجمع هذه التنظيمات بتركيا، ما يحول دون ذكرها بالاسم.
يشير انصراف الدول الضامنة عن التركيز على أكثر مناطق سوريا ازدحاماً بالمشكلات والانتهاكات في شمال غرب سوريا (المناطق المحتلة تركيّاً وإدلب) وتسليط الضوء على شمال شرق سوريا والتواجد الأميركي فيها إلى محددات العلاقة الجديدة بين هذه الدول.

محاولة لتفكيك عقدة التقارب التركي- السوري

ومع الدعوات التركية المتكرّرة إلى إعادة العلاقات السورية، أكّد البيان أهمية «استئناف الاتصالات بين تركيا وسوريا على أساس الالتزام الصارم بمبادئ احترام وحدة وسلامة أراضي وسيادة البلدين». لكن قبل بدء أعمال أستانا بعدة أيام، أشار وزير الخارجية التركي هاكان فيدان إلى توقّف مسار التقارب مع دمشق بعد يوم على تصريحات وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن عدداً من الجنود الروس قُتلوا في أوكرانيا بأسلحة تركية، وهو ما عنى أن مسار التقارب مبنيّ على طبيعة وإيقاع العلاقة الروسية التركية وليس على أساس مصالح دمشق، وهو الأمر الذي تدركه دمشق التي تضع شروطاً واضحة لبدء مسار التقارب والتطبيع.
لكن عملياً، نجحت تركيا في انتزاع بعض الإقرارات من الدول الضامنة، لاسيما النظام السوري، إذ وجّهت أنقرة البيان الختامي باتجاه محاربة الإدارة الذاتية وتثبيت مزاعمها حول بعض المسائل التي كانت تراها أساس التعاون المستقبلي مع دمشق ضمن عملية التقارب والتطبيع التي سعت إليها، بينما لم تنجح دمشق في تثبيت مطالبها الخاصّة بوجوب انسحاب القوات التركية بوصفها قوّة احتلال للشمال السوري.
يبدو أن مسار التقارب بات مرهوناً بسياسة ترامب في الشرق الأوسط، إذ تخمّن تركيا وروسيا أن بإمكانهما حمل الرئيس الجديد على التخلّي عن سوريا وتركها لهما، ما سيسهّل عليهما تقديم عروض جديدة لدمشق. غير أن إيقاع الأحداث في المنطقة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 قد يفرض سياسات أميركية لا تنسجم مع تطلّعات أنقرة وموسكو، وكذلك دمشق.
وبالعودة إلى المواقف المؤيّدة للتطبيع، أيّدت إيران المنحى التقاربي الذي تسعى إليه أنقرة، ربّما بجدية أكبر هذه المرّة، إذ أكّد كبير مستشاري وزير الخارجية الإيراني للشؤون السياسية الخاصة علي أصغر خاجي من أستانا على «التبعات الإيجابية لهذه القضية المهمة (تطبيع العلاقات التركي السوري) في ظل الوضع الحساس الحالي للمنطقة»، وهو ما يعني رغبة الدول الضامنة تحويل التقارب إلى صمغ العلاقة الجديدة بين مجموعة أستانا في سياق مواجهة تل أبيب وواشنطن. إلّا أن هذه المسألة قد تدفع بإدارة ترامب إلى إعادة التفكير بما تطرحه أنقرة وموسكو فيما يخصّ سوريا، خاصة مسألة الانسحاب.
في النتيجة، لم تقدّم نسخة أستانا الأخيرة تصوّرات عملية لحل الأزمة السورية، وتحديداً تلك المتعلّقة بإنجاح مسارات خفض التصعيد بشكل دائم وحل مشكلة اللاجئين والمفقودين وتسريع خطى الحلّ السياسيّ. وعليه، يمكن القول إن جلسات أستانا تحوّلت لمناسبة دوريّة تمرّر فيها كل دولة أجندتها الخاصة في البيانات الختامية. وقد لا تختلف النسخة 23 التي اتفقت الدول الضامنة على إجرائها في النصف الأول من عام 2025 عن بقية النسخ، مع تركيز أعلى، ربّما، على مسألتي الانسحاب الأميركي وتكرار المزاعم والاتهامات الموجّهة للإدارة الذاتية.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد